تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢٤ فبراير ٢٠١٣
مهمة فهم الإنسانية أمر جلَل وشاقٌ للغاية بحيث لا يمكن تركها للعلوم الإنسانية. الفروع العديدة للعلوم الإنسانية من الفلسفة إلى القانون حتى التاريخ والفنون الإبداعية، تصف -جيئةً وذهابًا في تبديل لا نهاية له- خصائصَ الطبيعة البشرية بعبقرية وتفاصيل رائعة، لكنها لم تفسّر لماذا نمتلك طبيعة مميزة من بين عدد مهول من الطبائع المحتملة التي يمكن تصورها. وبهذا المعنى، لم تمثّل العلوم الإنسانية فهمًا كاملًا لوجود جنسنا البشري.
إذن، فماذا نحن؟ يكمن مفتاح اللغز الكبير في الظروف والعملية التي خلقت جنسنا البشري. إنَّ الحالة الإنسانية هي نتاج التاريخ، لا في الستة آلاف الأخيرة للحضارة فقط، ولكن إلى أبعد من ذلك بكثير، فهي عبر مئات الآلاف من السنين. يجب استكشاف كل ذلك: التطور البيولوجي والثقافي في وحدة سلِسة كي نحصل على إجابة لهذا الغموض. وهكذا عندما يُنظر إليه في كليّة عبوره يصبح تاريخ البشرية أيضًا المفتاح لمعرفة: كيف نجا جنسنا البشري؟ ولماذا؟
يفضل أكثر الناس تأويل التاريخ على أنه تكشّف عن تصميم خارق للطبيعة ندين لمؤلفه بالطاعة. لكنَّ هذا التأويل المريح أصبح أقل دعمًا مع توسّع المعارف للعالم الحقيقي. وتضاعفت المعرفة العلمية (التي تقاس بأعداد العلماء والمجلات العلمية) على وجه الخصوص كل ١٠ إلى ٢٠ عامًا خلال قرن. مُزجت أيضًا في التفسيرات التقليدية للماضي قصصُ الخلق الدينية مع العلوم الإنسانية لإسناد معنى إلى وجود جنسنا البشري. والآن حان الوقت للنظر فيما قد يمنح العلم للعلوم الإنسانية، وكذا ما قد تمنحه العلوم الإنسانية للعلم في بحث مشترك عن إجابة أكثر تأصيلًا للغز الكبير.
بدايةً، وجد علماء الأحياء أنَّ الأصل البيولوجي للسلوك الاجتماعي المتقدم عند البشر كان مشابهًا للأصل الذي كان موجودًا في أماكن أخرى من المملكة الحيوانية. وخلصوا باستخدام دراسات مقارنة لآلاف الأنواع الحيوانية من الحشرات إلى الثدييات، إلى أنَّ أكثر المجتمعات تعقيدًا نشأت خلال الاجتماعية العُليا “eusociality” (أعلى مستوى من التنشئة الاجتماعية الحيوانية التي يمكن للأنواع تحقيقها)، وهي الحالة الاجتماعية “الحقيقية”. ويقوم أعضاء المجموعة من درجة التراتب الاجتماعي العليا بتربية الصغار بشكل تعاوني عبر أجيال متعددة. وتقسم العمل من خلال تنازل بعض الأعضاء -على الأقل- لبعض إنتاجهم الشخصي بطريقة تزيد من “نجاح التكاثر” (-التكاثر مدى الحياة-) للأعضاء الآخرين.
تبرز الاجتماعية العُليا كظاهرة غريبة لوجهين، الأول: ندرته الشديدة من بين مئات الآلاف من أنواع الحيوانات المتطورة على الأرض خلال الـ ٤٠٠ مليون سنة الماضية، فقد ظهر الوضع بقدر ما يمكننا من تحديده حوالي عشرين مرة فقط. ومن المرجح أن يكون هذا أقل من الواقع؛ بسبب أخطاء خاصة بالعينات المأخوذة. ورغم ذلك، فنحن على يقين بأنَّ عدد النَشَآت كان قليلًا جدًّا.
