تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢٨ سبتمبر ٢٠١٣
أُصِبت، قبل بضع سنوات أثناء زيارتي لبكين، بنزلة برد. أخذتني زوجتي، وهي صينية، إلى مطعم محلي بغرض تحسين حالتي. وطلبتْ، بعد أن جلسنا، سلحفاة حية من صاحب المطعم، فلَبَّى طلبها. أجفلتُ عندما قطع النادلون بغير تكلف حلق السلحفاة، ومن ثم سكبوا دمها في كأس. وأضافوا لهذه الكأس المخيفة جرعة من مشروب البيجيو (Baijiu)، وهو مشروب كحولي إيثيلي قوي جدًا. أشار لي المالك والنادلون الذين كانوا يقفون بجانب المنضدة بزهوٍّ بيِّن أن أشرب الدواء الفعّال. انقبضتُ في بادئ الأمر، ثم استجمعتُ شجاعتي فشربته.
شعرت بتحسن في وقتٍ لاحقٍ من تلك الليلة، وكذلك في الأيام التي تلتها، لكنني لم أكن واثقًا من السبب؛ فهل كان ذلك بسبب ما يُسمى بتأثير بلاسيبو Placebo (الدواء الوهمي)؟ أم أن جسدي قد تحسن بالفعل في تلك الليلة، فما عاد للدواء حاجة. أم أن جرعة الدواء المُكوَّنة من شراب البيجيو ودم السلحفاة قد سرَّعت من شفائي؟ لعلنا في السنوات القادمة سنكتشف بعض الخصائص الكيميائية الدقيقة العلاجية لدم السلاحف الذي يحسِّن من أمراض مُعيَّنة.
سيسخر الكثير من الغربيين من فكرة إمكانية أن تكون لدماء السلاحف آثارٌ طبية. لكن سيستمر بعضهم على الأقل في تجرّع صبغة لحاء الشجر أو وضع كمادات الباذنجان التي أوصى بها الدكتور أوز لمعالجة سرطان الجلد. نعيش جميعًا في منطقة مُبهَمة واسعة بين استخدام النزيف بالعلقات والمضادات الحيوية. لقد شاع الطب البديل في السنوات الأخيرة، وأيقظ مشكلة فلسفية أطلق عليها الإبستمولوجيون (علماء المعرفة) اسم “مشكلة التمييز”.
مشكلة التمييز هي بشكلٍ رئيسي تحدي التفريق بين العلم الحقيقي والعلوم الزائفة. تنزاح غالبًا المشكلة عن غرضها إلى معركة بين أنصار نظرية التطور والمؤمنين بنظرية الخلق. وتُرفَض عادةً، في هذا الجدل المضني، نظرية الخلق على أساس أن ادعاءاتها لا يمكن دحضها، (أي أن الأدلة لا يمكن أن تبرهن أو تدحض معتقداتها اللاهوتية الطبيعية). كان أول من صاغ معيار “قابلية الدحض” هو فيلسوف العلوم كارل بوبر، الذي ربما يُعد أكثر فلاسفة العلوم تأثيرًا في القرن العشرين، ويبدو للوهلة الأولى أن المعيار الذي وضعه معيارًا جيدًا؛ إذ يستبعد بلطف الادعاءات الغريبة التي يروجها أصحاب العلوم الزائفة وباعة زيت الثعبان. لكن، هل المعيار كذلك فعلاً؟
يدعي فيلسوف العلوم المعاصر لاري لودان أن الفلاسفة فشلوا في إعطاء معايير موثوقة لتمييز العلم عن العلوم الزائفة. حتى معيار “قابلية الدحض”، وهو المعيار المرجعي للعلم الوضعي، يستبعد العديد من الادعاءات النظرية المشروعة في الفيزياء المتطورة، ويصادق على الكثير من الادعاءات الغريبة، مثل علم التنجيم، إذا كان أنصاره أذكياء بشأن الملاحظات التي تدعم تنبؤاتهم. وأشار مؤرخو العلوم، علاوة على ذلك، منذ توماس كون إلى أن العلم الشرعي نادرًا ما يتخلى عن نظريةٍ ما في اللحظة التي تأتي فيها الملاحظات المُزيَّفة، مفضلين بدلاً من ذلك (أحيانًا لعقود) أن يكتشفوا أدلةً مضادة للخطأ التجريبي. حتى أن الفيلسوف النمساوي بول فاييرابند تخلى تمامًا عما يُسمى بالمنهج العلمي، بحجة أن العلم ليس أسلوبًا خاصًا لإنتاج الحقيقة، بل هو نوع مَعيب من التفكير البشري المُنظَّم (مُحمَّل بالخطأ والتحيز والإقناع البلاغي). النتيجة، لا تؤدي زيادة العقلانية دائمًا إلى تقليص السذاجة.
