د. معجب الزهراني
هاهي السلسلة الفلسفية التي تواصل إصدارها صحيفة اللوموند الفرنسية تنحاز مجددا إلى السياق الفرنسي لتكرس أسماء مهمة لكنها لا يمكن أن تكون الأهم في السياق الأوروبي المتسع . فمن له اطلاع جيد على تاريخ الفلسفة قد يتوقع تخصيص الإصدار الرابع لجون لوك (إنجلترا ) أو لاسبينوزا ( هولندا ) أو لإيمانويل كانط ( ألمانيا ). لكنه خصص لفولتير الذي يعده كثيرون ، حتى في فرنسا نفسها، أقرب إلى الأديب والمثقف الاجتماعي العملي منه إلى الفيلسوف المحترف. لقد أشرنا من قبل إلى أن من الشروط التقليدية لاستحقاق صفة الفيلسوف تقديم أطروحات فردية جديدة متميزة، وإبداع سلسلسة من المفاهيم النظرية التي تخدم الأطروحة بقدر ما تغني خطاب الفلسفة في عمومه وتأخذه للأمام خطوات جديدة. ولم يعرف لفولتير شيء من هذا. الذي عرف عنه، وعرف به لدى الجمهورالعام أمران أساسيان. الأول منهما قدرته العالية على استعمال اللغة الأدبية بطريقة تجمع بين السخرية اللاذعة والتشخيص الدرامي للمواقف والقضايا الاجتماعية.
والأمر الثاني انخراطه المبكر في صراعات حادة مع المؤسسات الرسمية في مجتمع نهضوي حيوي بدأت أفكار عصرالتنوير تهز مرتكزاته وتخلخل مجمل قيمه وقناعاته . أنكون إذن أمام شخصية “مثقف إشكالي” ملتبس وعصي على التصنيف ؟ . نزعم ذلك ، بل ونضيف أنه ظل مثقفا حرا موزعا بين نزعات وتوجهات مختلفة حد التناقض أحيانا. فهو ينتمي لعائلة برجوازية مقتدرة ورث عنها حب الشهرة والثروة والحياة الناعمة. وفي سن مبكرة أبدى ولعا بالشعر والقصص والمسرح وكتب عددا من الأعمال التي تؤكد مواهبه في هذا الحقل الإبداعي. لكن الأديب الشاب الذي كان يبحث عن مكانة عالية في مجتمع النخبة، لم يكن ليرتاح للموقع الذي وصل إليه أو للمكاسب المادية والمعنوية التي حققها . فروح المبدع المتمرد من جهة، والتعلق بقيم العدالة الاجتماعية المفتقدة من جهة أخرى ، ظلا بمثابة حافز عميق يغريه بمعارضة الوضع السائد فيستجيب له في الحال . لهذا السبب كانت كتباته الأدبية الأولى، وتدخلاته في الصالونات الأدبية المعتبرة في عصره ، كافية لمحاكمته ومن ثمة سجنه في قلعة الباستي الشهيرة وهو في العقد الثالث من عمره ( ولد عام 1694) .
فالتحولات الكبرى التي تحققت في عصر النهضة لم تحول الفكر النقدي- أو النقد الفكري – إلى تقليد شائع. خاصة حين يتجه إلى علية القوم الذين لم يكن لأحد أن يتعرض لهم ويتوقع النجاة من العقاب لاحتكارهم جل السلطات الدينية والدنيوية في فرنسا وخارجها. ورغم عنف تجربة القمع المبكرة هذه إلا أنها لم تكن لتغريه بالتصالح مع طبقتة، وغض الطرف عن وضعيات كان يراها مثالا حيا للفساد والظلم الاجتماعي . فهو لم يكن ينتقد ويجابه بدافع الشهرة أو المغامرة الفردية غير المحسوبة ، بل لأنه بدأ ينخرط عمليا في ” فكر التنوير” الذي هو فكر عقلاني نقدي إنسانوي جديد كان قد بدأ يكتسح أوروبا ويطمح إلى إعادة صياغة العلاقات في مجملها، وعلى رأسها علاقة المثقف بالسلطة والدولة بالمواطن. هذا البعد الإبستمولوجي العام هو ما يسمح لنا بتفهم التحول الذي طرأ على خطاب فولتير ، وليس على رؤيته الفكرية العميقة، بعد نفيه إلى إنجلترا . فالخطاب التنويري هناك لم تكن تهيمن عليه الصبغة الأدبية ولم يكن مولعا بالنظريات المجردة، بل كان خطابا تجريبيا عمليا نفعيا في المقام الأول .
