(زكاري محمّد، باحث في الفلسفة)
وُلد فرانتز فانون عام 1925 في جزيرة مارتينيك بالكاريبي. وافته المنية عام 1961 بمرض سرطان الدم في مستشفى خارج واشنطن العاصمة. عمل فانون طبيبًا نفسانيًا ولكنه اشتهر كفيلسوف للثورة المناهضة للاستعمار. نشر كتابين رائدين هما “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” (1952) الذي تناول التأثيرات النفسية للعنصرية، و”المعذبون في الأرض” (1961) الذي عالج قضايا الثورة الجزائرية (1954-1962) على التوالي. كما كتب كتابًا ثالثًا بعنوان “العام الخامس للثورة الجزائرية” (1959)، بالإضافة إلى العديد من المقالات في المجلات الطبية والمقالات السياسية، التي ظهرت مجموعة منها في المجموعتين بعد وفاته “نحو الثورة الأفريقية” (1964) و”الاغتراب والحرية” (2015).
وعلى الرغم من قصر عمره وإنتاجه المكتوب، ظل تحليل فانون للاستعمار وتحرير المستعمرات حيويًا، مؤثرًا على مجموعة واسعة من المجالات الأكاديمية لدرجة أن مصطلح “الفانونية” أصبح اختصارًا يُعبّر عن حججه السياسية والفلسفية والنفسية المترابطة. من خلال وجهات النظر النافذة وأسلوبه النثري القوي غالبًا، أصبحت مكتبة فانون الصغيرة ضرورية القراءة في دراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات الأفريقية والأفريقية الأمريكية، ونظرية النقد العرقي، وتاريخ الفكر الثوري، على سبيل المثال لا الحصر. يُعدّ فانون شهيدًا سياسيًا مات قبل أن يشهد ميلاد الجزائر المستقلة، وأصبحت مكانته شبه أسطورية نتيجة لذلك. إذ إن استحضار فانون يعني استحضار رؤية عالمية راديكالية غير راضية عن الواقع السياسي الحالي، تلوم تماثل الماضي، وبالتالي فهي في صراع دائم من أجل مستقبل أفضل.
كانَ فرانتز فانون من المفكّرين القلائل الذين دعموا حركات التّحرّر في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وما تزالُ أفكارُه متداولة بين المثقّفين والمفكّرين إلى يومنا هذا. تميّزت أعمالهُ بلحظتين أساسيّتين: أولاهما، انخراطُه في كفاح الشّعب الجزائريّ من أجل نيل استقلاله من الاستعمار الفرنسيّ، وثانيهما، انهمامهُ بتحليل الدّافع البشريّ نحو التحرّر من الاستعمار. صارتُ كتاباتُ فرانتز فانون أعمالاً أساسيّةً، ونصوصاً مركزيَّةً في الفكر الإفريقيّ، وما كان لها أن تحظى بمثل تلك المكانة لولا عنايتهُ بالمشكلات الثقافية المتولّدة لدى الشعوب المكافحة ضدّ الاستعمار، وما في ذلك من أشكال الاعتراض على السُّلطة الاستعمارية، وذلك من أجل بناء صلاتٍ قويّةٍ بين الثقافات الإفريقية، بما يسمَحُ بنَظْمِ تصوّر عامٍ لما ينبغي أن تكون عليه صورة الفكر والسياسية في هذه القارّة([1]).
يمكننا، من خلال تتبُّع كتابات فانون، أن ندرك الأسباب الكامنة خلف تحوُّل هذه الشّخصية، وأن نفهم الكيفية التي صار بها علماً ملهماً، ومفكراً أذكت أفكارهُ العقل الأخلاقيّ لدى فئة عريضة من النّاس، ودفعتهم إعمال كلّ ما في وسعهم من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية للفئات المهمّشة والمضطهدة. يعكسُ عملُه الأوَّلُ: «بشرة سوداء، وأقنعة بيضاء» (Peau noire, masques blancs) الصادر سنة 1952، والذي مدارهُ – كما هو واضحٌ من عنوانه – على فضاءين متمايزين جذريًّا: فضاءُ المُسْتَعْمِرِ الأبيضِ من جهة، وفضاءُ السُّكانِ الأصليين من جهةٍ أخرى(*)؛ حيثُ كتبَ فانون من خلال استدعاء تجربته بوصفه رجلاً أسوداً يعيشُ في فرنسا، وهو الأمرُ الذي سمحَ له – بشكل كبير – بعقد هذه المقارنة وبناء تلك الممايزة بين منظورين.
