تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
هل من المعقول أن نتوقع استمرار العلوم الإنسانية، في خضم أزمة التعليم العالي الوجودية؟
٢٢ أكتوبر ٢٠٢٠
هذا الخريف، مع استعداد طلبة الجامعات لبدء الدراسة بتردد في فصول الدراسية متباعدين اجتماعيًا، أو إعدادهم للخلفيات الافتراضية في منصة زووم (Zoom) للانضمام إلى المحاضرات الجامعية التي يحضرونها وهم في غرف نومهم، خفت صوت النقاش الذي جرت العادة عليه حول أهداف التعليم العالي أمام شواغل أخرى أكثر إلحاحًا. إذ تكافح العديد من الكليات والجامعات الآن من أجل البقاء.
لقد واجهت الكثير من الجامعات تحديات، حتى من قبل أن تؤثر الجائحة بشدة على ميزانياتها، بما يتمثل في انخفاض عدد تسجيل الطلبة، وتخفيض التمويل الحكومي، واحتمالية إعادة الهيكلة المؤسسية. تُغلَق الآن كليات الفنون الليبرالية بمعدلات أعلى، وتتضاعف نسبة فقدان الوظائف في الجامعات (تخلَّصت المؤسسات غير الربحية العامة والخاصة من ما يُقدَّر بحوالي 337,000 وظيفة خلال الفترة مابين فبراير وحتى أغسطس، وفقًا للبيانات الفيدرالية). ويتوقع البعض أن الأمور على وشك أن تزداد سوءًا ما لم يمرر الكونجرس الأمريكي قانون تحفيز جديد مع حزمة مساعدات للتعليم العالي. ويستمر، من ناحية أخرى، ظهور عبارات مثل “نهاية العالم” و “الانقراض” في تحليلات الوضع الراهن المتجردة.
هل يُعقل حتى أن نتوقع استمرار العلوم الإنسانية في خضم أزمة التعليم العالي الوجودية هذه؟ قد يبدو، للوهلة الأولى، أن النقاشات الفلسفية والأيديولوجية الجدلية التي صاغت الأفكار المحافظة والليبرالية للتعليم العالي ليس لديها ما تقدمه لنا الآن. إلا أننا، مع ذلك، نؤمن ليس بأن تلك النقاشات لا تزال ذات صلة بواقعنا فحسب، بل أيضًا بأن التحديات التي فرضتها الجائحة جعلت تلك النقاشات ضرورية لاستشراف أي نوع من أنواع مستقبل الفكر الإنساني.
نشر آلان بلوم الأستاذ بجامعة شيكاغو، في عام 1987م، كتاب “إغلاق العقل الأمريكي” والذي أصبح على نحوٍ مفاجئ من أكثر الكتب مبيعًا. أكد بلوم ومناصريه من المحافظين على أهمية الجامعة باعتبارها ملاذًا من المجتمع، حيث تبدأ فيها نخب المستقبل الأمريكي في تقليد “الكتب العظيمة”. استقطب رأي بلوم، الذي أصبح نقاشًا وطنيًا، ردودًا من النقاد الليبراليين الذين انتقدوا بشدة تقليد “الكتب العظيمة” باعتباره من بقايا النخبوية والقمع الذي يجب التخلص منه إذا كان لأقسام العلوم الإنسانية أن تفي بمهمتها الديمقراطية.
إذا ما رجعنا إلى الوراء قليلاً، فسنجد أن بلوم كان محقاً في بعض ما طرح. فقد توقع بدقة المصير الذي ينتظر أقسام العلوم الإنسانية التي أهملت الأسئلة الأساسية: هل هناك حرية؟ هل يوجد عقاب على الأفعال الشريرة؟ ما هو المجتمع الصالح؟ كيف ينبغي أن أعيش؟ كانت هذه هي الأسئلة التي تجذب دائمًا الطلبة المتميزين إلى أقسام العلوم الإنسانية. فماذا توقع أساتذة الجامعات أن يحدث عندما أبلغوا هؤلاء الطلبة بأن النصوص التي استرعت انتباه الإنسانيين لآلاف السنين لم تكن أكثر من مجرد أدوات لتمكين الأيديولوجيا والقمع؟ مَن يمكن أن يلوم هؤلاء الطلاب على تغيير تخصصاتهم إلى الاقتصاد أو علوم الكمبيوتر – كما فعل الكثيرون الآن؟
لم تكن حجة بلوم قابلة للاختزال في حالته الخاصة بتقليد “الكتب العظيمة”. إنما كانت حجته الأعمق تتمحور حول مفهوم السلطة. لقد استوعب بلوم، مثل الكثير من المفكرين في اللائحة المُقدَّسة الذين كان يطلب من طلابه فك ألغازهم، احتمالية هوان المؤسسات الديمقراطية أمام قوى التكنوقراطية والجشع والمادية والفردانية المفرطة. وحذّر من أنه في حالة عدم الاستمرار في تقدير الجامعات – قبل كل شيء – لقدرتها على تعريف قادة المستقبل الأمريكي بأسس الحوار الحقيقي القائم على الحياة الفاضلة والمجتمع العادل، فمن الواضح مَن هم السادة الآخرين الذين ستخدمهم.
