شوق العمري
يتمثل الخير الأعظم في معرفة الطبيعة، وفي إختيار مايلائمها وتجنب مايناقضها، وفي معاشرتها في كنف الوئام والإنسجام.
*ciceron,premis academiques
الفضيلة هي إنسجام النفس مع ذاتها طوال الحياة.
*stobee,eclo
عندما نتحدث عن الفلسفة الرواقية فنحن بصدد رؤية للحياة وليس كيان معرفي محدد يبتغى منه تزجية الوقت والخوض في جدالات حول طرق العيش إنما مطابقة الذات مع الطبيعة من خلال التدريب والممارسة، وحتى نصل لفضيلة الحكيم يجب أن نستشعر من نكون نحن وما طبيعة هذا العالم حتى تتطابق هذه الذات مع صورة العالم الحقة، وهذا التدريب نجده لدى أقرانهم الأبيقوريين وأيضا لدى البوذية والمسيحية الأولى، ولكن هذه الأخيرة يصعب الفصل بها كونها أخذت من التعاليم الرواقية الكثير.
تقدم لنا المصادر الرواقية العديد من المؤلفات على عكس الأبيقورية، والتي من خلالها نستطيع أن نتبيّن الأساس الذي تقوم عليه الرواقية: أن سعادة المرء تأتي من خلال تطابق الذات مع الطبيعة. فيكون السؤال: كيف تتم هذه المطابقة؟ حتى نصل إلى الجواب لابد أولاً أن نطرح سؤالاً آخر أكثر أهمية: ماذا يعني أن تتطابق الذات مع الطبيعة؟ نجد الجواب عند الرواقية: أن نعيش وفقا لمجريات الطبيعة وننسجم مع قوانينها وأن تتحرر النفس من الأحكام الخاطئة فهناك قانون أساسي للرواقية وخاصة المتأخرة و هو: أن هناك ماهو تحت سلطتنا وماهو ليس تحت سلطتنا. فهم هذا القانون هو سبيل للحياة الفاضلة ومن خلاله مثلاً نتطابق مع الطبيعة لكن أولاً علينا أن نتبين ماهو الذي يقع تحت سلطتنا؟ فلاسلطة لنا على الموت والمرض والفقر إلخ لأنها قوانين حتمية في الطبيعة كما تحدث الزلال وتنتشر الأوبئة لكننا نستطيع تحكيم العقل والمقصود هنا بالحكم هو الحكم الصائب، و على الحكيم أن يتدرب ويستعد ويهذب نفسه وهذا هو الواجب عند الرواقيين بمعناه الواسع هو الملائم للطبيعة والموافق لها وهذه الملائمة تحدث عند الكائن بصورة عفوية وتلقائية(أي الإنسجام مع الطبيعة).
وهنا يجب أن نتدرج رواقيًا حتى نصل للمفهوم الأعلى وهو سعادة الفضيلة.
على عكس المنطق الأرسطي الذي رفع من قيمة البرهان نجده عند الرواقية أن الجدل هو المحك والذي أعتبره أرسطو أدنى من البرهان، حيث أن كلاهما يرى بأن المنطق جزء لايتجزأ من الفلسفة ونقلوه من علم برهاني إلى علم جدلي على يد كروسيوس فالجدل هو علم الحق، ولايأخذون بمنطقهم بالماهية ولا الصورة بالمعنى الأرسطي بل أن ماهية كل موجود أو طبيعته الخالصة لا تتألف من العنصر المشترك بين أفراد كثيرين بل هو على النقيض صفة فردية وطابع شخصي ولايوجد خارج الذهن إلا اشياء مشهودة ومحسوسة وبذلك يقولون بأنه لاوجود إلا الكيان الجسماني وكل مايتأثر به هو أيضا كيان جسماني وما ليس بجسماني ماهو إلا : أ- مانعبر عنه: وهو الذي ينشأ في النفس المنطبعة بصورة حسية ما. ب-الخلاء : وهو لاوجود له وتغيب فيه الأجسام. ج- المكان د-الزمان
يطلق الرواقية لفظ الطبيعة على العالم بأسره وعلى الكل المنسجم المحكوم باللوغوس، وتارة على ماينتج الأشياء على الأرض، والطبيعة لديهم كيان متحرك بذاته وهو حي بوصفه جوهرًا ذكي يتحرك ويحس وقال أبولدور “أن الطبيعة هي العالم ومايحتويه حتى الخلاء والمكان والزمان والغاية منه هو تحقيق السعادة واللذة”(بتصرف)
ومن القوانين التي تساهم في الإنسجام مع الطبيعة: هناك ماهو تحت سلطتنا وهو كالتحكم في أهواء النفس وتهذيبها وهناك ماهو خارج سلطتنا مثل الموت والمرض، هذه الإحاطة بمفهوم الطبيعة وكيف أن المطابقة معها ينتج سعادة المرء فهنا نصل للتقسييم الثالث الناتج عن تحكيمات العقل..
حتى نسبر غور هذه الكلمة لابد أن نطرح سؤالا: مالغاية القصوى من العيش؟ يجيبنا الأبيقورين بأنه عيش حياة سعيدة على أكمل أوجه المتعة، ويجيبنا زينون على الوجه الآخر: العيش في توافق، والتوافق هنا يقصد به توافق مع الطبيعة ينتج سعادة المرء أي الفضيلة، إذن كلاهما يتفقان على الوصول للسعادة والعيش في الحاضر ولاغير.
