تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
لماذا يبذل الملايين من ممارسي الديانة الجاينيّة وسعهم لتجنب إلحاق الأذى حتى بالكائنات المجهرية؟
حوار أجراه جورج يانسي
٢٩ يوليو ٢٠٢٠
حوار هذا الشهر في هذه السلسلة التي نستكشف فيها الدين والموت مع بانكاج جاين، الأستاذ المشارك في قسم الفلسفة والدين بجامعة شمال تكساس. وهو مؤلف كتاب “الدارما في أمريكا: تاريخ موجز لشتات طائفة الجاينيَّة الهندوسية” وكتاب “الدارما وإيكولوجيا المجتمعات الهندوسية: القوت والاستدامة” وأعمال أخرى. يعكف حاليًا على ترجمة “جاين دارشان” وهو نص عن الفلسفة الجاينيَّة. وقد ظهر عام 2019 في المسلسل التلفزيوني “قصة الإله” مع الممثل مورجان فريمان.
جورج يانسي: يعرف معظم الغربيين الشخصيات المركزية في بعض الديانات كبوذا وعيسى. لكنهم لا يعرفون الكثير عن مهافيرا، الشخصية المركزية في الديانة الجاينيَّة. تُرى ما الذي يمكن أن نعرفه عنه وعن دوره في هذه الديانة؟
بانكاج جاين: كان مهافيرا معاصرًا لبوذا لكنه لم يكن مؤسس الجاينيَّة. لقد كان المعلم الرابع والعشرين من عظماء معلمي الديانة وما يزال المثل الأعلى الأكثر تأثيرًا لملايين الجاينيّين الموجودين في الهند وفي بلدان أخرى في شتى أنحاء العالم. لقد علّم أتباعه مبادئ الحقيقة ونبذ العنف والتبتل والتخفف من متاع الحياة، وهي المبادئ التي أثرت في زعماء عالميين مثل المهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينغ جونيور، ونيلسون مانديلا؛ وكان مهافيرا يكفّر عن ذنوبه في حياته تكفيرًا مطلقًا بالتأمل والصيام لفترات طويلة.
يانسي: كيف وصل مهافيرا إلى الاستنارة؟
جاين: وُلِد مهافيرا لأسرة ملكية لكنه تخلى عن ثروته وأسرته وجميع ممتلكاته عندما بلغ الثلاثين من عمره وترهبن. لقد اعتاد، أثناء تطوافه في حياته الزاهدة، أن يستغرق في تأملاته إلى حد أنه كان يستطيع بسهولة تجاهل جميع احتياجاته البدينة، بل وحتى جميع الإصابات التي كان يُصاب بها. يؤثر عن مهافيرا في نصوص الجاينيَّة أنه لم يكن يأكل في هذا الوقت إلا الأرز، أو التمر، أو البقوليات؛ وأنه لم يأكل الطعام إلا في 349 يومًا من 4380 يوًما (12 سنة تقريبًا) من فترة تكفيره عن نفسه.
ولأنه ظل مستغرقًا بصمت في تأمله وتفكره طوال هذه الفترة، فقد أساء بعض الناس فهمه وحاولوا إيذائه بشتى الطرق. لكن ذلك لم يُثْنِ من عزمه وثباته إلى أن بلغ درجة الاستنارة في سن الثالثة والأربعين. وقد بلغ درجة التحرر عندما وافته المنية في سن الثانية والسبعين.
يانسي: هل الجاينيَّة ديانة إلهية أم ديانة غير إلهية؟
جاين: الجاينية ديانة غير إلهية، مثل البوذية، فليس فيها إله خلق الكون والأنفس. كان الكون وكانت كل الأنفس موجودة منذ الأزل وستظل في الوجود إلى ما لا نهاية. بالنسبة لملايين الجاينيّين، يبقى معلّموهم وموجّهوهم العظماء مثلهم الأعلى. وتحتوي معابدهم على معلميهم العظماء الأربعة والعشرين (التيرثنقاريون)، ويحافظ أغلب الجاينيّين بانتظام على زيارة هذه المعابد وأداء طقوسهم المُعقَّدة فيها، ولا سيما في أعيادهم ومهرجاناتهم، كيوم المغفرة السنوي وغيره الكثير.