لقد أثبتت تبصرات بلوم صحتها اليوم ليس فقط من خلال انحسار أعداد الطلبة الملتحقين بأقسام اللغة الإنجليزية، والتاريخ، والفلسفة، ولكن أيضًا من خلال نشؤ مفاهيم التعليم الإنساني داخل تلك الأقسام التي تميز تراكم المعرفة العلمية، والنشاط السياسي، وإنماء “المهارات التحليلية”مع الاعتقاد بقيمتها في وادي السيليكون. لكن المفارقة تتجلى في أن هذه التطورات ذاتها هي التي تكشف أيضًا عن ضعف حجة بلوم في كتابه المشار إليه آنفًا – في كون الأسئلة حول الحياة الفاضلة والمجتمعات العادل لا يمكن تداولها إلا في حدود الأوساط الأكاديمية.
تحدث بلوم غالبًا عن “الأربعة أعوام من الحرية” التي يتمتع بها طلابه من النخب، وهي فترة “ساحرة” تقع بين “القفر الفكري” لحياة الطالب العائلية و “التدريب المهني الممل والحتمي الذي ينتظره بعد إتمام البكالوريوس”. إن هذا الطرح – بغض النظر عن دفاع بلوم عن تقليد “الكتب العظيمة” أو قلقه حيال صعود النسبية – يمثل الجانب المظلم لنخبويته فيما يتعلق بالعلوم الإنسانية. وقد كان ذلك محور تركيز أكثر نقاده الليبراليين فطنة. إذ هاجمت مارثا نوسباوم بلوم في مراجعتها لكتابه السابق الإشارة إليه في عام 1987 لتصوره المتغطرس الذي وضع الجامعة كمعقل للحضارة “في خضم الديمقراطيات الفاسدة والمعادية”.
لكن من المدهش كيف أن العديد من نقاد بلوم الليبراليين، ممن يصرحون بإيمانهم بالدور الديمقراطي للجامعات، يعززون – في الوقت ذاته – تصوره حول الجماهير الجاهلة والمتخلفة التي تبدو بأعدادٍ كبيرة خارج بوابات الحرم الجامعي. قد يكون مُستبعدًا أن يتحدث أساتذة اليوم التقدميون بعبارات بلوم ذاتها حول مسؤولية الجامعة تجاه تعليم الجماهير، لكن من المرجح جدًا أن يرفضوا عرضيًا المعتقدات السياسية والدينية التي يؤمن بها شرائح كبيرة من أفراد المجتمع بحجة “التصحيح” المعتاد لما يصرِّحون بأنها أوهام أيديولوجية لطلابهم، وأن يخلطوا بوضوح بين اهتماماتهم البحثية والصالح العام. يدرك الجمهور نتيجة لذلك – وهو على حق – بأن تشكيك السياسيين والمسؤولين في قدرات الجماهير على التفكير بأنفسهم غالبًا ما يوازيه تشكيك الأكاديميين أيضًا. فهل نستغرب، بالنظر إلى التكاليف المادية الباهظة غالبًا للتعليم العالي على الأسر الأمريكية، عندما نجد أن تلك الجماهير لا تُصنِّف بقاء أقسام العلوم الإنسانية في منظومة التعليم العالي تصنيفًا مرتفعًا للغاية ضمن أولوياتها؟
قد تمثل الأزمة الحالية، في هذا السياق على الأقل، فرصةً وتهديدًا في الوقت ذاته. إذ لا ينبغي لأحد أن يقلل من تأثير إغلاق أقسام العلوم الإنسانية وكليات الفنون الليبراليبة وتقلصها على الطلاب والأساتذة والموظفين. ولا يزال هناك، بالتأكيد، عملٌ أكاديمي يتطلب الموارد والدعم اللذيْن لا يمكن تقديمهما اليوم إلّا عبر الجامعات. لكن استمرار التعليم الإنساني يجب ألا يعتمد فحسب على بقاء هذه المؤسسات. مما يعني أنه لا يمكن وصف “الأزمة” وصفًا ملائمًا من خلال عدد الوظائف الشاغرة في سوق العمل الأكاديمي، أو عدد “الكتب العظيمة” في المناهج الجامعية. يجب، بدلاً من ذلك، أن تُقاس صحة العلوم الإنسانية من خلال إذا ما كان مجتمعنا يوفر فرصًا وافرة لأفراده لطرح أسئلة كبرى حول الحياة الفاضلة والمجتمع العادل أم لا.