يحدّد موقعُ الذات الشكل الذي تعكسهُ حقيقةُ البشرة السوداء والقناع الأبيض، ويجري ذلك إما في وقت واحدٍ أو بالتّناوب بينهما، الأمر الذي يوّلد لدى الذّات رغبةً بأن تعقد مفاوضة بين الطرفين، وهو الأمر الذي يفوّت على الإنسان أصالته الذاتية، ويجعلُه أسيراً ل “التّهجين” المفروض، وهو المفهوم الذي يصوّب نحوه فانون سهام نقده. كان عمل فانون الأوّل «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء» أول محاولة له من أجل صياغة إنسانيَّة جذريّة مناهضة للعنصرية، ولا وتقاوم كلَّ محاولة من أجل استيعابها في تيّار أبيض متفوق، أو بواسطة الفلسفات الرجعية التي تدّعي تفوق السّود. سيطر على أعماله اللاحقة الاهتمام بقمع الشعوب المستعمرة والذي عبّر عنهُ في هذا الكتاب؛ فقد تم تنفيذ دعوته من أجل فهم جديد للإنسانية من موقع رئاسة مواطن من مارتينيك يتمتع بامتيازات نسبية في فرنسا، بحثًا عن مكانه الخاصّ في العالم بوصفه رجلاً أسوداً من منطقة بحر الكاريبي الفرنسيّة ويعيش في فرنسا([2]).
كانت الدّراسة التي قدّمها فانون بمثابة مرآة ذات بنية تحتية تقدّمية؛ إذ تمكّن الإفريقي/الزنجي من استعادة نفسه والتحرّر من أشكال الاستيلاب والاغتراب كلّها. مدار هذا العمل – على حدّ تعبير فانون نفسه – حول جزر الأنتيل التي خضعت للاستعمار الفرنسيّ يقول: “بما أنني ولدت في الأنتيل، فإنّ ملاحظاتي واستنتاجاتي صالحة فقط للأنتيل، على الأقل في ما يخصّ الإنسان الأسود في وطنه” (ص،16). كان مدارُ تفكيره عن الطبقة الوسطى المستلبة، وذلك من خلال بيان الكيفية التي جعل من خلالها الاستعمار كل الإمكانيات الثقافية منعدمة لدى تلك الفئة.
مدارُ الكتاب حول قضيَّة أساسيّة هي التّأويلُ الفلسفيّ للصّورة/الصور التي تتمظهر من خلالها الذّات، تلك الصورة التي يمكن أن يعاد تمثّل الجسد من خلالها؛ لأنّ مدار هذا الجدل الذي يؤسّسُه الكتابُ قوامهُ على تحديد معيّن لفلسفة الجسد. ثمّة العديدُ من المداخل التي يمكنُ أن تعتبر بمثابة تأويلات لهذا المؤلّف، لكنّ المهم أنَّه يتنزّل في منزلة بين التحليل النفسيّ والفلسفة، والأكثر من ذلك يمكن أن نقرأ هذا المؤلّف كما لو كان سيرةً ذاتية لفرانتز فانون تخفي من ورائها أسلوباً شاعرياً يمارسُ من داخل الفلسفة وبواسطتها.
يحدِّدُ فانون الكيفية التي من خلالها تصير كلّ قراءة تفاعلية أمراً ممكناً، وذلك على مستوى وعي الأفراد، وعلى الرّغم من الاهتمام الواسع الذي حظي به مفهوم “التهجين” في إطار الدراسات ما بعد الكولونيالية، فإنّ الأساس الذي انطلق منه فانون كان مرتبطاً بضرورة تمكين الذّات المهمّشة من قدرتها على الفعل. كان ذلك في الأساس الدّافع الرئيسي الذي قام من أجله ويوضّح فانون المفهوم بقوله: “الإنسان حركة نحو العالم ونحو أمثاله، حركة عدوانية تؤدي إلى الاستعباد أو الغزو؛ حركة حب، عطية من الذات، المرحلة الأخيرة لما يُسمى بالاتجاه الأخلاقي بالاتفاق المشترك. يبدو أن كل وعي لديه القدرة على إظهار هذين المكونين، بشكل متزامن أو بديل. الشخص الذي أحبه سيعززني من خلال تأييده لافتراضي رجولتي، بينما ستنسج الحاجة إلى كسب إعجاب أو حب الآخرين، بشكل دائم على طول رؤيتي للعالم، بنية تحتية تحقق صحة ذلك”.
