تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٨ ديسمبر ٢٠٢٠
حوار هذا الشهر في هذه السلسلة حول كيفية تعامل التقاليد الدينية المتنوعة مع الموت مع لور هاليفي، من مؤرخي الإسلام، وأستاذ التاريخ والقانون في جامعة فاندربيلت. يدرس في أعماله العلاقة المتبادلة بين القوانين الدينية والممارسات الاجتماعية في العصور الوسطى وفي العصر الحديث. تشمل مؤلفاته “قبر محمد: طقوس الموت وصنع المجتمع الإسلامي” و “الأمور الحديثة تحت التجربة: الإصلاح العالمي والمادي للإسلام في عهد رضا، 1865-1935”. أُجريت هذه المقابلة عن طريق البريد الإلكتروني ثم جرى تحريرها. (جورج يانسي)
وجد العديد من المسلمين الملتزمين بدينهم في العديد من الدول أن مراسم العزاء لديهم قد اختلّت
جورج يانسي: هل لك، قبل أن ندخل في صلب نقاشنا عن الموت في الدين الإسلامي، أن تشرح لنا بعض الفوارق بين الإسلام والديانتين الإبراهيميتين الأخريين، المسيحية واليهودية؟
لور هاليفي: يُعنى الإسلام عناية قصوى بالعدالة الإلهية وخلاص الإنسان وآخر الزمان، كما هو الحال في اليهودية والمسيحية. يتمحور الإسلام حول الإيمان بأن لا إله إلا الله الأزلي خالق الكون والقوة المطلقة وراء تاريخ الإنسان منذ أول خلقه إلى اليوم الآخر. وقد أوحى الله إلى سلسلة طويلة من الأنبياء بدءًا من آدم وانتهاءً بمحمد. وجُمِع ما أوحي به إلى محمد آخر الأنبياء في القرآن الذي جاء مصدِّقا لما في التوراة والإنجيل. لذا لا يُسْتَغرب وجود العديد من أوجه الشبه بين كتب هذه الديانات الثلاث.
لكن بين هذه الديانات اختلافات عجيبة. فإبراهيم أبو إسماعيل يحظى بالتعظيم باعتباره أبًا ونبيًّا ومهاجرًا في الإسلام والمسيحية واليهودية، إلا أن القرآن وحده هو الذي يذكر الصحف التي نزلت على إبراهيم والتي جاء فيها ذكر ثواب الآخرة. كما لا يُذكر إلا في القرآن أن إبراهيم هاجر إلى مكة التي رفع فيها قواعد بيت الله.
أما عيسى فيسمّيه القرآن ابن مريم ويعظّمه ويلقّبه بالمسيح لكنه ينكر ألوهيته إنكارًا قاطعًا ويشكّك في الاعتقاد بموته على الصليب. تشير إحدى قصص الإنجيل إلى أن عيسى سيعود إلى الأرض ليقضي بين الناس. وينسب القرآن إليه دورًا مهمًا في يوم الحساب، بيد أنه يُحدِّد أن عيسى سيشهد ضد أصحاب الكتب المقدسة الذين يسميهم القرآن بأهل الكتاب.
ربما تم تداول بعض هذه العقائد والقصص البديلة بين المجتمعات اليهودية أو المسيحية في أواخر العصور القديمة، لكن لا يمكن العثور عليها في كتب اليهود ولا في العهد الجديد. وهذه الاختلافات مهمة إن كان الخلاص يعتمد على الإيمان بالكتاب الصحيح.
يانسي: أفترض أن الإسلام يقول إننا جميعا فانون وميتون لا محالة. كيف يتصور الإسلام حتمية الموت؟
هاليفي: يؤكد لنا القرآن أن كل موت حتى موت الفجاءة يُردُّ إلى مشيئة الله وحكمته التي لا يعلمها إلا هو. فقد قدَّر اللهُ المصائب كلها وكتبها في كتاب عنده قبل وقوعها، وعليه فقد حدد الله مسبقًا أعمار كل المخلوقات. إن مسألة الفناء هذه لا ترتبط إلا بالآجال التي نعرفها هنا على الأرض. فإذا كان المسلمون يؤمنون بخلود الروح وبعث الجسد، فإنهم بذلك يتصورون الموت على أنه انتقال إلى نمطٍ من الوجود مختلف توجد به بقايا من النفس إلى أجلٍ غير مسمى، أو بقدر ما يبقي الله على وجود الجنة والنار.
