في نوفمبر من عام 2020 تأسست جمعية الفلسفة السعودية برئاسة الدكتور عبد الله بن محسن المطيري، وهي ثمرة نشاطات مُستمرة امتدت لعشر سنوات أو تزيد، بذل فيها الدكتور عبد الله جهوداً حثيثة في نشر التفكير الفلسفي عبر مقالاته الصحفية في كبرى الصحف السعودية، بجانب الأنشطة الثقافية في المحافل الأدبية في عدة مدن داخل المملكة. لم تأت جهود المطيري منفردة في هذا السياق، وشاركه كثيرون في حمل العبء الفلسفي والمسؤولية الثقيلة في تبني ” علم ” الحِكمة؛ كالأساتذة شايع الوقيان وحمد الراشد وسليمان السلطان وشتيوي الغيثي وآخرون لا يتسع المقام لذكرهم ممّن سطروا المقالات وألفوا الكتب وأقاموا الندوات لإيصال الفكر الفلسفي إلى متلقيه، ومثلهم من نشر (التفلسف) كطريقة للتفكير والتدبير والتأمل داخل أروقة الجامعات وعبر المؤلفات والمقالات الرصينة كالدكتور عبد الله البريدي. فضلاً عن الجيل السابق الذي كتب عن الفلسفة وأسهم في التأليف عنها كالدكتور راشد المبارك والدكتور حمد المرزوقي والشيخ ذو الثقافة الواسعة محمد بن عقيل (أبو عبد الرحمن الظاهري) الذي أثرى المكتبة العربية بمؤلفاته الفلسفية والأدبية والدينية على حد سواء. ولا ينبغي أن نغفل عن حضور قوي للمواقع الفلسفية السعودية النشطة التي خدمت القارئ العربي من المُحيط إلى الخليج وساهمت في الارتقاء بالمشهد الثقافي والفلسفي.
يتزامن التأسيس الفلسفي مع رؤية أكبر وأشمل تتبناها المملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله، وهي رؤية شابة في طموحها ومستقبلية في أفقها البعيد، ترمي إلى تبني التنمية الشاملة في مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والتقدم بموقع المملكة العربية السعودية في الخارطة الدولية. كما تبنت وزارة الثقافة برئاسة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان مشاريعها التطويرية استجابة لمبادئ الرؤية وانسجاماً معها، فتبع ذلك تأسيس العديد من الهيئات التابعة لوزارة الثقافة: كهيئة الأدب والنشر والترجمة، وهيئة التراث، وهيئة المتاحف، وهيئة الفنون والعمارة، وغيرها من الهيئات المهتمة بتطوير القطاعات الثقافية المتعددة. ومن ثمار ذلك إقامة المؤتمر الدولي للفلسفة في ديسمبر من العام 2021 برعاية وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأدب والنشر والترجمة تحت رئاسة الدكتور محمد حسن علوان.
مامن ريب أن للفلسفة دورها المحوري وسط هذه الإرادة النهضوية التي تبدأ من قمة الهرم، ولا ننسى أن نهضة العلوم والأفكار والفنون كانت – تاريخياً – وطيدة الصلة بالإرادة النهضوية للأمة وناطقة بلسان العصر وأحواله. ولئن كانت التنمية المأمولة هي تطور تكاملي بين الإنسان والأشياء تُسخّر فيه منافع الطبيعة لمصلحة العموم الأكبر من المُستفيدين. فإن لغة الحسابات والأرقام لا تكفي لوحدها، فقد ظهرت ” حالات عديدة حققت فيها بعض الدول نمواً اقتصادياً دون أن تُحدث تنمية” (1) وكون الهدف من التنمية هو الإنسان جوهراً ومحوراً وهدفاً كما ذكر غازي القصيبي رحمه الله (2). هذا لا يُلغي أهمية التنمية لاقتصادية، وإنما تتغذى هذه التنمية عبر التذكير بغايتها الأولى وهي الإنسان لا الأرقام، أما الدور المُتبادل بين الفلسفة والاقتصاد فلا يقتصر على الإفادة من أدوات الفلسفة النقدية والتحليلية والمعرفية إذ يمتد إلى تمتين القوالب الإنتاجية، وبحث الأنماط السلوكية الاستهلاكية، والتفكير في لعبة السوق واتجاهاته، وتدبير الموارد الذاتية والإمكانات الاستثمارية على نطاق شاسع، وذلك ضمن ديناميّة تكاملية/ ترشيدية/ بعيدة الأمد والأجل، والفلسفة بهذا السياق هي النفس الطويل في التفكير، وهي المسؤولة عن العثور على الروح الحية وبعث النشاط فيها.