تتجلّى إمكانية التّبادل بين البشرة السوداء والقناع الأبيض، من خلال التجسيد الهجين، وفي الوجود الذي تطوّرت ملامحه في ظل الاستعمار مثلما وصفه فانون. يصفُ كذلك شكل العدوان الذي يؤدّي إلى الاستعباد والاستعمار، وما ينبغي أن ينشأ في أعقابه من محبّة تجعل المرء قادراً على توجيه نفسه أخلاقياً؛ إذ تتمظهر تلك القوتان كما لو كانتا حافزاً أمام الإنسان من أجل فهم تلك الرابطة الكامنة بين الذات والموضوع. تنشأ تصوّراتنا عن القوة من فهمنا الفردي، وبالقياس على الآخرين، فالمرء يظل قوياً متى كان الآخرون ضعفاء، ومتى كانت قوته تلك جديرة باعتراف الآخرين، أو بأن ينال المرء من جهة أخرى محبّتهم وإعجابهم، تشير تلك الملاحظاتُ التي قدّمها فانون إلى صراع أوسع نطاقاً أساسهُ التّوجّه الأخلاقي وفلسفة محدّدة للآخرية، وللعلاقات القائمة بين الأفراد والجماعات.
يحملُ الكتابُ إمكانية/إمكانيات لتشكيل صورة عن الذّات بالمعنى الذي يمكن أن نفهمه من خلال الأدبيات الأنطولوجية والفينومينولوجية. ينحو فانون إلى أسلوب الحوارية بين صورتين؛ إذ تصبحُ أولويّةُ الكلام لديه أصليةً وضروريةً، بل إنّها الأساس الذي يمكن من خلاله الانعتاق من ربقة الجدل مع “الرجل الأبيض”، وبواسطة تلك المفاوضات فقط يمكنُ تحقّق مشروع التهجين. وتبعاً لذلك يجبُ على “الرجل الأسود” – حسب فانون – أن يلتزم بكونه كائنا أخلاقياً، وأن يعترف بهويته بالرغم من الثقافة البيضاء.
تلك العلاقة بين الأنا والآخر في كتابة فانون تجدُ جذورها في اهتمامه بالتحليل النفسي، يقول: ” سيكون من المثير للاهتمام، بناءً على نظرية لاكان حول مرحلة المرآة، التحقيق في مدى خضوع صورة الرفيق الأبيض التي يبنيها الطفل الأبيض في العمر المعتاد لاعتداء وهمي مع ظهور الزنجي”(ص161). ويؤكّد من خلال تحليله أنّ صورة الزنجي في وعي الأبيض لا تمثل إلّا في المستوى الجسديّ الظاهر، كما لو كان أمام “لا ذات”، بمعنى أنه ينفي عنها كل إمكانيات الوجود والتواجد، ولا يمكن تعريفهُ أو استيعابهُ. لكنّ الأمر مختلف تماما بالنسبة إلى “الرجل الأسود”، وذلك بسبب ما عاناه من ظروف تاريخية واقتصادية، فالآخر في تقدير فانون في مرآة الأسود هو الأبيض الذي حمل الخراب والدّمار، الآخر هو الموضوع الذي نرغب فيه أو نرفضه.