علاوة على ذلك، قد نشأت الأنواع الاجتماعية المعروفة في وقت متأخر جدًّا من تاريخ الحياة. ويبدو أنها لم تحدث على الإطلاق خلال فترة التنوع الكبير للحشرات في الحياة المبكرة، قبل ٣٥٠ مليون إلى ٢٥٠ مليون سنة من الزمن الحاضر، حيث اقتربت مجموعة متنوعة من الحشرات في تنوعها من تنوع الحشرات اليوم. ولا يوجد حتى الآن أيُّ دليل على الأنواع الاجتماعية خلال حقبة الحياة الوسطى حتى ظهور النمل الأبيض والنمل المبكر ما بين ٢٠٠ و ١٥٠ مليون سنة. ولم يظهر البشر على مستوى الإنسان إلا مؤخرًا بعد عشرات ملايين السنوات من التطور بين الرئيسيات.
أثبت السلوك الاجتماعي المتقدم بمجرد تحققه في المرحلة الاجتماعية العليا نجاحًا بيئيًّا كبيرًا. يهيمنُ اثنان فقط -من بين عشرين نوعًا مستقلًا من الحشرات- على اللافقاريات في الأرض، وهما النمل والنمل الأبيض. ورغم أنها ممثلة بأقل من ٢٠ ألف من مليون نوع من الحشرات الحية المعروفة، فإنَّ النمل والنمل الأبيض يشكلان أكثر من نصف وزن جسم الحشرات في العالم.
يثير تاريخ الاجتماعية العليا سؤالًا، وهو: بالنظر إلى الميزة الهائلة التي يمنحها السلوك الاجتماعي، لماذا ندر جدًّا شكله المتقدم هذا وتأخر فترة طويلة؟ يبدو أنَّ الإجابة تكمن في التسلسل الخاص بالتغيرات التطورية الأولية التي كان يجب أن تحدث قبل الخطوة الأخيرة نحو مرحلة الاجتماعية العليا. نجد في جميع الأنواع الاجتماعية للمرحلة العليا التي تم تحليلها حتى الآن، أنَّ الخطوة الأخيرة قبل المرحلة كانت بناء عش محمي تبدأ منه رحلات البحث عن الطعام التي يُربَّى فيها الصغار إلى مرحلة النضج. ويمكن أن يكون بناة العش الأصليون أنثى وحيدة أو زوجين أو مجموعة صغيرة التنظيم وضعيفة التنظيم أيضًا. وعندما تُحقَّق هذه الخطوة التمهيدية والنهائية، يصبح كل ما هو مطلوب لإنشاء مستعمرة اجتماعية أن يبقى الآباء والنسل في العش، ويتعاونوا على تربية أجيال إضافية من الصغار. ثم تنقسم هذه التجمعات البدائية بسهولة إلى المخاطرين بأنفسهم والآباء والممرضين الذين يكرهون المخاطر.
ما الذي أوصل نسل الرئيسيات الواحد إلى مستوى الاجتماعية العليا؟ وجد علماء الحفريات أنَّ الظروف كانت متواضعة. فقد كان من الواضح في أفريقيا منذ حوالي مليوني عام أنَّ نوعًا واحدًا من الأوسترالوبيثيسين المعتمد بشكل رئيس على النظام الغذائي النباتي حوّل نظامه الغذائي ليضيف اعتمادًا أكبر بكثير على اللحوم. أمَّا مجموعة حصاد مثل هذا المصدر الغذائي عالي الطاقة والمنتشر على نطاق واسع، فإنها لن تندفع بالتجول كحزمة منظمة بطريقة غير محكمة من البالغين والصغار مثلما يفعل الشمبانزي والبونوبو في حاضرنا. فقد كان من الأكثر كفاءة تملّك موقع تخييم (عش) وإرسال الصيادين الذين يمكنهم إحضار الطعام إلى المنزل ومشاركته مع الآخرين. وفي المقابل، يحمي الآخرون المخيم، ويحافظون على ذرية الصيادين.