ولكن هذه السعادة أو غاية الغايات كيف نصل إليها؟ الحياة في الرواقية هي حياة محايدة لاخير فيها ولا شر وجل معاناتنا تتأتى من خلال أحكامنا على الأشياء وليس من الأشياء ذاتها وهذه الأنفعالات هي مستبدة لاتخضع لمقياس العقل أي ميل مخالف له تقوم به النفس على هامش الطبيعة وحتى نهذب هذه الانفعالات يجب أن نحاكمها بالمصطلح الرواقي ” العقل الصريح” وهو المعيار الوحيد لماهو خير وماهو شر وهو معيار الحقيقة. ووظيفته هنا هو أن يفرّق مابين التصورات الخيّرة والشريرة منها من خلال تعليقها بالقدر وهو مالا سلطان لنا عليه ويحكم إرداة الإنسان في إبتغاء الفضيلة ولا يطلق على الحوادث الخارجية أحكامًا قيمية كالقبح و الحسن أوالخير والشر لأنها تنعكس علينا بالحزن والغم وهنا ليس بوسع الحكيم الرواقي إلا أن يقابلها بإذعان ولامبالاة. من خلال صورة الحكيم نخرج بنتيجة : أن لذة السعادة هي أن يجد الموجود مايتفق مع بنيته والخير لكل موجود هو موافقته مع طبيعته الخالصة وهنا نجد مناجاة أورليوس” كل شيء يلائمني إذا لائمك أيها العالم” أي يعيش الإنسان وفقا للقانون الكبير الذي يحكم العالم وان يعرف طبائع الأشياء فإذا تبينها وأيقنها تتكفل به الحكمة التي لاتخالف الطبيعة وهي فن يكتسبه الحكيم الفاضل، ويصل به إلى مايسميه الرواقيين” فن الحياة” وبهِ يكسب جميع الفضائل لأنها متحدة مع بعضها البعض كالعدالة والإنصاف والشجاعة فهي مولدة بذاتها إلى السعادة حتى يصل إلى أفق الوحدة العالمية وهي القول بوجود رابطة أخلاقية تربط بين الآلهة والإنسان. هذه الرابطة هي أوج التعاطف الكوني عند الرواقين فهي تقوم على ترابط الأشياء بينها برباط مقدس الكل منسجم في الكل فالكون واحد والعقل واحد مشترك بين جميع الكائنات إذ لاوجود إلا للحقيقة واحدة من الكمال وهي التي تربط جميع الكائنات بعضها ببعض.
هل نستطيع نحن أبناء هذا اليوم أن نستفيد من التعاليم الرواقية؟
في العصر الحالي نحن كمن يقف متأملا أمام لوحة يرسمها التاريخ كل زاوية منها تحمل كمًا هائلاً من المعارف والفلسفات والنظريات المختلفة مروراً بالفلسفات الشرقية وما قبل سقراط إلى الطعنات(والتي ذكرها فرويد وهي الكوبرنيكسية والداروينية واللاوعي) التاريخية الكبرى وصولاً إلى المادية العلمية أمام عصر العولم والرأسمالية مجابهين هذه الصراعات الكبرى في تاريخ يكرر نفسه إذن كيف ينبغي أن نعيش؟ هل القيم الأفلاطونية وحدها كافية او الأبيقورية او الرواقية أو الماركسية؟ كيف نحسم الأمر مع كل هذه الأنساق الكبرى، والتعابير المترفة من قِبل علم النفس وهل نحن إنسان بروتاجوراس مقياس كل شيء؟ أم ذرة من كم هائل من الذرات تجوب في فضاءات الكون؟ من نحن وكيف نكون وإلى أين وماذا عن هذه اللحظة؟
وهل حقا نستطيع أن نتطابق مع الطبيعة ويكون لنا سلطان عليها؟ وهل فعلاً نعجز عن منع الموت مع كل هذه التطورات العلمية ونظريات خلود الإنسان؟
في الحقيقة يصعب تطبيق العديد من النظريات الفلسفية كالنفعية لدى بنثام، ومعيار الحرية عند كانط
فالكائن ملزم بالآخر فهو ليس وحيدًا إنما يشاركه في العيش آخرين من جنسه، والإنسان لاينتمي لمكان معين أو معتقدًا معين إنما ينتمي إلى العالم بآسره، فهو في نهاية المطاف كائن عالمي، وفي عصر العولمة والإمبراطورية، وهذا ماتقوله لنا الرواقية فلنا مقامٌا كوني لانُستَعبد به أخلاقيًا ولا عقائديًا، وليس لنا حدود. هذا العالم كله وطني.
يخبرنا زينون بأن الغاية القصوى من فرض القوانين وقيام الإمبراطوريات( بالمعنى القديم للفظ) وهو تجاوز تشتيت الكائنات وأن يهنأ كل كائن بحياة رغيدة لاتفرقهم القوانين والأحكام وما إن تتحول إلى غير ذلك يقول لنا سينيكا “ما إن تمل من وحشة المكان حتى تجد الكون كله مكان فترتحل فيه فكل العالم هو وطنك” وتنتمي إلى كله لاجزئه لايستعبدك به أحد حتى أهواء النفس عش مؤمنا بهذه الفكرة وأنغمس في اللحظة الهانئة، وأن من يعود نفسه على العدل والصدق والشجاعة تحفه الفضيلة بالسعادة فلا الغد كتابٌ يقرأ ولا الماضي كتابٌ فنمحيه، ولكن هي اللحظة والحاضر
تحفة جمالية يجب أن نعيشها.
إذن يبقى السؤال الأكثر حيوية: كيف يمكن أن نستفيد من الرواقية؟ في نظري( بعيدًا عن إستفادة العلاج المعرفي السلوكي الحديث) أجد أن هناك مبدأين من الجيد أن نعود إليهما مع الحفاظ على منتجات هذا العصر وأعني:
مبدأ التوافق مع الطبيعة أو الإنسجام
مبدأ المواطنة العالمية أو الأخوة البشرية