Design: A Happening Life
BY Bell Hooks
رافقني طوال حياتي هوس بمتعة التصميم، إذ قلما ولد إنسان في هذا العالم الحافل بالأحداث دونما رغبة فطرية لامتناهية في التصميم. كان حلم طفولتي أن أكون مهندسة معمارية – ومازلتُ إلى يومنا هذا أتمنى لو احتفظت آنذاك بخططي لبيت الأحلام. “إنه تجلي الفن في العمارة… لا فن الكتب أو الفصول الدراسية، بل الفن الذي ينبثق من الخيوط الناظمة للأشياء”. هكذا يصف المهندس المعماري المتميز (هارويل هاميلتون هاريس) عمل (فرانك لويد رايت).
إنه فن ينبع من الداخل، يملؤ المخيلة بتيار من الصورٍ الحيةٍ التي تثير رغبة عارمة لتجسيدها في المباني الحية؛ كما يُحفّز أيضا شعور صاحبها بحقيقة ذاته وبكونه جزءاً من ذلك التيار الحي؛ إذ يصبح أكثر حساسية لنبض الحياة في الأشياء، يغمر نفسه في كل شيء دونما وعي؛ مستشعرا الوحدة والاستمرارية في كل الأشياء؛ مبتهجًا بإعادة اكتشاف نفسه في هذه التعبيرات، ومبتهجاً كذلك بثراء وتعددية إمكاناته في الوجود.
تستدعي هذه الرؤية للهندسة المعمارية عالماً من التواصل الداخلي. إنها التوق إلى صنع مثل هذا العالم الذي كادت أن تطويه غياهب النسيان؛ حيث لا يكتب البقاء لأي شيء في ثقافتنا مالم يكن خاضعا لأنظمة الاستغلال أو الاضطهاد، وللرأسمالية الأبوية المنحازة لتفوق البيض على وجه الخصوص.
يبدو أن فن التصميم اليوم لم يعد يعني الكثير للغالبية من الناس؛ فمفهوم “التواصل الداخلي” ليس بالنسبة لهم سوى حلم رومانسي في الوقت الذي يتدافعون فيه لتحقيق تخيلاتهم المادية، معتقدين -كما يتردد دائماً – أن الاستهلاك هو السبيل الأوحد للوصول الى النشوة. أشعر بمرارة من الأسى في كل مرة أواجه فيها الطرق الكثيرة التي تسلب فيها الرأسمالية التقدمية الشروط الثقافية التي من شأنها أن تمكّن الجميع – بما فيهم الفقراء – من إمكانية تعلّم التقدير الجمالي لفن التصميم.
لقد تعلمت تقدير الجمال من (بابي) والدة والدتي التي لم تكن تعرف القراءة والكتابة. كان فن التصميم بادياً للعيان في الملاحف التي قامت بحياكتها سواء ما كان منها مجموعا بغرابة أو ما كان منها بعناية وفق طراز خاص ونمط. من المحزن أن القدرة على تقدير الجمال ليست فطرية، ولا شك أن البعض وُهبوا منذ الولادة حساسية مرهفة للجمال، إلا إن الغالبية منا يجب أن تتعلم كيف “ترى” هذا الجمال، كذلك يجب على أولئك الموهوبين التدرب على فن رؤية الجمال من أجل الحفاظ على مواهبهم.
حينما أتجول في حي (القرية الغربية) و أدخل المتاجر التي تبيع القطع الأثرية (الأثاث، الأواني، الأطباق، حوامل الشموع، المصابيح وغيرها) والتي كانت في السابق من مقتنيات منازل الطبقة المتوسطة والطبقة دون المتوسطة؛ فإني أفكر بالطريقة التي تتحكم من خلالها الطبقة الاجتماعية في تحديد علاقتنا بفن التصميم. يصعب على المرء أن يتصور أنه وحتى فترة الخمسينيات القريبة؛ كان بإمكان الأسر غير الميسورة أن تمتلك كرسيًا أو طاولة مصممة بشكل رائع.
أما اليوم، فلم يعد فن التصميم متاحا للجميع. إنه يبدو متاحاً فقط لأولئك القادرين على تحمل تكاليفه، أو لأولئك الذين عُلموا طريقة التفكير في الجماليات. إن مجرد امتلاك الشخص للمال لا يعني امتلاكه نظرة جمالية لفن التصميم، ومع ذلك فهناك بيداغوجيا يومية في ثقافتنا، غير أن تعاليمها متاحة حصرا لمن يكون منا منتميا إلى طبقة ذات امتياز اجتماعي، حينها فقط يعرف أي مجلة يختار، وأي متجر يرتاد، ومن أبرع مصمم يمكن استئجاره.
تُقدم الكثير من المجلات الشعبية توجيهات لمن يرغب في معرفة أين تباع القطع البديعة المصممة بشكل متقن. أتأمل مرة أخرى في هذه القطع الأثرية التي غالباً ما تتواجد في منازل الطبقة دون المتوسطة والفقيرة والتي يبدو فيها فن التصميم مستلبا وممسوخا، مثل الكراسي الرخيصة التي لم تعد تصنع من الخشب “الحقيقي” حيث تتفكك بسهولة من كثرة الاستخدام. في بعض الأحيان، أشاهد في هذه المتاجر قطعاً أثرية مصممة بمهارة كانت سابقاً موجودة في أحد منازل طبقتنا العاملة. لم نعد نمنحها التقدير الكافي لأن عقولنا أصبحت في توق للوصول إلى الرمز التالي للمكانة المادية*.