يانسي: هل في الجاينيَّة نص مقدس؟ وماذا تُعلِّم حول الخير والشر والطريقة التي ينبغي أن نعيش بها؟
جاين: في الجاينيَّة طائفتان رئيسيتان ولكلٍ منهما مجموعتها الخاصة المكونة من عشرات النصوص المقدسة. تُشدِّد هذه النصوص على نبذ العنف، والتعددية، والتخفف من متاع الحياة. فعلينا أن نحيا حياتنا بأقل قدر من العنف في أفكارنا وكلامنا وأفعالنا تجاه الكائنات الحية الأخرى. وتشمل الكائنات الحية في الديانة الجاينيَّة الهواء، والماء، والنار، والأرض؛ بالإضافة إلى البشر والحيوانات والنباتات والحشرات.
يانسي: هذا رائع، لكن كيف يمكن أن نتجنب مثلًا أن نطأ نملة أو نقتل ميكروبًا؟ هل ثمة ممارسات بعينها قد تمنع قتل مثل هذه الكائنات الحية؟
جاين: تقرّ الجاينيَّة أن بعض العنف أمر لا مفر منه في حياتنا في هذا العالم، خاصةً العنف الذي يصيب الميكروبات، وبالتالي فالعهد الذي يلزم الجاينيّين عهد مخفف. أما زهاد الجاينيّين صارمة تحرم عليهم ركوب أي مركبة. فهم يلزمون أنفسهم في كل أسفارهم بالسير على الأقدام وإذا ساروا فإنهم يعتنون بتنظيف الطريق حتى لا يدوسوا على أي حشرة مثلاً. وبعضهم يضع كمامة على فمه حين يتكلم أو يتنفس حتى لا يبتلع أي ميكروب. ولا يشرب المتدينون من الجاينيّين الماء إلا بعد تصفيته بعناية وغليه لنفس السبب. كما أنهم يؤدون طقوس المغفرة بين الحين والآخر ليكفِّروا عن أي عنف ارتكبوه دون قصد منهم، حتى بعد كل هذه الممارسات الاحترازية.
يانسي: ما أفهمه أن في الجاينيَّة مجموعة غنية من المعتقدات حول انتقال النفس – التناسخ. ما الذي نفهمه من ذلك فيما يخص تصور الجاينيّين للموت أو ما بعد الموت؟
جاين: في الجاينيَّة، كما في بعض الديانات الأخرى، لا يموت إلا الجسد أما النفس فهي تواصل رحلتها من خلال التناسخ. النفس مختلفة عن الجسد في الجاينيَّة؛ فالجسد أداة تُسْتَخدم لتطهير النفس عبر دورات حياتها المختلفة للوصول إلى الهدف النهائي وهو التحرر (الموكشا). تُستنسخ النفس مرة أخرى في أي نوع من ملايين الأنواع الموجودة على الأرض، أو في الجنة، أو في الجحيم. وتعتمد هذه السيرورة اللانهائية على مدى نبذ هذه النفس للعنف خلال رحلتها عبر الحيوات المختلفة.
يانسي: كيف يمكننا أن نستخدم أجسادنا لتطهير أنفسنا؟ أطرح هذا السؤال لأن ديانات كثيرة أخرى تنظر إلى الجسد على أنه “نجس”.
جاين: الجسد أداة للتكفير عن الذنب، من خلال التأمل والصوم. فلا ينبغي للجسد أن ينغمس في الملذات والمتع وإنما في التجلد وتحمل صنوف المعاناة والصعوبات الجسدية من أجل أن تفلح النفس في تطهير ذاتها من الأعمال السابقة (الكارما). وتساعد عملية التطهر هذه على تقدم المرء نحو التحرر.
يانسي: لماذا قد تتجسد النفس في أنواع مُعيَّنة – قط، بقرة، طائر وما إلى ذلك؟ لقد أشرتَ إلى أن نبذ العنف يُحدِث فارقًا في الحياة التالية.