استنتج علماء النفس الاجتماعي من الدراسات التي أجريت على البشر المعاصرين حتى الصيادين وجامعي الثمار الذين يخبرنا أسلوب عيشهم كثيرًا عن أصل الإنسان، أنَّ النمو العقلي بدأ مع الصيد ومواقع التخييم. ووضعتْ علاوة على العلاقات الشخصية التي تهدف إلى كل من المنافسة والتعاون بين الأعضاء. فقد كانت العملية ديناميكية ومتطلبة بلا توقف. وتجاوزت كثيرًا في كثافتها أيَّ تجربة مشابهة من المجموعات المتجولة والمنظمة بطريقة غير محكمة في المجتمعات الحيوانية. فقد تطلب الأمر ذاكرة جيدة بما يكفي لتقييم نيات زملائهم الأعضاء، والتنبؤ باستجاباتهم من لحظة إلى أخرى؛ ونتج عن ذلك القدرة على اختراع السيناريوهات المتنافسة للتفاعلات المستقبلية والتدرب عليها داخليًّا.
تطوّر الذكاء الاجتماعي لمرحلة ما قبل الإنسان والمرتكزة في المخيمات كنوع من لعبة شطرنج لا تتوقف. اليوم تنشّط -في طرف هذه العملية التطورية- بنوكُ ذاكرتنا الهائلة بسلاسة عبر الماضي والحاضر والمستقبل. وتسمح لنا بتقييم آفاق التحالفات وعواقبها والترابط والاتصال الجنسي والمنافسات والهيمنة والخداع والولاء والخيانة تقييمًا مختلفًا. فنحن سعداء غريزيًّا برواية قصص لا حصر لها عن الآخرين كلاعبين على المسرح الداخلي. ونعبّر عن أفضل ما في ذلك في الفنون الإبداعية والنظرية السياسية وغيرها من الأنشطة عالية المستوى التي أصبحنا نسميها العلوم الإنسانية.
من الواضح أنَّ الجزء النهائي من قصة الخلق الطويلة بدأ مع الإنسان البدائي (أو مع نوع يرتبط ارتباطًا وثيقًا به) قبل مليوني عام. كان ما قبل الإنسان الماهر حيوانات نباتية إلى حد كبير، وكان لديهم أجسام تشبه الإنسان، ولكنَّ سعة جماجمهم ظلت بحجم جمجمة الشمبانزي عند أو أقل من ٥٠٠ سم مكعبًا. ونمت السعة نموًا حادًّا بدءًا من فترة الإنسان الماهر إلى ٦٨٠ سم مكعب عند هومو هابيليس، و ٩٠٠ سم مكعبًا عند الإنسان المنتصب، وحوالي ١٤٠٠ عند الإنسان العاقل. وكان توسع الدماغ أحد أسرع نوبات تطور الأعضاء المعقدة في تاريخ الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
ورغم ذلك، فإنَّ التعرف على الجمع النادر للرئيسات المتعاونة لا يكفي لحساب الإمكانات الكاملة للبشر المعاصرين التي توفرها قدرة الدماغ. بحث علماء الأحياء التطوريون عن المعلم الأكبر للتطور الاجتماعي المتقدم والجمع بين القوى والظروف البيئية التي منحت طول عمر أكبر وتكاثرًا أكثر نجاحًا لامتلاك الذكاء الاجتماعي العالي. و هناك نظريتان متنافستان للقوة الرئيسية في الوقت الحالي، الأولى: انتقاء الأقارب، إذ يفضّل الأفراد القرابة المضمونة (-أي: الأقارب بخلاف النسل-) ممَّا يسهل تطور الإيثار بين أعضاء المجموعة نفسها، والإيثار يولد تنظيمًا اجتماعيًّا معقدًا، وتنطوي في هذه الحالة على الثدييات الضخمة والذكاء على مستوى الإنسان.
النظرية الثانية التي تمت مناقشتها مؤخرًا: (الكشف الكامل، وكنت أحد مؤلفي النسخة الحديثة.) فالمعلم الكبير هو اختيار متعدد المستويات. وتعترف هذه الصيغة بمستويين يعمل فيهما الانتقاء الطبيعي:
1- الانتقاء الفردي القائم على المنافسة والتعاون بين أعضاء المجموعة نفسها.
2- والانتقاء الجماعي الذي ينشأ عن المنافسة والتعاون بين المجموعات.
يكتسب الانتقاء متعدد المستويات تأييدًا بين علماء الأحياء التطوريين؛ بسبب دليل رياضي حديث على أنَّ اختيار الأقارب لا يمكن أن ينشأ إلا في ظل ظروف خاصة غير موجودة وجودًا واضحًا، والملاءمة الأفضل للاختيار متعدد المستويات لجميع الحالات الحيوانية المعروفة البالغ عددها عشرين حالة من التطور الاجتماعي الأعلى.