لا يشير هذا إلى فشل الفقراء والطبقة العاملة في الاستثمار في رأس المال الثقافي، بل يشير إلى تلك اللحظات التاريخية الإشكالية عندما شوهت الرغبة في المكانة المادية قدرتنا على تقدير قيمة الشيء. فمثلاً نشأنا جميعًا على ملاحف جميلة مصنوعة يدويا تغطّي أسرّتنا. وبينما كانت جدتنا تعتبرها رمزاً جمالياً، كان أطفالها يتطلعون إلى اليوم الذي يتمكنون فيه من إزالة تلك الملاحف “القديمة” واستبدالها بالبطانيات والأغطية الجاهزة من المتجر. ولكن عندما بدأ الزبائن الأثرياء في توثيق الإحساس بالملاحف القديمة من خلال وسائل الإعلام كأشياء قيّمة، بدأ أفراد أسرتي بالنظر إليها بشكل مغاير. لم يكن جوهر الأمر القيمة الجمالية بل القيمة المادية. وفي المحصلة النهائية، فإن إعادة الإنتاج الرخيصة للملاحف عتيقة الطراز لا تزيد الزبائن رهافة في الحس الجمالي.
إنه يبدو واضحاً سواء كنا نتحدث عن منازل دون المستوى أوعن غلايات شاي وأباريق قهوة وملاحف أن النظام الاقتصادي الذي تديره الشركات ضامنٌ لقبول معظم الأفراد لفكرة أن المكانة الناشئة عن الاستهلاك المظهري هي أكثر أهمية لسعادة الأفراد من تلك المرتبطة بالجماليات. في عالم فاسد كهذا، فإنه يجب على الرؤية التي وصفها هارويل هاميلتون هاريس لفن التصميم أن تكافح للحصول على معنى. في الخطاب الذي ألقاه في الخمسينيات شارك هاريس الطلاب الخريجيين هذه الرؤيا: “لا تدع التصميم يصبح روتيناً. ابدأ كل تصميم جديد بجو من الإثارة وشعور بالثقة أن شيئا جديدا تماما سيخرج منك وليس شيئا مكررا. إنها حياة من الاكتشاف – اكتشاف طبيعتك واكتشاف طبيعة الكون. إنها إحدى الطرائق التي ترعرعت فيها شخصيتك. أنا لا أتحدث عن الهندسة المعمارية كمصدرٍ للعيش؛ أنا أتحدث عن الهندسة المعمارية كالعيش نفسه”.
لتحقيق هذه الرؤية، على فن التصميم أن يكون مشكلا لطريقتنا في العيش، وحاملا لقيمة روحية. علينا أن نعيش حقًا. ففي حياة حافلة بالأحداث؛ يكون هناك معنى لفن التصميم. في عالم كهذا، يقوي كل تصميم نصادفه إدراكنا بقيمة الحياة، ويجعلنا قادرين على اختبار الفرح والسلام.
خلال حياتي، كان المبدأ الأساسي الذي طالما أرشدني في التعامل مع قضايا فن التصميم (سواء كان ذلك رسم مخططات ابتدائية لتجديد مساحة المعيشة، أو أغلفة الكتب، أو الطريقة التي أختارها لإنشاء تصميمات للمجلدات) هو محاولة العثور على البهجة والسرور في كل ما هو بسيط. أنا معجبة بما يحثنا عليه ذلك الملصق الدعائي:”عش ببساطة حتى يتمكن الآخرون من العيش ببساطة” غالباً ما يساء فهم الدعوة إلى التركيز على البساطة حيث لا يفهم منها سوى المطالبة بالعيش دون جمال أو رفاهية، أي دون تقدير “للأشياء الراقية”. بالنسبة لي، كان ذلك يعني دعوة دائمة للبحث عن الجمال الذي يتجاوز الظواهر البسيطة ، من أجل العثورعليه في ما هو يومي. كان قراري بالانتقال إلى التأنّق في البساطة مدفوعًا بمحاولة التخلص من عبودية الإفراط. كان هذا شاملا لطرق التفكير التقليدية في التصميم والتي بدت وكأنها تشوش على رؤيتي الجمالية.
قاد الإخلاص للعثور على جوهر بسيط النحات والمصمم الياباني إيسامو نوغوتشي إلى صياغة رؤية دقيقة عن عالم يتجاوز الفن ، حيث أعلن بكل ما استطاع من جرأة: “إنّ العمل الذي يتألف من ما هو أساسي حقًا آخذ في الانقراض. بل يكاد يوشك على الاختفاء التام. بمعنى ما، سيكون عملاً غير مرئي. لم أصل بعد إلى تلك المرحلة، لكنني قد أمضي إليها بعيداً إن عملاً كهذا لا يدعي أنه فن. فلا شيء فيه يستدعي الملاحظة إذ يبدو وكأنه قد سقط من الجنة. ”
في رؤية كهذه يكمن أملنا. إنه حلمٌ في عالم يتيح لنا فيه فن التصميم أن نعيش وأن نموت باكتمال، أن نقترب من الجنة لنعلم أن العظمة السماوية موجودة دائمًا من أجلنا. علينا فقط أن نصمم وأن نواصل بلا توقف تصميم حياة تكون فيه هذه الرؤية مشهودة ومدركة من الجميع.
________________________________________________________________
* status symbol رمز المكانة أي رمز الحالة الاجتماعية أو المميزة هو مَعْلَم محسوس مرئي وخارجي يدل على مكانة الفرد الاجتماعية ومؤشر محسوس على حالته الاجتماعية أو الاقتصادية. الكثير من السلع الكمالية غالباً ما تعتبر رموز المكانة.