وحيث تكون ” التنمية ” تصبح الثقافة دماً نابضاً في شرايين هذا النمو، والثقافة مرتبطة بالهوية واللغة والدين. ومع بوادر الانفتاح الثقافي تصبح الدعوة نحو (فلسفة الدين) مسألة في غاية الأهمية: فالدين أساس التكوين الاجتماعي منذ تأسيس هذه البلاد على يد المغفور له الملك عبد العزيز. والدين من منظور فلسفي يتمرحل وفق خطابات تستجيب للضرورة الواقعية ولا تتعارض معها. إن الدين ” أسبق من الفلسفة، هذه حقيقة لا يُماري فيها أحد، إذ تثبتها دراسة الحضارات القديمة ودراسة الشعوب البدائية” (3) والدين من منظور فلسفي مصدر إسناد دائم ومُتجدد للقيم والمُعتقدات التي تحكم مصير الإنسان، فاحتوى تراثنا الإسلامي والفقهي على التأملات الخصبة والأفكار الجريئة في مجالي الفلسفة والدين، لكن الإثراء الحقيقي ينبع من طبيعة واقعنا الحي وما يموج به من أسئلة ذات طابع فلسفي وديني معاً، أسئلة تبحث طبيعة حياتنا الراهنة ومصيرنا في عالم تتقلب فيه القيم والمعتقدات والرؤى وسط دوامة لا تهدأ، فتظهر الحاجة ملحة لدراسة الدين من منظور فلسفي، أن يكون الدين موضوعاً للتفكير وإعادة التمركز وفق فهم جديد، وأن يُنظر إليه كعامل للتماسك الاجتماعي: ” فالصراعات، وأشكال الانحراف، والانتحار المفتقد للضوابط، كلها أعراض أزمة توازن داخل النسيج الاجتماعي، وداخل نشاطه كجهاز وفاق لقواعد اجتماعية مُشتركة. فالدين عامل تماسك اجتماعي ” (4). بيد أن هذا التماسك (النسبي) يخضع هو الآخر لديناميكيات تاريخية واقتصادية وسياسية لابد له أن يتفاعل معها إيجابياً ليتلافى فخ الجمود، ولكي يتعامل مع المستجدات بثقة.
