عبدالله المطيري
تسببت الجائحة الحالية بكثير من القلق والخوف لأننا لم نتنبأ بوقوعها. حين تفشل في التوقع والتنبؤ، فإنك تسمح بخطر أكبر وربما أكبر من قدرتك على التعامل معه. ولهذا السبب تحديدا فإن الشعور بالأمان في العالم يتطلّب منّا القدرة على توقع الأحداث قبل وقوعها. أي أن نتوقع الحاضر والمستقبل معا. يبدو أن هذا الأمر يتطلّب منّا معرفة المستقبل.
وبالعودة لقاموس كامبريدج فإن التوقّع يعني “أن تقول عن حدث ما أو فعل ما أنه سيحدث في المستقبل خصوصا كنتيجة لمعرفة أو خبرة”. ولهذا فإن التوقّع يعني أن نتحدث عن المستقبل ضدا لمجهولية المستقبل. ليس كل حديث يعتبر توقعها فأن تتوقع لا يعني أن تخمّن. كما في التعريف السابق فإن التوقع يعني أن تقول شيئا عن المستقبل نتيجة لمعرفة أو خبرة. إنها إما المعرفة أو الخبرة هي التي تجعل من التوقع ممكنا. في العربية تعني كلمة تنبؤ الحديث عن المستقبل. المتنبئ بشكل ناجح يشارك الأنبياء القدرة على معرفة المستقبل. يمكننا أن نسمي هذه بالنبوءة المحايثة لأنها لا تعتمد على مصدر متعالي ولكن على حسابات أرضية.
السؤال الآن هو: ماذا يعني أن تعرف المستقبل؟ هل سيبقى المستقبل “المعلوم” مستقبلا؟ أليست المجهولية (أي ما هو جديد ومفاجئ ومختلف) هي ما يجعل المستقبل مستقبلا؟ مرة أخرى، القاموسان الإنجليزي والعربي يعرّفان المستقبل بأنه “الوقت الذي سيأتي”. وبهذا يكون السؤال هل يمكن لما هو معلوم أن يأتي لنا؟ أو أنه بالفعل حاضر الآن؟ إذا كان مفهوم الزمان قائم على التغيير كما يخبرنا بذلك الفلاسفة القدماء مثل هيراقليطس، وإذا كان التغيّر غير متوافق مع عالم معلوم، ألا يعني ذلك أن التوقّع يعمل ضد الزمن وبالتالي ضد المستقبل؟ ولكي أجعل من هذه النقطة أكثر وضوحا يجب علينا التفريق بين نوعين من التغيّر: التغيّر المتوقع و التغيّر غير المتوقع أي التغيّر المطلق. الأول هو بالفعل حادث حتى قبل أن يحدث باعتبار أنه ضمن خطتنا. الثاني في المقابل مرُبك فهو بالتعريف خارج معرفتنا.
يمكن إيضاح العلاقة بين المعرفة والزمن من خلال حالة الكائن كليّ المعرفةOmniscient . من الصعب جدا التفكير في كائن كليّ المعرفة داخل حركة الزمن. لقد أدرك علماء اللاهوت أن الإله لا يمكن أن يكون متزّمناً لأن هذا سيعني أنه لا يستطيع معرفة المستقبل. الفكرة هنا أن الإنسان حين يتوقّع فإنه يحاول أن يمدّ سلطته للمستقبل ليجعل منه أقلّ مفاجئة، وهذا ما يعني أنه يعمل باتجاه الغاء المستقبل من زمنه. نقوم باستباق المستقبل ونقول عنه بناء على الحاضر. نقول عنه قبل أن يتحقق، نسابق ذواتنا ونحاول أن نسحب المستقبل لحاضرنا. نحن نربك أمر ما ونقف في الطريق. إننا نحجب أمرا ما.
قد أكون ابتعدت كثيرا في التحليل السابق. دعونا إذن نأخذ عدد من الخطوات للخلف. التوقّع مهم للإنسان سواء في علاقاته مع الآخرين أو في علاقاته مع الأشياء والطبيعة. يبدو أن التوقع شرط ضروري للشعور بالثقة بالآخرين والأمان. أن تثق بشخص ما يعني أن تكون قادرا على توقّع ردود فعله إلى درجة ما. هذا يعني أنه حين تعتبر شخص ما صديق، فإن هذا يعني أن تكون قادرا على توقع أفعالهم. على سبيل المثال الصداقة تتضمن في داخلها أن يكون الصدق متوقعا بين الأصدقاء. لقد كان جان جاك روسو يريد الحد من تواصل إيميل الاجتماعي مع الناس لأن الناس لديهم نزوات ورغبات متقلبة مما يجعل توقع ردود أفعالهم صعبا وبالتالي لا يمكن الوثوق بهم. في المقابل فإن الطبيعة لا تكذب علينا وبالتالي نستطيع أن نتوقع أفعالها متى ما عرفناها. ما يحتاجه إيميل هو أن ينصت للطبيعة ويتعلّم منها. لهذا السبب لا أحاول هنا أن أنقض أهمية التوقّع والتنبؤ للمستقبل للإنسان ولكنني أريد أن أسائل فهمنا للتوقع والتنبؤ. محاججتي تقول أن التوقع شرط ضروري للثقة والأمان ولكنه ليس كافي. نحصل على الثقة في الحقيقة باعتبارها هدية من الأخر. الذات في علاقة الثقة هي في الطرف المتلقّي المستقبل وليس العكس.