جاين: في نظام التناسخ في الديانة الجاينية، كلما نبذت النفس العنف وتطهرت كانت الولادة في الحياة القادمة أفضل. الجنس البشري هو الجنس الأكثر امتيازًا، لكن قد تنبذ أنواع أخرى العنف كذلك. على سبيل المثال وُلِد مهافيرا في إحدى ولاداته السابقة على هيئة أسد، وأصبح ذلك الأسد نباتيًا ولم يكن عنيفًا.
يانسي: يحوي العالم الجايني عوالم عُليا وعوالم دُنيا يمكن أن نعتبرها بمثابة الجنة والنار. هل يُنظَر إلى النار على أنها مكان سيء وإلى الجنة على أنها مكان جيد؟
جاين: النار مكان سيء تُعاقب فيه النفس على ما أسلفت من أعمالها السيئة السابقة، بينما الجنة مكان جيد تُكافأ فيه النفس على أعمالها الطيبة؛ لكن الأرض خيرٌ من الجنة ومن النار، لأن الإنسان لا يسعى إلى التحرر وتجاوز عوالم الأرض والجنة والنار إلا على الأرض.
يانسي: أنا وأنت بشر. ماذا نفهم من ذلك عن تناسخنا في المرات السابقة؟
جاين: جميع البشر مفضلون لأن لديهم أعمال طيبة كافية من حياتهم السابقة، مما يمكِّنهم في هذه الحياة من السعي نحو تحررهم.
يانسي: هل كوني فيلسوفًا يعني أنني قد استُنسِخت من شيءٍ “أسمى” أو أقل عنفًا؟
جاين: نعم، فكونك فيلسوفًا يشبه أن تكون ممارسًا روحانيًا، وهذا تفضيل يمكّنك من التقدم نحو التحرر. ففرصة ممارستك للفلسفة تعد مكافأة ممتازة لك على أعمالك السابقة؛ ربما كنت في حيواتك السابقة تترقى أكثر فـأكثر في مدارج الرحمة ونبذ العنف والتخفف من متاع الحياة.
يانسي: إذن، لو وُلد المرء كلبًا أو سمكةً، فما هي الحياة التي عاشها من قبل؟
جاين: أهم ما في الأمر لكل كائن من الكائنات مدى نبذه للعنف في حياته السابقة. فالحكايات الجاينيَّة والبوذية تروي أنه حتى الكلب والأسد بوسعه تجنب إيذاء الآخرين دون سبب.
يانسي: هل في قصص الجاينيَّة ما يذكر سبب وجود التناسخ ابتداءً أم أنه واقعٌ حتميٌّ محدّدٌ سلفًا؟
جاين: حتى تتطهر النفس تمامًا لا بد أن تستمر في التناسخ مُجسَّمة في أنواع مختلفة من الكائنات، ولا يوجد مخرج من هذه الدورة اللانهائية. يموت الجسد بانتهاء الحياة، لكن النفس لا يمكن لها أن تموت أبدًا. حتى بعد التحرر، تعيش النفس إلى الأبد في معرفتها الكلية وقدرتها المطلقة في أسمى منازل الكون.
يانسي: ما الذي يجب علينا فعله الآن حتى نحدد التناسخ التالي لأنفسنا في الحياة التالية؟ هل لك أن تقدم لنا بعض المبادئ الأساسية التي قد نتبعها أو نتمثلها؟
جاين: علينا أن نلتزم بالحقيقة ونبذ العنف وعدم السرقة والتبتّل والتخفف من الحياة قدر استطاعتنا. وتبدأ الخطوة الأولى نحو ذلك بالتخلي عن اللحوم والمنتجات الحيوانية. يتجنب الزهاد وأرباب البيوت من الجاينييّن أكل اللحوم؛ ويذهب الزهاد إلى أبعد من ذلك بتجنب أنواع عديدة من الأطعمة النباتية أيضًا للتقليل من جميع أنواع العنف حتى العنف الذي يطال بذور النباتات وجذورها وجذوعها.