تصيرُ الذّات في مواجهة مباشرة لهلوساتها الخاصّة، في إطار عملية اندحار ينكسر فيها الواقع ويصير المكبوت واقعاً بديلاً، تلك هي الهلوسة المتولّدة من خلال عملية التّماهي مع الآخر الذي يهدّدُ وجود الذات واستقلالها. تفقد الأنا فرادتها الخيالية ويصير الآخر متلبساً بها في مرحلة المرآة، يفترض السيناريو الفانوني، إذن، وجود ذات كاملة، وفي حال تهديدها، تهلوس بشكل ذهاني تحت الضغط، وترى في كل شيء مصدر تهديد. هل يفترضُ، دائماً، النظرُ إلى الآخر من خلال مقوّمات المرآة التي تفصل بين ذاتين على المستوى الأنطلوجي والفينومينولوجي والسيكولوجي؟
ذلك هو السؤال المركزيّ الذي اضطلع فانون بالإجابة عنه من خلال هذا العمل الجبّار الذي ظل استثناءً في أشكال قراءتنا للآخر وأشكال حضوره في تجربتنا الواعية.
تجاوزت أعمالُ فرانتز فانون اللاحقةُ تلك الادّعاءات التي كانت تروّج بأن أوروبّا معيارٌ للكونية والثّقافة والحضارة، ولا سيما في عمله الصادر سنة 1959 تحت عنوان: «العام الخامس للثورة الجزائرية» L’an V de la révolution algérienne)). وأعيد نشره بعد ذلك بعنوان: «علم اجتماع ثورة» في العام 1966. يفسّرُ فانون في هذا العمل شكلاً من أشكال المقاومة ضدّ الاستعمار، من خلال التّذكير بأنّ مختلف الأطراف الجزائرية المناهضة للاستعمار كانت في الحقيقة رافضةً للعنف بكل أشكاله، ويبيّن الكيفيات التي حوّلت المشهد في الجزائر إلى مشهد دمويّ عنيف، في الوقت الذي أراد فيه المستعمر الفرنسيّ الحفاظ على هذه المُستعمرة بأيّ ثمن، منطلقاً في ذلك من نيّته في حماية مستوطنيه أوّلاً، والحفاظ على مصالحه ثانياً. لم يكن ثمّة – في نظر فانون – ما يمكن أن يدفع الجزائريين في لحظتهم التاريخية تلك إلى التراجع، بل إنّ كل العوامل قد تظافرت معاً معلنةً عن ضرورة استمرار المقاومة. قرأ فانون التحولات في الجزائر من منظور اجتماعيّ دقيق، وفهم من خلال ذلك الأسباب التي كانت خلف الانقسام الذي نشأ في الوعي الجزائري، وما أعقبه ذلك من تجديد في المجتمع واضمحلال للعقلية الاستعمارية.
احتكّ فرانتز فانون بواقع الثورة الجزائرية، وهو ما سمح له بتكوين نظرة واقعيّة وتحليل خاصّ لمجرياتها ووقائعها؛ إذ يندرجُ عمله هذا في سياق رؤية عمليّة من أجل تفكيك الاستعمار بوصفه مفهوماً أساسيًا من أجل “التحديث” وتطوير السياسية وتحقيق الاندماج. يمكن أن نشير إلى أنّ المثال الجزائريّ كان الأوضح في سبيل تفكيك الاستعمار؛ لأنّه يجسّد نموذجاً متفرّداً بسبب الحرب الثوريّة العامّة ضدّ القوة الاستعمارية، والتي امتدّت زمنا طويلاً. ولا شكّ أن تحليلات فانون عن حرب الجزائر كانت من أجرأ وأهم المناقشات النظرية التي يمكن تناول مخرجاتها من أجل مناقشة مسألة تفكيك الاستعمار.
يركز فانون على نمطين رئيسيين ومتناقضين تمامًا: تفكيك الاستعمار الثوري (يمثلها الجزائر)، والقومية البرجوازية (يمثلها معظم الأراضي الفرنسية الأخرى). لا يكمن العامل المميز الرئيسي (على الرغم من الاستخدام المتكرر لمصطلحات الطبقة) في أساسه الطبقي الاجتماعي المحدد بدقة، بل بالأحرى على درجة العنف ومدى (بالمعايير الكمية والنوعية) المشاركة الشعبية. تنشأ أهمية التمييز الذي يقدمه فانون من حجته بأن الطريقة التي يتحقق بها الاستقلال سيكون لها عواقب حاسمة على تفكيك الاستعمار بعد الاستقلال.