يانسي: ماذا يعلمنا الإسلام عما يحدث لنا في اللحظة التي نموت فيها؟ أطرح هذا السؤال لأني سمعت أن الروح يسألها ملكان.
هاليفي: تحدث زيارة الملائكة هذه بعد مراسم الدفن مباشرةً، والتي تتم بأسرع ما يمكن بعد أن يلفظ الميت أنفاسه الأخيرة. يزور المتوفى ملكان مرعبان اسمهما منكر ونكير. في كتابي “قبر محمد” ذكرت وصفهما بأنهما “أسودان مشربان بزرقة، متوحشان، لهما شعر طويل متجعد، وعيون ملتهبة، وأضراس كبيرة مرعبة، وعصي صلبة متوهجة”. وذكرت أن عليهم إجراء “تحقيق” حتى يمتحن المتوفى في إيمانه.
يانسي: ماذا يقول لنا الإسلام عن الآخرة؟ أين تذهب أرواحنا مثلًا؟ هل هناك مكان للسلام الأبدي أو اللعنة الأبدية؟
هاليفي: تُحدِّد وجهةً الروح بين الموت والبعث أمورٌ عدة. فانفصال الروح عن الجسد انفصال مؤقت، لأن الميت في الفكر الإسلامي كالحي يحتاج إلى الجسد والروح على حدٍ سواء حتى يكتمل وجوده. ثمة نوع من الوجود المادي للبشر في الحياة الآخرة، فإما أن يستمتعوا بهذا الوجود أو يعانوا منه؛ وسيمرون بالعديد من التجارب الحسية.
فالروح قبل البعث إما أن تُحبَس داخل القبر أو تذهب إلى الجنة أو الجحيم. تأخذ نفس المسلم جولة كونية سريعة في الفترة ما بين الوفاة والدفن، ثم تعود لجسدها داخل القبر، حيث يجب أن تبقى حتى يُنفَخ في الصور. ويستطيع الميت في هذا المكان، أن يسمع مَن يزور قبره من الأحياء وأن يشعر بألمهم. وقد يحوّل الله القبر إلى روضة أو منزل يمكن احتماله لقلة يستحقون ذلك. أما من عملوا السيئات في حياتهم فيخضعون لعقوبة متقطعة تطهرهم من الإثم تعرف باسم “عذاب القبر”.
وخيرٌ من هؤلاء الأنبياءُ والشهداءُ، وشرٌّ منهم المسلمون الذين أجرموا في حق الله أو الكفار الذين لا يُغفر لهم. فالشهداء مثلاً يدخلون جنة الفردوس بعد الموت مباشرةً. لكنهم لا يدخلونها بأجسادهم المُشوَّهة أو المُلَّطخة بالدماء، بل يأخذون هيئة جديدة، كأن يكونوا على هيئة طيور بيضاء أو خضراء تأكل ما تشتهي من الفاكهة.
ثم يجمع الله الجن والإنس والبهائم ليوم الحساب في مكانٍ قريب من القدس، حيث تقف جميع المخلوقات بين يدي الله عراة غرلا.
يشهد على الناس في هذه المحاكمة الأنبياء وتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم أعينهم وألسنتهم، ثم يقضي الله إلى أين يرسلهم. فيُساق الكفار إلى أبواب جهنم ليُخلَّدوا فيها أو يبقوا إلى ما شاء الله لهم في هذا المكان بين سجن العالم السفلي والطبقات العليا من الأرض. أما أولئك الذين قد يُكتَب لهم الخلاص فيلزم أن يعبروا على صراطٍ ضيقٍ زلق. وإذا لم يسقطوا في حفرة من حفر النار فإنهم يصعدون إلى الجنة لينعموا تحت عرش الرحمن بمتعٍ حسيةٍ وروحيةٍ لا تنتهي.
يانسي: ما الحياة التي يأمرنا الإسلام بأن نحياها لنكون مع الله بعد أن نموت؟
هاليفي: يعتمد الجواب على من تطلب منه أن يتكلم باسم الإسلام وفي أي سياق يتكلم.
قد لا يزيدك اللاهوتي إلا جهلًا ويقول لك إن الهدف ليس اندماج النفس البشرية مع الكائن الإلهي وإنما النظر إلى الله.
وقد يقول لك المتصوف أن أهم ما في الأمر تأديب الروح والبدن حتى تجرب ولو للحظةٍ عابرةٍ الحضرةَ الإلهية؛ ومن الأمور التي قد يعلّمك إياها المتصوف أن تطلب مقام الفناء أو غياب الذات حتى تفقد وعيك الكامل بذاتك وبكل الموجودات المحسوسة من حولك لتتأمل وجه الله تأمل المحب.