يانسي: ما أثر أداء هذه الطقوس المُحدَّدة على النفس وعلى عمليات تناسخها في المستقبل؟
جاين: تعين الطقوس الجانية الجاينيّين على الاحتفاء بحياة معلّميهم وتعاليمهم. إذ تنطوي العديد من هذه الطقوس على آيات وتراتيل عن هؤلاء المعلمين. ويؤدي العديد من الجاينيّين يوميًا طقسًا لطلب المغفرة من ملايين الأنواع الحية التي من الممكن أن يكون قد أصابها منهم أذى في ذلك اليوم دون عمد. وبنفس الروح، فإنهم يطلبون أيضًا المغفرة من عوائلهم وأصدقائهم في يوم المغفرة السنوي. إذ تعين مثل هذه الطقوس على الحد من النزعات الأنانية وتعزّز الشعور بالمودة والترابط بين الجميع.
يانسي: كيف تكون “الحياة الطيبة” أو الحياة الملتزمة وفقًا للديانة الجاينيّة؟ وكيف يؤثر الالتزام بفعل أمر ما أو الامتناع عنه على النفس بعد الموت؟
جاين: دعا معلمو الجاينية إلى تقليل العنف إلى الحد الأدنى وطبقوا ذلك في حياتهم. ولتحقيق هذه الغاية، يتجنب معظم الجاينيّين أكل اللحوم والمنتجات الحيوانية الأخرى حفاظًا على النفس من الأعمال السيئة. كما يظهر الجاينيّون شفقتهم بالحيوانات، من خلال دعم الآلاف من ملاجئها في الهند وفي أمريكا الآن.
يانسي: تُرى ما الحكمة التي تعلّمنا إيّاها الجاينيّة عن الموت، لا سيما أنه أمرٌ لا مفر منه؟
جاين: موت الجسد ليس إلا محطة من محطات رحلة النفس. وتكتمل هذه الرحلة عندما تحقق النفس التحرر وتصل إلى منزلة الكائنات المتحررة التي تقع على تخوم هذا الكون. قبل أن يباغتنا الموت، علينا أن نؤدي واجبنا في مواصلة تطهير أنفسنا. فكلما كانت النفس أطهر عند الموت، كانت الفرص أفضل في ولادة جديدة لاستئناف رحلة التطهر هذه. ولا تصل النفس إلى التحرر إلا إذا كانت طاهرة بنسبة 100% وأن تكون قد نبذت العنف بنسبة 100%.
يانسي: يبدو لي أن معظم الناس يخافون من الموت. كيف تفسر الجاينيّة هذا الخوف؟
جاين: كما في الجماعات الأخرى، لا يُعتبَر الموت من الموضوعات التي يحب الجاينيّون الحديث عنها. ومع ذلك، فإن مرد هذا الخوف هو التوقف المفاجئ لحياة المرء والمجهول الذي يتبع هذا التوقف.
يانسي: لكن لو عشنا حياتنا ونحن نحاول القضاء على العنف ونجحنا في ذلك، أتصور أن ذلك قد يقلل من خوفنا من الموت. أقول ذلك لأن فرصتنا على ما يبدو أفضل في الاستنساخ في حياة أخرى بشكلٍ أسمى.
جاين: نعم، أنت محق في ذلك. فالإنسان الثابت على ممارسة نبذ العنف سيكون أقل خوفًا من الموت. ويؤكد أيضًا الطقس الجايني للترحيب بالموت (السيليخانا) على عدم الخوف من الموت.
يانسي: هل ثمة ممارسات طقوسية معينة يؤديها الجاينيّون حين يوشكون على الموت؟
جاين: يرحب العديد من رهبان الجاينيّة وراهباتها بالموت بأداء طقس الموت – السيليخانا. يتضمن هذا الطقس العزوف الأخير عن الطعام والشراب، وهو البرهان الأخير منهم على تصفير الاستهلاك وما ينطوي عليه من عنف بشتى أنواعه.
يانسي: برأيك ما أهم ما نخرج به فلسفيًّا من الجاينيّة من حيث تصورها للموت.
جاين: على المرء ألّا يخاف من الموت بل أن يحتفي به باعتباره ذروة التخلص من الاستهلاك والعنف؛ ويجب أن يدفعنا خوفنا من الموت إلى الرحمة بالكائنات الأخرى.
المُحاور: جورج يانسي أستاذ الفلسفة في جامعة إيموري، كتابه الأخير هو “عبر الفضاءات السوداء: مقالات ومقابلات من فيلسوف أمريكي.”
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
Don’t Fear Dying, Fear Violence
George Yancy
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”