في ما هو ربما أكثر فقرة معروفة له حول الموضوع، يقول فانون: «العنف وحده، العنف الذي يمارسه الناس، العنف الذي ينظمه ويربيه قادتهم، يجعل من الممكن للجماهير فهم الحقائق الاجتماعية ويعطيهم مفتاحها. بدون هذا الصراع، بدون تلك المعرفة بممارسة العمل، لا يوجد سوى عرض أزياء وصخب البوق. لا يوجد سوى حد أدنى من إعادة التكيف، وبعض الإصلاحات في القمة، وعلم يلوح: وهناك في الأسفل، في القاع، كتلة غير منقسمة، لا تزال تعيش في العصور الوسطى، وتكتفي بضرب الوقت إلى ما لا نهاية». تحت خطاب هذه الفقرة يكمن تحذير وفرضية. إن أهمية التحذير، كما يرى المرء الدول الأفريقية بعد العقد الأول من الاستقلال، واضحة للغاية. غالبًا ما يواجه المرء، إلى جانب خيبة الأمل من نتائج الاستقلال (أو عدم وجودها)، الأسف من قبل مواطني الدول الأفريقية لأن الاستقلال جاء “على طبق من ذهب”. في حين أنه لا يمكن عكس تاريخ دول جنوب الصحراء الكبرى، فإن اهتمام فرضية فانون يبدو مؤكدًا.
وفي عمله الشّهير “معذبو الأرض” (Les Damnés de la Terre) ركّز فانون على موضوع العنف، وهو ما يتّضحُ في الطّريقة التي عُومل بها هذا الكتابُ، فلقد تمّ حظر تداوله بدعوى أنّه يحرّض النّاس على الدّولة ويهدّد أمنها. لكنّ خلف ذلك كلّه توجدُ حقائق كان هذا النصّ يحملُها ويشي بها، فهذا العملُ يفضحُ طبيعة العنف الاستعماريّ الذي انتشرت سمومُهُ في أواصلِ الشّعوب المستعمرة. ينتمي هذا الكتابُ، بلا شكّ، إلى سياق “زمن الموت” الذي لاحق الأرض وشعوبها. يقابلُ المُستَعْمَرُ العنف الممارَس عليهِ بعنف مقابل، وهو ضروريّ من أجل تحقيق التّحرّر. وفي هذا السّياق يتجلّى كتاب: “معذبو الأرض” بوصفه عملاً مبنيًّا على نموذج علميّ تقليديّ في إثارته للإشكالية المتعلّقة بالعنف وتحليل نتائجها. فتح فرانتز فانون من خلال هذا النّص الطريق أمام النظريّة والفكر من أجل استعادة واقع منسيّ ومهمّش، بحيث إنّنا لا نكادُ نعثر على منهج واحدٍ فيه؛ فهو يستدعي المناهج كلّها، ويستعير منها أدواتها ونظراتها وعوالمها؛ فيأخذ من الفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النّفس، والأنثروبولوجيا، والتاريخ، والأدب.
ينصبُّ تحليلُ فرانتز فانون في كتابه هذا على كل القيم المتوسِّطية المرتبطة بانتصار الفردانية الإنسانية والوضوح والجمال، والتي يؤكدّ أنّها تتحول إلى تحف تافهة بلا حياة. وتبدو لهُ كل تلك الخطب وكأنها مجموعات من الكلمات الميتة، وتنكشف تلك القيم التي كانت تبدو أنها ترفع الروح على أنها لا قيمة لها، وذلك ببساطة لأنها لا تمت بصلة للصراع الملموس الذي يخوضه الشعب.
يكشفُ فانون في كتابه هذا عن القمع المزدوج الذي كانت تمارسهُ السلطة الاستعمارية الاستيطانية، ويكشف عن الواقع الذي كانت تمرّرُه خطابات الاستعمار نفسها، فمن رسالة الرجل الأبيض إلى الخراب والإبادة ثمّة تحوّل جوهريّ أراد معه الاستعمار للآخر أن يتحرّر من هويته وثقافته، وأن يصير نسخة / مسخة عن الرجل الأبيض. يمارس فانون التحليل النفسي على هذه الوضعية المعقّدة، وكانت النتيجة أن شعرَ بحجم المأساة التي تتعرض لها تلك الشعوب المستعمرة، والتي ما تفتأ تطرح سؤال الأنا والهوية، وهو الأمر الذي يفضي بالمحلل إلى وجود جروح غائرة تأبى الاندمال والشفاء. ولكن هذا التركيز على علم النفس لا يُراد وضعه في معارضة مبتذلة أمام العمل السياسي؛ حيث إن الاهتمام بالذات الجماعية وإمكاناتها كان من أجل تمكين النّشاط المناهض للاستعمار النضالي، وقد تميّزت به العديد من الحركات التحررية الإفريقية.