يتضح لنا، من خلال هذا المقياس، أن العلوم الإنسانية تعيش فترة صحية، على عكس ما يقودنا المتشائمون لتصديقه.
شارك ملايين الأمريكيين خلال الأشهر الماضية، في خضم تفشي جائحة، وحركة احتجاجية وموسم انتخابات رئاسية، في مجموعات القراءة على الإنترنت ونوادي الكتب، وسجلوا حضورهم في الندوات الافتراضية على منصة زووم (Zoom) لمناقشة أعباء التاريخ ومفاهيم الخطاب المفتوح، وشاهدوا محاضرات فلسفية على موقع يوتيوب (YouTube)، وتوافدوا على قراءة المجلات الإنسانية المُطوَّلة (نحن كمحرريْن لإحدى تلك المجلات، ذا بوينت (The Point)، يمكننا أن نشهد أن عدد القراء قد تضاعف تقريبًا منذ شهر مارس 2020م). أولئك الذين يهتمون حقًا بمستقبل العلوم الإنسانية، وليس فقط بجدوى المسارات المهنية المرتبطة بالعلوم الإنسانية، قد يبدأون برؤية مساعي عامة الناس هذه باعتبارها أمرًا أساسيًا وليس ثانويًا لمهامهم.
إن توسع مسارات تعلم العلوم الإنسانية، مع ذلك، يعني أكثر من مجرد زيادة القنوات الإعلامية التي ننقل عبرها الرؤى العلمية. إذ يعني أيضًا التفكير بشكلٍ أكبر – وتقديم الدعم المالي لمَن يستطيع – لخلق فرص للتأمل الإنساني في حياتنا اليومية. يمكن أن يشمل ذلك المساعدة في تصميم مناهج قوية للفنون الليبرالية لطلبة المدارس الثانوية، أو دعم مدارس “الكتب العظيمة” المتنامية مثل مدرسة (Living Water School) في ولاية ماريلاند، أو العمل مع شركات مثل (Books@Work) التي توظف أساتذة اللغة الإنجليزية لإدارة ندوات حول القصص القصيرة في أماكن العملة؛ وتقدير دورات التعليم المستمر (مثل تلك الخاصة بالمهنيين وكبار السن في كلية (Chicago’s Graham School) بشيكاغو) تقديرًا جادًا كما نقدر التعليم التقليدي الجامعي. ويعني ذلك الاضطلاع بتلك الأنشطة ليس بصفتنا خبراء أو حكماء، ولكن بصفتنا شركاء في حوارٍ مستمر حول كيفية العيش سويًا.
لعلنا، عند التفكير في سبب استمرار اهتمام مَن هم خارج أسوار الحرم الجامعي بالعلوم الإنسانية وكيفية ذلك، نصل إلى تصورات جديدة حول كيفية إعادة إحياء محادثاتنا داخل هذه الأسوار. سيمكننا، على أقل تقدير، الادعاء بمصداقية بأننا وافقنا أخيرًا النخبوية المتأصلة في التحقيق الإنساني مع الروح الديمقراطية التي تؤمن بصحة عقول الجماهير التي طالما تميز بها العقل الأمريكي في أكثر حالاته انفتاحًا.
الكاتبان: أناستاسيا بيرغ، أستاذ مساعد في الفلسفة في الجامعة العبرية في القدس، وجون باسكين مدير مساعد في برنامج النشر الإبداعي والصحافة النقدية في المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية، وهما محرران في مجلة “ذا بوينت”. ستُنشَر مجموعة من كتابات المجلة “فتح العقل الأمريكي: عشر سنوات من ذا بوينت” في هذا الخريف.
المترجم: باحث متخصص في العلوم الإنسانية، مهتم بالفلسفة والتاريخ.
How to Reopen the American Mind
Jon Baskin and Anastasia Berg
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”