ومن مشاهد الانفتاح الثقافي الثر الذي تعيشه المملكة ما يخص النهوض بالفنون، وللفلسفة أهميتها في هذا الجانب إذ تسهم الفلسفة في التقعيد النظري والجمالي لكافة الفنون، وتتسائل حيال معنى الجمال وضرورة انوجاده في واقعنا المعاش. فإذا كان الدين يُخبرنا بأن الله جميل يُحب الجمال، على الفلسفة أن تتسائل حيال الجمال الذي يُبدعه الإنسان ويتلقاه؟ وما ضرورة أن تترسخ المعايير الجمالية والفنية ضمن ذائقة سويّة تفلت من تخبطات الفوضى الرقمية والهيمنة التكنولوجية والذكاء الصناعي وغيرها من الوسائل التي تفرض إلحاحاتها على البشر وتعمل على برمجتهم بعيداً عن فلسفة الفن والجمال (الاستاطيقا)؟ فرُب سائل يسأل: وهل للجمال أهميته في عالم يهتم بالكم والعدد والحجم، أي ما هي أكبر ناطحة سحاب وما هو حجم المتابعين وأعداد الزبائن وأرصدة الأثرياء؟ فيتخلص الإنسان الكمي – أسير الرؤية العددية – من هذا السجن الرقمي عبر ملكة التأمل: ” فالشعور بالكمال هو مصدر نشوء الحاسة الجمالية، ومن المُلاحظ أنه كلما ارتقت حواس الإنسان ازدادت القدرة على توسيع أفق الإنسان، وإذا ازداد عنصر الحس غنى ازداد شعور الإنسان بالجمال وتولدت الحاسة الجمالية” (5) ولا بد لنا هنا من الاستعانة بالتوصيف الهيجلي لعلم الجمال وأنه “فلسفة الفن الجميل، وفلسفة للوعي الجمالي، وفلسفة للقدرة على الإبداع الأكثر صدقاً، وفلسفة للتذوق الأكثر قدرة على الاستيعاب”. على أن الفنون والجماليات تواجه تحدياً لا يختلف في عمقه عن سائر المجالات الإبداعية والروحية من زحف للنزوع السطحي والمادي واختزال للإنسان في جوانبه الكمية الخالصة. ومن هنا تكمن مسؤولية الفن في إضفاء طابع جمالي متجدد لحياة يهلك فيها الأفراد وسط (القفص الحديدي) للحياة الحديثة، وفق تعبير ماكس فيبر الشهير.
وثمة مهمة أخرى تضطلع بها الفلسفة لحظة تدشينها، فهذا الحدث التاريخي يتم هو الآخر وفق سردية تاريخية لا زلنا نركب موجتها العالية: فالفلسفة تتواشج مع التاريخ بواسطة ملكة التأمل للأحداث والتمرحلات والمُنعطفات التاريخية المُحرجة ” فهل يُمكننا إدراك ما هو ثابت في البشر عند دراستنا لحقب تاريخية مختلفة، أم أننا سنعثر على اختلافات جوهرية في الدوافع والأسباب والرغبات والسلوكيات الجماعية؟ هل الإنسانية مُنتَج تاريخي؟” (6) فمثلما تفيد الفلسفة في النظر نحو المجالات والتخصصات العلمية المختلفة فإن الأمر ينطبق على التاريخ؛ فالأحداث التاريخية المتلاحقة والمربكة لعين الناظر تفرض على الملاحِظ تبنيه لهذا المنظور أو ذاك، أو تبعيته لهذه السلطة المعرفية أو تلك، وقد لا يسلم المؤرخ من التواطؤ الأيديولوجي مع أفكار قِبلية مسبقة تشوه الأحداث وتمسخ الرموز والأشخاص والحِقب وفق ما تمليه أيديولوجيته (وهذا ما حدث كثيراً). تتيح فلسفة التاريخ تأمل القوالب والسرديات التاريخية المختلفة وتحلل رؤية العالم Weltanschauung التي يتبناها المؤرخون إن بوعي أو بغير وعي منهم، وهذا يشمل – بكل تأكيد – تبعية المؤرخ لزمنه الذي يحيا به، ولغته التي يكتب بها ويفكر من خلالها، وانحيازاته الفردية أو الجماعية أو الأيديولوجية.
بجوار الاقتصاد والفن والدين، ثمة علاقة قوية تربط الفلسفة بالأدب منذ نشأة الفلسفة، فكتب فلاسفة أيونيا فلسفاتهم بلغة شعرية شرحوا من خلالها نظرتهم للوجود وتفسيرهم له، كما فعل طاليس، ومثلهم بارمنيدس الإيلي، وهيراقليطس فيلسوف الصيرورة، وكتب أفلاطون حواراته بلغة أدبية مشرقة، كما قعّد أرسطو للخطابة والتراجيديا وأسس للنقد الأدبي. وبالمثل كتب ابن سينا قصيدته الخالدة عن الورقاء ليوضح نظريته في علم النفس. أما ابن طفيل فاستعان بالنص الأدبي لتجسيد شخصية (حي بن يقظان) المتوحد. فتوطدت العلاقة بين الفلسفة والأدب لتعبر الحقب والتواريخ والثقافات المختلفة حتى عصور متأخرة مع نصوص نتشه وروايات سارتر وأشعار طاغور. أما الأدباء الخلص فأثرَوا الفلسفة في أدبهم، فنعثر على المضامين الفلسفية في أبيات المعري وقصائد المتنبي وأساطير هوميروس ونثر جبران. وهذا ما يشير إلى العلاقة القوية بين الفلسفة والأدب؛ وأن الأدب العميق ينهل من معين الفلسفة ويتعمق بمدى تقاربه معها.
