تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
سيغموند فرويد، ذلك الرائي للنفس، درّس فكرة احتمالية كونك غاضبًا دون معرفتك بذلك. ويمكن أيضًا أن تكون فيلسوفًا دون معرفتك بذلك. وكان فرويد كذلك تمامًا، فيلسوفًا لا واعيًا باللاوعي – وشخصًا لم يكن لديه كلمة إيجابية البتة ليقولها عن الفلسفة. فقط استمعوا له وهو يتذمر في عام ١٩٣٣:
الفلسفة لا تُعارض العلم، إنها تسلك بذاتها سلوكًا كما لو كانت عِلمًا، وإلى حدٍ ما تستخدم الطرائق ذاتها؛ لكنها تفارق العلم من حيث تشبثها بالوهم بأنها يمكن أن تنتج صورةً متكاملةً ومتسقةً للعالم. ويكمن خطؤها المنهجي في حقيقة أنها تبالغ في تقدير القيمة المعرفية لعملياتنا المنطقية… لكن الفلسفة ليس لها أي تأثيرٍ فوري على الغالبية العظمى من البشرية؛ وهي لا تهم سوى عددًا قليلاً فحسب من الطبقة العليا الضئيلة من المُثقفين، في حين أن البقية يجدونها تفوق قدراتهم.
(New Introductory Lectures on Psycho-analysis, Lecture xxxv)
ومع ذلك، فكما أبدى فيليب ريف ملاحظاته في كتابه الكلاسيكي لعام ١٩٥٩، “فرويد: عقل الفيلسوف الأخلاقي”، فَمؤسس التحليل النفسي أيضا يُعدّ واحدًا من فلاسفة الأخلاق، وواحدًا من المحافظين في ذلك – محافظًا في كلٍ من عاداته الشخصية وفي قناعاته الراسخة بأن القمع وضبط النفس ضروريان للحضارة. وفي علمه، وصف فرويد رؤيةً للحياة الكريمة، وفي هذا الصدد كان، على الرغم من كل سُخريته من الفلسفة، عضوًا في نقابة سقراط.
كان المرسوم النهائي لسُقراط هو “اعرف نفسك”. وعلى الرغم من كون الأمر ربما مفاجأة لبعض الفلاسفة، إلا أن معرفة الذات تتطلب أكثر من الدراسة الذاتية الفكرية. إنها تتطلب معرفة شيءٍ عن مشاعرك. ومن خلال تجربتي، فالفلاسفة، بشكلٍ عام، ليسوا الأفراد الأكثر انسجامًا عاطفيًا. ويميل الكثيرون منهم إلى التعامل مع انحسار المشاعر وتدفقها كما لو أن عواطفنا لم تكن سوى عوائق أمام العقل. أدرك فرويد، أكثر من حكيم أثينا، الأهمية الأخلاقية للشفافية الذاتية العاطفية. ومثل التراجيديين الإغريق، ولكن بلُغة لا تتطلب أُذنًا شاعرية، ذكرّنا فرويد بمدى صعوبة التمتع بصلات القرابة مع مجموعة كاملة من المشاعر.
يرى فرويد أن الجانب المهمل كثيرًا من النضج هو القدرة على تحمّل المشاعر المتناقضة، والقدرة على تجنب تقسيم العالم إلى قُبعات بيضاء وقُبعات سوداء. وعقب وفاة والده، عانى فرويد من اكتئاب عميق نتج من تعذيب نفسه بسبب مزيج من مشاعر المحبة والعدائية الذي كان لديه تجاهه. ولكن عندما توصل فرويد إلى فَهم ذلك، ثبت أن المشاعر التي نشعر بها تجاه أولئك الذين نحبهم بعمق هي دائما مزيج، وهي مخاض قاتم باعترافنا بمثل خيبة الأمل والغضب تجاه الأب أو الأم. وفي بعض الأحيان، كما هو الحال في كثير من الأحيان عندما نفكر بأفعال الحياة الخمسة الطويلة والمروعة، لا يتطلب الأمر فرويدًا لسبر أغوار العمل الشاق الخاص بالتوفيق بين الآثار المتضاربة بشدة.
وباختصار، إذا كان هناك حكمةٌ واحدةٌ يمكننا انتزاعها من عقل فرويد، فقد تكون كالتالي: أولئك الذين لا يدركون مشاعرهم يخاطرون بتحوّلهم لدُمى لتلك المشاعر.
وفي عمله الفلسفي الأكثر انفتاحًا، “الحضارة وسُخطها”، أكّد فرويد أن نفسياتنا متعددة الطبقات. ووفقًا لشرحه، بقدر ما بُنيت روما على أنقاض روما الماضية، تُعدّ عواطفنا طبقية: ما هو ماضٍ وفي الأسفل يبقى حيّا ويُخطر بالمعلومات ما هو أعلى، حتى لو رفضنا الاعتراف بذلك. وينطبق قانون الحياة الداخلية هذا أيضًا على طُرق معرفة كيفية ارتباطنا بما يسمى “الحقائق الباردة”.