لهذا السبب يبدو أن السنتين اللتين قضاهما بين الأوساط المثقفة الأنجليزية قد ساهمتا بشكل قوي في تحوله من أديب ساخر إلى مفكر من أبرز ممثلي عصر التنوير ورموزه، وهوعصر فلسفة وفلاسفة بامتياز. فهناك تعرف بشكل جيد على أفكار جون لوك وإسحق نيوتن. وحينما عاد إلى فرنسا جاءت أولى كتاباته الفلسفية متأثرة بهذين المفكرين ، وبمذهب الكويكرز بشكل خاص ، وإن ظل يستعمل الشكل القصصي لتشخيص أفكاره والترويج لها على نطاق واسع . ونصوص مثل ” كانديد ” و ” جاك القدري ” هي قصص فلسفية تباشر النقد الاجتماعي بطريقة ترميزية مواربة ، مثلها مثل ” الرسائل الفلسفية ” التي كتبها في مرحلة متأخرة نسبيا. أما رسالته الشهيرة بعنون ” وثيقة عن التسامح ” فتستحق وقفة متأنية لأنها جاءت بمثابة خاتمة لفكره وحياته. فهناك شخص بروتستانتي يدعى جون كالاس من تولوز، جنوب فرنسا ،اتهمه رجال الكنيسة الكاثوليكية المتعصبون بقتل ابنه، وأقيمت له محاكمة عاجلة أصدرت حكما بإعدامه في إحدى الساحات العامة .
وما إن سمع فولتير بهذه القضية المذهبية الطائفية التي هزت الرأي العام حتى قرر أن يعيد الاعتبار إلى الضحية البريئة كي لا تتكرر المأساة. وبعد الانخراط في المهمة والنجاح في المسعى كتب ذلك النص الذي يعد عملا تأسيسيا لمبدأ التسامح الذي أصبح يمثل فكرة عليا عند النخب المثقفة كما عند عامة الناس منذ تلك الفترة بشكل خاص .
فالتسامح بالمعنى الجديد لم يعد منحة من مقتدر لمحتاج، بل قيمة أخلاقية عليا معتبرة، وحقا قانونيا لكل ذات عند كل آخر وغير . هكذا لم يعد المفهوم يسمي موقفا أخلاقيا كريما أو نبيلا تتفضل به الدولة على المواطن، والأغلبية على الأقلية، والكنيسة الرسمية على مخالفيها أو على المختلفين عنها ، بل هو حق قانوني يساوي بين جميع الأفراد والجماعات ، والمعيار هو مبدأ ” المساواة” بين المواطنين كافة. وبصيغة أوضح، وأدق ربما، نقول إن فولتير بلور مبدأ التسامح في ضوء فكر دنيوي بشري جديد لا يمتلك فيه رجال السلطة السائدة أي سلطة أخلاقية أوقانونية مطلقة ،لا لمجرد أنهم كانوا ضده على الدوام بل لأن عامة الناس في حاجة إلى التعايش وفق تعاقدات اجتماعية جديدة تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات وتفتح الأفق أمام المزيد من الفكر الخلاق والعمل النافع. من هنا تحولت عبارته الشهيرة ” إنني أخالفك الرأي ، لكنني مستعد للتضحية بحياتي من أجل أن تمارس حقك في التعبير عن رأيك بحرية ” إلى ما يشبه الشعارالعام لدى مفكري وأدباء عصر التنوير لأنها تلبي طموحات جديدة لفئات اجتماعية متنوعة بدأت تبحث عن حقوقها المادية والرمزية هي أيضا ولم يعد من المقبول ظلمها وتهميشها.
وفي كل الأحوال فمن المؤكد أن أعمال فولتير في مجملها لعبت دورا أساسيا في تهيئة الحقل الاجتماعي لتقبل تلك التحولات التي بلغت ذروتها مع الثورة التي قلبت الأمور رأسا على عقب عام 1789 ولا تزال تمثل مرجعية لفرنسا العلمانية الحديثة إلى اليوم كما نعلم . من هذا المنظور لا شك أن الباحث الذي لا يعد فولتير فيلسوفا لا يمكنه أن يقلل من مكانته ودوره مفكرا عضويا ومثقفا إشكاليا ضحى كثيرا من أجل كسب رهان الحرية والعدالة والمساواة، وأصبح من أبرز رموز الثورة وأبطالها في المخيال الجماعي الفرنسي، مثله مثل جان جاك روسو الذي عاش في الحقبة ذاتها وكتب في الاتجاه نفسه ، وإن بطريقة مختلفة تخصه وتميزه كما سنرى في الحلقة القادمة.