وأخيراً فإن كانت الفلسفة هي أم العلوم، فإنها ولا شك ذات صلة وثيقة بالعلم التجريبي. لكن للعلم ميتافيزيقيته الخاصة ” فالميتافيزيقا تبحث في الأسس النهائية Ultimate grounds لطبيعة ووجود موضوعات كل العلوم الجزئية” وباختصار ” الميتافيزيقا هي ماوراء العلم Metasciencee ” (7) يشمل ذلك معرفة المفاهيم المكوّنة للتفكير العلمي، أي المفاهيم العقلية المؤطرة للتجربة العلمية: كمفهوم السببية والزمان والمكان والضرورة والحتمية والاضطراد، وهي مفاهيم تتطلبها التجربة لكنها سابقة على كل تجربة. وبالمثل فإن فيلسوفاً علمياً كتوماس كون قيّد التفكير العلمي بالنموذج الإرشادي أو ” البارادايم ” الذي يشكل روح العلم وفق عصر من العصور. فالفلك البطليمي لا يتوافق مع فيزياء نيوتن، وهذه تختلف عن نسبية اينشتاين، فالذي تغير هنا ليست الحقيقة العلمية وحدها لكن الحقبة التاريخية والإطار المعرفي الذي تنتظم بداخله. فنحن هنا بإزاء مهمة فلسفية في تحليل (العلم) وقراءته من الخارج، وجعله هو الآخر موضوعاً للتفكير.
إن ما ذكرته من أدوار متعددة تضطلع بها الفلسفة ليس خافياً على القارئ الفلسفي الفطن، لكن هذه الأهمية البالغة للفلسفة توارت تاريخياً بفعل ظروف متباينة تسبب بها أهل هذه المجالات المعرفية والإبداعية حين تخلوا عن الفلسفة واكتفوا بالنطاق الضيق الذي انغلقوا عليه، وانحصروا به، فحُرموا من أدوات الفلسفة في التعميق البحثي وإثارة الأسئلة الجريئة والأصيلة داخل هذه المجالات المعرفية، فانتهت كثير من المعارف نحو الجمود والانغلاق، وفي أحيان كثيرة: الاندثار! من هنا جاء دور الفلسفة في صياغة الأسئلة التجديدية – وفي مناسبات شتى- الأسئلة التوجيهية، والتي لا تكف عن تنبيه الباحث إلى مواطن الإشكال الفلسفي والاحتفاء بقيمة السؤال الذي يعمل على تخصيب ملكاتنا العقلية باستمرار.
ختاماً.. ما من سؤال حيَّر الإنسان أكثر من سؤال الفلسفة الدائم: لماذا كان ثمة وجودٌ، ولم يكن ثمة عدم؟
(1) د.عبدالله البريدي. التنمية المستدامة. ط1 ص27
(2) غازي القصيبي. التنمية والأسئلة الكبرى. ط1 ص 9
(3) فؤاد كامل. مدخل إلى فلسفة الدين. ط1984. ص15
(4) سابينو أكوافيفا وإنزو باتشي. علم الاجتماع الديني. ط1 ص36
(5) مجاهد عبدالمنعم مجاهد. دراسات في علم الجمال. ط1980 ص18
(6) دانييل ليتل. (فلسفة التاريخ) من موسوعة ستانفورد للفلسفة. ترجمة طريف السليطي
(7) د. حسين علي حسن. الأسس الميتافيزيقية للعلم. ط1997 ص112