وفي مقالٍ ينتقد فرويد بحدة، يستخلص الفيلسوف جوناثان غلوفر هذه الحقيقة: إن الحقائق التي ندركها غالبًا ما تنتقيها عواطفنا. ويكتب غلوفر: “إن معرفة إمكانية وجود عوامل غير واعية تشوّه نظرتنا لوضعنا تفرض علينا واجبًا خاصًا للتفحص المُتشكك”[i]
يمكن أن يساعدنا وعينا بفكرة اللاوعي في مراقبة الأفكار الكامنة والمهيمنة على حياتنا، لئلا تُهيمن على فهمنا للعالم؛ فعلى سبيل المثال، مهما كانت الأسباب، هناك دائمًا حشدٌ من الأمريكيين الذين لا يبغضون شيئًا أكثر من فكرة حصول الشخص على شيء مجانًا، خاصة إذا كان الأمر ينطوي على الدولارات المدفوعة من ضرائبهم. وهكذا، خلال المناقشات السياسية الأخيرة حول الرعاية الصحية، وقبل ذلك، إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية، كان اهتمام الكثيرين يَنصَّب على جمع وتقديم حالات النسب الضئيلة من الأشخاص الذين ربما استغلوا النظام حتى لا يعملوا، أو أن يحصلوا على علاجٍ طبي مجاني – كما لو أن القِلة عديمة الحيلة كانت القاعدة وليس الاستثناء. ألا يُمكن لبعض هؤلاء الأفراد المُحافظين الاستفادة من النظر في إمكانية وجود عنصر ضخم من الأنانية أو الكراهية أو كليهما كامنٌ في داخل أنفسهم، وأن هذه المشاعر المنقسمة تقوم بترشيح فهمهم للحقائق؟
على الرغم من أن فرويد لم يكن ميالًا مُطلقًا لأن يكون واعظًا، إلا أن توجيهاته كانت بالتأكيد بأن أي شخص يطمح إلى التفكير بطريقة واضحة يجب أن يسعى جاهدًا ليكون صادقًا بشأن تحيزاته العاطفية. وبالطبع هذه التوجيهات، كما يوحي غلوفر، يجب ألا تنطوي على التخلي عن المواقف التي تحددها مشاعرك. ومع ذلك، فإنها تنطوي على أخذ الحذر بإدراكك لإمكانية ألا تكون التزاماتك مستندة إلى العقل بقدر ما تستند إلى المشاعر والرغبات غير المُعترَف بها. ليس هُناك فِئة اعتمدت على هذه النقطة الفرويدية الأساسية أكثر من صنّاع الإعلانات.
تُجسد الفلسفة حب الحكمة، ومعرفة أفضل طرق العيش. وبالتأكيد كشف فرويد عن هذا النوع من المعرفة وقدّمه. وإلى جانب ماركس ودوستويفسكي وحفنة من الآخرين، كان فرويد واحدًا من أوائل المفكرين في الثقافة الغربية الذين أخضعوا الضمير لهذا الفحص النزيه العسير. وحتى القرن التاسع عشر، كان إحساسنا بالصواب والخطأ يُعد مُقدسًا، ومُرتكزًا على الله أو العقل أو كليهما. لكن فرويد اكتشف أن الضمير غالبًا ما يكون غير متسق وغير عقلاني وأحيانًا يكون حماقة صريحة. وفي النهاية، اعتقد فرويد في كثيرٍ من الأحيان أن القاضي الجالس فوق أكتافنا هو من يقودنا نحو الاضطراب العصبي وليست دوافعنا السياسية.
ويرى فرويد أن المُثُل العليا المُفرِطة -كتحريم مشاعر الشهوة أو تحريم كُرْه أحبَّائنا- إنما تُوقِف على الضمير كلبًا شرسًا نابحًا ينهش من جسد تطلُّعاتنا للسعادة نهشات كبيرة. وعلى عكس الأخلاقيين الصارمين مثل كانط وكيركيغورد، أكّد فرويد أن البشر يولدون بقيود نفسية وجسدية. ونتيجة لذلك، كان ينتقد بشدة المثل الأعلى المسيحي بأنه لا ينبغي لنا أن نحب جارنا فحسب، بل أعدائنا أيضًا. وباختصار، حدد الطبيب الوصفة بمعايرة أخلاقنا مقابل قدراتنا النفسية.
ومثل كيركيغورد، كان فرويد منغمسًا إلى ما لا نهاية في مُستنقع القلق والاكتئاب، ومثل هؤلاء المستكشفين العظماء للعقل، غالبًا ما اتهم بأنه مُحبِّط للغاية. ومع ذلك حين ضُغط عليه لتقديم بعض الرؤى الإيجابية للصحة، ألمح فرويد أكثر من مرة إلى أن ما هو أساسي للسعادة هو القدرة على الحب والعمل؛ أي أن تكون قادرًا على أن تستثمر في شيء آخر غير نفسك. وفي عصر تسوده غالبًا مصطلحات فرويدية مثل “نرجسي” والذي-يرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى فرويد- جاء ليؤله الذات، قد يكون خروج المرء من مداره واحدة من الحِكم المثالية والعملية.
الهوامش
Glover, J. Freud, morality, and responsibility. In Philosophy and Psychoanalysis, Brian A . Farrell (ed). New York : Macmillan College Pub. Co. 1994, p. 157.
(منشور ذو صلة: فيلم قصير بطولة أندي مارتين ونورمان لوماكس حول المعاناة والمدينة، مع سرد قصصي من كتاب فرويد Civilization and Its Discontents (قلق في الحضارة)).
____________________
الكاتب: غوردون مارينو هو أستاذ فلسفة ومدير مكتبة هونج كيركيغارد في كُلية سانت أولاف في نورثفيلد في مينيسوتا. وهو مُحرر كتاب Ethics:The Essential Writings (Modern Library Classics,2010) (كلاسيكيات المكتبة الحديثة، 2010) ويقوم حاليًا بتحرير كتاب The Quotable Kierkegaard لصالح دار نشر جامعة برنستون.
المترجم: تركي الحربي باحث ومترجم سعودي.
Freud as Philosopher
by: Gordon Marino
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”