نود أن نعتقد أن التطبيق الصارم للمنطق سيقضي على الأفكار الغريبة. حتى شخص ضليع في الاستقراء والاستنباط مثل آرثر كونان دويل اعتقد أن وفاة اللورد كارنارفون، داعم بعثة توت عنخ آمون الاستكشافية، ربما كانت بسبب لعنة الفراعنة.
تجلب قضية الطب البديل، وخاصةً الطب الصيني التقليدي (T.C.M.)، شغفًا جديدًا إلى مشكلة التمييز. إذ ينجذب الأمريكيون إلى الوخز بالإبر والأدوية العشبية (أقل من الأدوية الحيوانية كدم السلحفاة)، لكننا نتوق إلى بعض المصادقة العلمية لهذه الممارسات القديمة. ويبحث الصينيون أنفسهم عن طرق لإضفاء الشرعية العلمية على طبهم التقليدي لتقديمه للعالم الغربي، وفصله عن الجوانب الأكثر إيمانًا بخرافات الثقافة التقليدية.
أكد لي سمسار عقارات، بعد عامين من زيارة بكين وبينما كنت أبحث عن مكان للعيش في شنغهاي، أن الشقة التي كنا نتفحصها كانت في موقع مُبارك للغاية. كان بإمكاني عند النظر من النافذة، على علو عشرة طوابق، رؤية منحنى نهر سوتشو كريك وهو يمر من أمام المبنى. أوضح لنا السمسار أن هذا المنحنى وهذا القدر من التدفق يُعتبرُ حسنًا جدًا في فلسفة فنغ شوي الصينية؛ فقد كانت قناة فائضة بطاقة “تشي” الإيجابية.
فأخذت الشقة.
تصدمنا البداهة النسبية للحقائق العامة لفلسفة فنغ شوي (التي تعني حرفيًا “الرياح والمياه”)؛ فببساطة، إذا رتبت أثاثك بأنماط واتجاهات معينة، فسيكون وقع ذلك النفسي أفضل على بعض الناس مما لو كان الأثاث بأنماط أخرى مُعيَّنة. لكن “النظرية السببية” الميتافيزيقية وراء هذه الحقائق هي ما تثير الجدل بشكلٍ أكبر؛ إذ يرى الطب الصيني أن خطوط الطول للطاقة تحدد تدفق قوة تسمى “تشي”، وهذه القوة تتدفق في جميع أنحاء الطبيعة وعبر أجسادنا، مما يسبب الشعور بالانسجام والصحة أو الإحساس بالتنافر والمرض (اعتمادًا على درجة انفتاحها أو انغلاقها).
لا أحتاج، بالتأكيد، أن تكون هذه النظرية صحيحة لتفسير سبب شعوري بانفعال أقل عندما يواجه مكتبي البوابة أكثر مما أشعر به عندما يكون ظهري إليها. ولا أعتقد أنني بحاجة إليها لشرح ذاك الإحساس بالسلام الذي يتسلل إلى نفسي عند النظر عبر نافذتي إلى نهر سوتشو كريك. ربما تفسح نظرية تشي الميتافيزيقية الخاصة بفلسفة فنغ شوي الطريق في المستقبل إلى نظرية تتوافق مع فهمنا للإدراك الحسي أو لعلم النفس. لقد أدت الأدلة السريرية المتزايدة التي تُظهر التأثيرات المُلطِّفة للأدوية الوهمية إلى استنتاج العديد من الأطباء المتشددين أن الاستجابات الفسيولوجية المفيدة (مثل إفراز الإندورفين والدوبامين) يمكن أن تحدث عن طريق إيحاءات بسيطة، وحبوب السكر، والصلاة، والموسيقى، وغيرها من الآليات التي تبدو غير مُبرَّرة. إذن، لماذا لا نضع الأثاث وطريقة توزيعه من بينها؟
ميز أرسطو العلم عن الأنواع الأخرى من المعرفة على أساس أنه يقدم تفسيرًا سببيًا للتجربة التي يمكن ملاحظتها، وأن ادعاءاته منهجية (متماسكة منطقيًا). ووفقًا لهذه المعايير الأرسطية، فإن الطب الصيني التقليدي يبدو علميًا على الأقل إلى حدٍ ما؛ فنظام تشي يقدم أساسًا سببيًا لارتباطات مُعيَّنة داخل علاج الوخز بالإبر، وكذلك مهارات الكونغ فو، وهندسة فنغ شوي، والعلاجات العشبية، وما إلى ذلك.