لقد فهم جون بول سارتر جيداً الهدف الذي سعى إليه فانون، وهو ما يتبيّن من خلال تقديمه للكتاب، “معذبو الأرض” عبارة عن دراسة لأنماط التّجرد من الإنسانية التي تلحقها أعمال العنف في المستعمرات، ونقد مستمر لنفاق الإنسانية الليبرالية التي تكشف، عند الضغط عليها، عن الشقوق التي تعمل عليها، وتحذير من أن العنف الذي يُصاغ على أنه إحياء للغرائز الوحشية هو في الواقع “إعادة خلق الإنسان لنفسه”.
طرح فانون فرضيته الأساسية حول عملية التّحرّر من الاستعمار، والتي قوامها على أن “عملية التحرّر من الاستعمار ظاهرة عنيفة دوماً”، ويقصدُ بهذه العملية قلب موازين القوى بين المُسْتَعْمِر والمُسْتَعْمَر، وبالرّغم من تركيزه على عمليّة التّحرّر في إفريقيا، إلّا أنّه يناقش أوجه التّشبه مع الأمريكيين الأفارقة، ويؤكد على الاختلافات بين وضعيّة الإفريقي والأمريكي. يؤكّد فانون على أنّ حلّ الصراع رهين بالكفاح العنيف، وما دون ذلك فلن تتمكّن الشعوب المُستَعْمَرة من التّحرر والاستقلال. وبما أن الدول المستعمرة قد تم إنشاؤها والحفاظ عليها باستخدام العنف أو التهديد بالعنف، فإنه من الضروري استخدام العنف لقلب هذه العلاقات القائمة على القوة.
يسلط فانون الضّوء على الطريقة التي قامت بها “العنصرية” بتقسيم المجتمعات، مع وجود عدم مساواة ملحوظ في جميع جوانب الوجود البشريّ. يتم الحفاظ على عدم المساواة باستخدام القوة، وحرمان السكان الأصليين من فرص التّعليم، والإرغام على الفصل العنصريّ في أماكن المعيشة. في إفريقيا، يكون تقسيم الأعراق بهذه الشدة لدرجة أن الحل الوحيد هو العزْلُ الكامل للمستعمر بالمستعمر – أي، من خلال ثورة كاملة وشاملة.
خلاصة
في “الخاتمة” يوجّه فانون نداءً مباشرًا إلى الأفراد ذوي التفكير المماثل ليحوّلوا أنفسهم في سبيل إعادة صياغة العالم. هي دعوة صاخبة لرفض النموذج الأوروبي الذي جرّ العالم إلى “تفكك ذري وروحاني”. إنه لا يدعونا إلى تقليد الغرب، بل إلى رسم مسار جديد، ربما باستخدام الغرب كقدوة سلبية. في الواقع، يدعو فانون دول العالم الثالث إلى حل مشاكل العلاقات الإنسانية التي لم تستطع أوروبا معالجتها. يقول: “المسألة هي أن يبدأ العالم الثالث تاريخًا جديدًا للإنسان”، لتجنب الجرائم التي ارتكبتها أوروبا في سعيها لـِغزو العالم. “إن الإنسانية تنتظر منا شيئًا آخر غير هذا التقليد، الذي سيكون تقريبًا كاريكاتيرًا فاحشًا”. وهكذا يتركنا فانون في الختام بواجب أخلاقي – بل مُلزم – وهو “محاولة وضع أقدام إنسان جديد”. يقع على عاتق المُخلّص من الاستعمار مسؤولية الإبداع والابتكار ورسم مسار جديد للإنسانية. وهنا يكمن التحدي ومسؤولية المثقف الأسود في إفريقيا وفي جميع أنحاء العالم.
مراجع تهمّ أعمال فانون:
Boukman, Daniel. Frantz Fanon: Traces d’une vie exemplaire. Paris: L’Harmattan, 2011.