وقد يقول لك إمام المسجد إنك بعد إعلان إيمانك بوحدانية الله وتعظيم رسوله محمد، عليك أن تلتزم بأركان الإسلام الخمسة وتتوب عن خطاياك السالفة. اقضِ دينك وأكثر من الصدقات وصلّ غير الفرض فهذا أرجى لك بعد الموت.
وقد يعدك جهادي في غرفة من غرف الدردشة على شبكة الإنترنت أنك لو طلبت المغفرة ومتَّ شهيدًا، فإنك على الأقل ستعتق نفسك من عذاب القبر، مهما فعلت سابقًا في حياتك قبل أن تنذر نفسك لقضيتك.
أما أنا فلا أقدم نصائح دينية، فأنا مؤرخ. لقد تصور المسلمون أكثر من طريقٍ للخلاص، و تغيرت بمرور الوقت مُثُلهم التي يمكن أن نعتبرها إسلامية. لا تنس مثلاً أن الزهاد في العصور القديمة المتأخرة أو في صدر الإسلام كانوا يصومون الأيام الطوال ويضبطون غرائز أجسادهم ويتركون الجماع طلبًا للخلاص. فقد كان هذا السبيل مقنعًا في ذلك الوقت. ولم يبق منه الآن إلا الذكريات.
يانسي: إذا لم يكن المرء مسلمًا، فماذا بعد؟ هل هناك لعدم الإيمان عواقب بعد الموت؟
هاليفي: من الصعب في الدين الإسلامي تبرير الاعتقاد باحتمال خلاص من هم على خلقٍ طيبٍ من الملحدين أو المشركين.
لكن الآراء حول سؤالك هذا متنوعة بين المسلمين المعاصرين الذين يؤمنون بالجنة والنار. يقول الموحدون منهم الذين يتبنون فهمًا ضيقًا للخلاص إن غير المسلم الذي اختار ألا يعتنق الإسلام بعد أن بلغته رسالة محمد مصيره النار. ويُستثنى من ذلك أبناء الكفار الذين يموتون قبل بلوغهم سن التكليف، وأولئك الذين يعيشون في مكان أو زمان لم يبلغهم فيه الدين الحق الوحيد. وسيُحاسب الله هؤلاء المساكين المحرومين، في يوم القيامة، وقد يدخلهم الجنة.
ماذا عن الأم تيريزا والدالاي لاما؟ هل سيواجه القديسون والقادة الروحيون نهاية أليمة؟ هذا مجرد تخمين لكنني أتصور لو استطلعت معتقدات المسلمين فإن نسبة كبيرة منهم سيصرحون على الفور أن لا أحد يستطيع سبر أغوار رحمة الله وأن الأفراد الصالحين يجب إنقاذهم لما لهم من أعمالٍ صالحة.
وقد استلهم قلة من المفكرين المسلمين البارزين التواقين إلى نهج أكثر شمولية وتعددية للدين، في أواخر القرن العشرين، من إحدى آيات القرآن الرأي القائل بأن اليهود والنصارى الذين يؤمنون بالله إلهًا واحدًا ويؤمنون باليوم الآخر ويعملون الصالحات سيدخلون الجنة.
يانسي: هل يعلّم الإسلام أتباعه عدم الخوف من الموت؟
هاليفي: لست مقتنعًا بأن الإسلام بالفعل يعلم أتباعه ذلك، أو أن من أهدافه الأساسية أن يعلم المؤمنين به كيف يتعاملون مع هذا الخوف. قد يُقال إن العديد من السرديات الدينية عن الموت والحياة الآخرة يُفترَض أنها تثير الرعب في قلوبنا وبذلك تقنعنا بالإيمان بالشيء الصحيح أو فعله. فحتى لو تهور المؤمن وظن أن الله سيهبه الخلاص بالتأكيد، فلا يزال مضطرًا لمواجهة منكر ونكير ومقاساة ظلمة القبر وديدانه والوقوف بين يدي الله يوم القيامة وعبور الصراط، ذلك الجسر الذي يقع في أعلى الجحيم. كل هذا يبدو لي مرعبًا.