أدوار كل من الاختيار الفردي والجماعي محفورة بشكل لا يُمحى (-لاستعارة عبارة من تشارلز داروين-) على سلوكنا الاجتماعي. ونحن مهتمون بشدة -كما هو متوقع- بتفاصيل سلوك من حولنا. القيل والقال موضوع سائد للمحادثة في كل مكان من معسكرات الصيادين وجامعي الثمار إلى البلاط الملكي. فالعقل خريطة متغيرة بشكل مستمر عن الآخرين، حيث يتم تصوير كل فرد منهم عاطفيًّا بظلال من الثقة والحب والكراهية والشك والإعجاب والحسد والتواصل الاجتماعي. فنحن مدفوعون بشكل إلزامي لإنشاء مجموعات والانتماء إليها، سواء كانت متداخلة تداخلًا مختلفًا، أو متداخلة، أو منفصلة، أو كبيرة، أو صغيرة. تنافس جميع المجموعات تقريبًا مع مجموعات النوع نفسه بطريقة أو بأخرى. نميل إلى التفكير في أنفسنا على أننا متفوقون، ونجد هويتنا من خلالهم.
كان وجود المنافسة والصراع الذي غالبًا ما يكون عنيفًا، سمةً مميزةً للمجتمعات بقدر ما تستطيع الأدلة الأثرية تقديمه. فهذه السمات وغيرها ممَّا نسميها الطبيعة البشرية، مقيمةٌ بعمق في عواطفنا وعاداتنا الفكرية، حيث تبدو مجرد جزء من طبيعة أكبر، مثل الهواء الذي نتنفسه جميعًا، والآلات الجزيئية التي تدفع كل الحياة. لكنهم ليسوا كذلك؛ إذ إنها من بين السمات الوراثية الخاصة التي تحدد جنسنا البشري.
السمات الرئيسة للأصول البيولوجية لجنسنا البشري بدأت تتبلور، ومع هذا التوضيح، تتاح إمكانية لتواصل أكثر فائدة بين العلم والعلوم الإنسانية. سيكون التقارب بين هذين الفرعين الكبيرين للتعلم مهمًّا للغاية عندما يفكر فيه عدد كافٍ من الناس. سينظر -على الجانب العلمي- إلى علم الوراثة وعلوم الدماغ والبيولوجيا التطورية وعلم الحفريات في ضوء مختلف. وسيتم تعليم الطلاب عصور ما قبل التاريخ، وكذا التاريخ التقليدي الذي يقدم كله على أنه أعظم ملحمة في العالم الحي.
أعتقد أيضًا أننا سنلقي نظرة أكثر جدية على مكاننا في الطبيعة. لقد صعدنا صعودًا لنكون عقل المحيط الحيوي بلا شك، وأرواحنا قادرة على الرهبة وقفزات خيالية أكثر إثارة من أي وقت مضى. لكننا ما زلنا جزءًا من حيوانات الأرض ونباتاتها. نحن ملزمون بذلك من خلال العاطفة وعلم وظائف الأعضاء، وليس التاريخ العميق أقلها. من الخطر التفكير في هذا الكوكب على أنه محطة عابرة إلى عالم أفضل، أو الاستمرار في تحويله إلى سفينة فضائية حرفية هندسها الإنسان. خلافًا للرأي العام، لا تتنافس الشياطين والآلهة على ولائنا. نحن عصاميون، ومستقلون، ووحيدون، وهشون. فهم الذات هو ما يهم للبقاء على قيد الحياة على المدى الطويل، سواءً للأفراد أو للأنواع.
الكاتب: إدوارد ويلسون هو الأمين الفخري لعلم الحشرات وأستاذ البحث الجامعي الفخري المتقاعد في جامعة هارڤارد. حصل على أكثر من ١٠٠ جائزة لأبحاثه وكتاباته، بما في ذلك ميدالية العلوم الوطنية الأمريكية وجائزتي بوليتزر في الأدب اللاتخيلي. كتابه الأخير “الفتوح الاجتماعية للأرض”.
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
The Riddle of the Human Species
Edward O. Wilson
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”