Bulhan, Hussein Abdilahi. Frantz Fanon and the Psychology of Oppression. Path in Psychology [1 ed.]. New York: Plenum Press, 1985.
Dayan-Herzbrun, Sonia. Tumultes 31: Pour une pensée politique post-coloniale : à partir de Frantz Fanon. Paris: Éditions Kimé, 2015.
Decker, Jeffrey Louis. Terrorism (Un) Veiled: Frantz Fanon and the Women of Algiers. [17]. Minneapolis: University of Minnesota Press, 1990.
Fanon, Frantz, Haakon Chevalier, and Adolfo Gilly. A Dying Colonialism. Nachdr. ed. New York: Grove Press, 1965.
Fanon, Frantz, Jean Khalfa, and Robert J. C. Young. Écrits sur l’aliénation et la liberté: Œuvres II. Numérique ed. Paris: La Découverte, 2016.
Fanon, Frantz. Les damnés de la terre. POCHE ESSAIS ed. Paris: La Découverte, 2002.
Fanon, Frantz. Peau noire, masques blancs. Points essais ed. Paris: Seuil, 2020.
Fanon, Frantz. Poche: Pour la revolution africaine: Écrits politiques. Paris: La Découverte, 2018.
Fanon, Frantz. Pour la révolution africaine: Écrits politiques. Numérique ed. Paris: Les Classiques des sciences sociales, 2019.
Fanon, Frantz. Sociologie d’une révolution (L’an V de la révolution algérienne). Numérique ed. Paris: Les Petits Matins, 2017.
Macey, David. Frantz Fanon: A Biography. Second Edition. London: Verso, 2012.
Rabaka, Reiland. * Africana Critical Theory: Reconstructing The Black Radical Tradition, From W. E. B. Du Bois and C. L. R. James to Frantz Fanon and Amilcar Cabral*. Reprint ed. Lanham, Maryland: Lexington Books, 2010.
Rabaka, Reiland. Forms of Fanonism: Frantz Fanon’s Critical Theory and the Dialectics of Decolonization. Reprint ed. Lanham, Maryland: Lexington Books, 2011.
Sayles, James Yaki. Meditations on Frantz Fanon’s Wretched of the Earth. New Afrikan Revolutionary Writings. [1st ed.]. Trenton, NJ: Kersplebedeb, 2010.
Sharpley-Whiting, T. Denean. Frantz Fanon: Conflicts and Feminisms. Lanham, Maryland: Rowman & Littlefield Publishers, 1997.
Tremblay, Émilie, and Patrick Farbiaz. Frantz Fanon par les textes de l’époque. Paris: Les Petits Matins, 2017.
[1] – كتبت كثير من الأعمال حول فكر فرانتز فانون وفلسفته، ومن الجذير بالذكر أنّها ما تزال تصدر إلى يومنا هذا:
– Beaumont, Matthew. How We Walk: Frantz Fanon and the Politics of the Body. Verso, 2024.
– Cherki, Alice. Franz Fanon, portrait. Paris : Seuil, 2014.
– De Oto, Alejandro J. Frantz Fanon: The Politics and Poetics of the Postcolonial Subject. Rowman & Littlefield, 2022.
– Gibson, Nigel C. Fanon Today: Reason and Revolt of the Wretched of the Earth. Daraja Press, 2021.
– Khalfa, Jean. Poetics of the Antilles: Poetry, History and Philosophy in the Writings of Perse, Césaire, Fanon and Glissant. Peter Lang Limited, International Academic Publishers, 2023.
– Laubscher, Leswin, Derek Hook, and Miraj U. Desai. Psychology and the Other: Fanon, Phenomenology, and Psychology. 1st ed. Routledge, 2021.
– Lippold, Walter. Frantz Fanon e a Revolução Argelina. 3rd ed. Proprietas, 2022.
– Tabensky, Pedro. Camus and Fanon on the Algerian Question: An Ethics of Rebellion. Routledge, 2022.
* – وفي الغالب فإن فانون كان يقصد جزر الأنتيل على وجه التّحديد.
[2] – Anjali Prabhu, « Narration in Frantz Fanon’s “Peau noire masques blancs”: Some Reconsiderations », Research in African Literatures, Vol. 37, No. 4 (Winter, 2006), pp. 189-210 Published by: Indiana University Press, p190.