أعلم بالتأكيد أن بعض القصص الصوفية قد توحي بخلاف ذلك، مثل جلال الدين الرومي الذي تخيل أن يموت جمادًا أو نباتًا أو حيوانًا لتُنسَخ روحه فينتقل إلى حياةٍ أفضل، وبعض شيوخ الصوفية تخيلوا الموت حتى تبَصَّروه حتى روي عنهم أنهم ذهب عنهم الخوف من الموت.
ما تعلمه السرديات الإسلامية للمؤمنين بها هو عدم الاعتراض على الموت، لا سيما تقبُّل موت من نحب بتسليم وصبر وثقة كاملة في حكمة الله وعدله.
يانسي: هلّا رويت لنا ما يصنع بالموتى بعد موتهم وأخبرتنا عن طقوس الدفن في الإسلام؟
هاليفي: سأتأمل قليلاً في الوضع الحالي، جائحة فيروس كورونا، بدلاً من أن أقدم لك إجابة قصيرة مباشرة. فهذا الوضع يجعل من الصعب أو المستحيل إجراء هذه الطقوس. لقد دمرت القيود المحلية والعالمية المفروضة على التجمعات العامة ومتطلبات التباعد الاجتماعي المفجوعين وصعَّبت للغاية عليهم تلقي العزاء الديني عن الألم والخسارة.
كل العوائل وكل المجتمعات تعتبر وفاة أيٍ من افرادها أزمة. إذ لا تجدي التجمعات الجنائزية نفعًا في تعويض من فُقِدوا، بيد أن الطقوس والتعازي التقليدية جُعِلت لتوديع من مات ومساعدة الأحياء على السلوان وحسن العزاء. وقد أوقفت الجائحة بالتأكيد هذا كله.
يُغسل الجثمان عادةً، في الثقافات الإسلامية، ثم يُلَفُّ في الكفن ويُدفَن في حفرة من الأرض. وقد أدت المخاوف من انتقال العدوى من جثث من قضوا نحبهم بسبب كورونا إلى إجراء بعض التعديلات في بداية فترة الجائحة. فكان على أماكن الدفن التكيف مع الشروط والتوصيات الجديدة بشأن تقليل ملامسة جسد المتوفى. وأوضحت المرجعيات الدينية أن هذه التعديلات مبرَّرة خوفًا من الأذى.
لقد أفتى أحد شيوخ النجف بالعراق في مارس 2020 على سبيل المثال للمغسلين بجواز لبس القفازات والتيمم بدلًا عن غسل الجثة وتطييبها بالكافور. وأفتى بجواز حفظ الجثث في الثلاجة لفترة طويلة لدواعي السلامة بدلًا عن الإسراع بدفن الجثة.
وقيل إن فيروس كورونا، في مدينة قم الإيرانية، قد دفع الناس إلى حفر مقبرة جماعية. وليس من المعلوم كيف كان توزيع القبور فيها، إلا أن وضع أكثر من جنازة في نفس القبر لا يخالف الشريعة الإسلامية، فطالما سُمِح بهذا الإجراء الاستثنائي في الأوبئة والحروب. ويُعتبَر حرق جثة الإنسان، على النقيض من ذلك، أمرًا مقيتًا ومحرمًا شرعًا؛ لهذا السبب أثار قرار الحكومة السريلانكية بالحرق الإجباري لضحايا فيروس كورونا من المسلمين احتجاجات بين المسلمين.
يجتمع الشيعة في العاشر من محرم من كل عام لذكرى استشهاد الحسين بن علي، إمام الشيعة الثالث وحفيد النبي محمد. وقد صادف يوم عاشوراء هذا العام أواخر أغسطس، وهو يوم عطلة رسمي في العديد من البلدان، ومن المعتاد أن يشارك فيه الملايين من الناس. أقام البعض منهم هذا العام العزاء وسط الحشود وتحدوا قيود الحكومة ونصائح شيوخهم، فيما تأمل آخرون هذا الماضي المأساوي من بيوتهم وربما انضموا إلى بث على تطبيق زوم ليجربوا الحداد في يومهم هذا بطريقة مغايرة تمامًا.
لا ندري اليوم إن كانت هذا الشعائر القديمة ستعود بعد الجائحة أم تعاد صياغتها. لكن سيبقى البكاء على كل حال.
المُحاور: جوروج يانسي أستاذ الفلسفة في جامعة إيموري، ومؤلف الكتاب الأحدث “عبر الفضاءات السوداء: مقالات ومقابلات مع فيلسوف أمريكي” (Across Black Spaces: Essays and Interviews from an American Philosopher).
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
Of Death and Consequences
George Yancy and Leor Halevi
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”