لإيضاح فكرتي هذه سأحكي هذه القصة. أحد العشّاق المهتم بعلم النفس قرر أن يدرس حبيبته ليقوّي من أواصر العلاقة التي تجمعهما. قام بإنشاء ملف خاص على كمبيوتره حيث قام بجمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عنها. كان يقول “كلما عرفت أكثر عنها، كنت أقدر على أن أتنبأ بما سيحدث بيننا وبالتالي ستكون قدرتنا على تجنّب المشاكل أكبر”. يبدو أنه هذه هي الفرضية الأساسية خلف مشروعه. الذي حدث في المقابل أنها شعرت بالهيمنة عليها من قِبَله وأنها تخسر ذاتها في علاقتها معه. تشعر أنها لا تجد معه مساحة لأن تكون مختلفة ومفاجئة ولا مكان للخيال والسحر في علاقتهم. ونتيجة ذلك انفصلت عنه. ما كان يفعله هو أنه كان يحاول أن يمدّ من ذاته على حسابها من خلال المعرفة. ولكن ما لم يتوقّعه هو قرارها أن ترحل. وجد نفسه وحيدا وبدون أي شيء يمكن له أن يتوقعه. لقد رحلت عنه لأنه لا توجد مساحها لها لأن تقدم له أي شيء. ولا حتى الثقة. إن التعبير “أنا أثق بك” هي بالأصل ردة فعل لما كان الآخر قد قدّمه ابتداءا.
ولكن ناقدا ما قد يحاجج بأنه صحيح فعلا أن عدم القدرة على التوقّع التي نواجهها اليوم تتضمن عدم القدرة على توقع أفعال الآخرين بل وحتى أفعالنا نحن. ولكن ماذا عن علاقتنا بالعالم؟ بالطبيعة؟ بالكائنات “بلا وجه”؟ هل يجب علينا أن نثق بالطبيعة؟ أقول أنه يبدو أننا لا نثق بالطبيعة لأننا نحاول أن نتحكّم بها بطريقة مبالغ بها. الإنصات للطبيعة جزء أساسي من العلوم الطبيعية ولكنني أعتقد أننا مع التطوّر المتسارع للتكنولوجيا، تحركنا بسرعة من موقف الانصات للطبيعة إلى السيطرة عليها. المعرفة في الأخير هي قوّة تمتد للمستقبل.
لقد ورثنا هدف السيطرة على الطبيعة وكانت المعرفة هي الأداة المناسبة تماما لذلك. المعرفة قوّة كما نقول عادة. ولكن النتيجة كانت هي المزيد من الاغتراب رغم ذلك. كلما زادة قوتنا شعرنا بالوحدة في هذا العالم. ربما قد لا تكون للطبيعة إرادة خاصة بها. وقد تكون بالفعل محكومة بالكامل بقوانين الطبيعة. ولكن رغم ذلك فإن لديها ما تقول. آخريتها ووجودها المنفصل بعيدا عن أهدافنا واحتياجاتنا. أن نستمع للطبيعة كما كان روسو يقترح يعني أن نعتقد أن لديها ما تقوله. أن لديها ما لا نعرفه. أي أن نستمع لآخرية الطبيعة. مع السيطرة والقوّة لا نستمع إلا لصدى أصواتنا الخائفة.
ما يبدو أنه المشكلة هنا هو أن الوسيلة للثقة التي هي القدرة على التوقّع أصبحت غاية في ذاتها. قد يكون هذا الأمر نتيجة للتسويق العالي للتعبيرات الكمّية. لقد نسينا أن ما نسعى له في الحقيقة هو الثقة والأمان. الأمان الحقيقي يأتي من الثقة. في أوقات الحروب تكون لدينا أعلى مستويات الحماية وكذلك أرفع مستويات الاستعداد للدفاع عن النفس ولكنها تحديدا هي الأوقات التي نشعر فيها بأقل مستوى من الأمان. الثقة ليست إلا هديّة نستقبلها. إنها ليست منتجا لأفعالنا بقدر ما أنها هدية نحصل عليها من علاقتنا مع الآخرين. قد تكون الثقة موقفا ساذجا ولكنها ليست موقفا مبني على جهل. الثقة في مغامرة وتتضمن المخاطرة ولذا فهي شكل من أشكال الايمان ونحن نؤمن حين نتوقف عن الحسابات. التوقّع والتنبؤ شكل من أشكال الحساب. المحدودية الأساسية لقدرتنا على التوقّع هي أنها لا تستطيع أن تمنحنا الثقة. إنها ليست سوى تمدد لذواتنا الخائفة. إذا أدركنا الحدود المحتملة والممكنة لتوقعاتنا فإننا سنبدأ في إدراك عدم قدرتنا على التوقع الكامنة تماما في توقعاتنا. وبدلا من مقاومة هذه المفارقة فإنها يمكن أن تساعدنا على أن نكون أكثر تواضعا. إن إدراكنا للحدود يتوازى مع إدراكنا للإمكانات اللامتناهية في هذا العالم ولاتساعه اللامحدود. كما أنه إدراك للانفصال الضروري للسيطرة المتواصلة على العالم. في المقابل فإن الثقة هي ترحيب باللامتوقع مع الإدراك الكامل للمجهولية الكامنة فيه.
*قدمت هذه المداخلة في مؤتمر الفلسفة الدولي في الرياض 8 ديسمبر 2021