تغير تعريف العلم بشكلٍ كبير، رغم ذلك، بدءًا من القرن السابع عشر. إذ لم يكن كافيًا أن يكون لديك واقعة سببية منهجية، لأن العديد من الوقائع المتضاربة يمكن أن تناسب نفس الظاهرة التي يمكن ملاحظتها. يمكن، على سبيل المثال، تفسير حركة الكواكب التراجعية من خلال السببية التداويرية البطلمية ، ولكن هذه الصورة السببية أُستغنيَ عنها في النهاية من خلال التحول إلى علم الفلك الشمسي. ما نحتاجه هو التفسير السببي الصحيح والقابل للتحقق؛ وقد نشأ المنهج العلمي (“نموذج الفرض الاستنتاجي” في فلسفة مصطلح العلم) كي نُخضِع التفسيرات السببية لمجموعة صارمة من الاختبارات التجريبية.
هل يمكن أن تكون نظرية تشي علمية بهذا المعنى الأكثر صرامة؟ يبدو أن مذهب الشك منطقيًا هنا؛ لأن أحدًا منا لم ير تشي بشكلٍ مباشر. حتى خطوط طول تشي (أو قنواتها) في جسم الإنسان تظل غير قابلة للكشف من خلال أدوات القياس الغربية؛ ومع ذلك، فإن ممارسي الطب الصيني التقليدي يقضون سنوات في دراسة مخططات ميريديان التشريحية.
هل يلاحق هؤلاء الممارسون وهمًا يستمد سلطته من التقاليد وحدها، أم أننا ما زلنا فحسب في أولى مراحل الاكتشاف؟ تبدو طاقة تشي غير قابلة للتكذيب، وربما عن قريب نعرف ما لا نعرفه الآن. وضع العلماء، في النهاية، نظرية الجين (وحدة الوراثة) وافترضوا حقيقته قبل وقت طويل من ملاحظة أي شخص بشكلٍ فعلي. وقد أُفترض وجود جسيم بوزون هيغز في الستينيات من القرن الماضي، ولم يؤُكَد إلا مؤخرًا في عام 2013. فهل سنتأكد من طاقة تشي باعتبارها الدعامة السببية للتراسل الذي كثيرًا ما يُقر بين الوخز بالإبر والشفاء؟
لم تتوافق ثورة داروين العلمية، في القرن التاسع عشر، مع الطريقة التجريبية لنموذج قابلية الدحض. كان جاليليو يُدحرج الكرات على المستويات المائلة ويُجري ملاحظات مباشرة لتقييم نظرية الجاذبية الخاصة به، لكن نظرية داروين الخاصة بالانتقاء الطبيعي كانت أقل قابلية للملاحظة. وحققت نظرية الانتقاء الطبيعي لداروين، مع ذلك، قبولاً علميًا متزايدًا لأنها شرحت العديد من الظواهر المتنوعة (مثل البناء التكيفي، والتنادد التشريحي، والسجل الأحفوري، وما إلى ذلك). نموذج تشي واسع الحيلة في تفسيراته، ومتجذر بعمق في الصين مثل الداروينية في العلوم الغربية. ولكن هناك فرق كبير بينهما أيضًا وهو بحاجة منا إلى توضيح صريح.
لا تطرح الداروينية سوى ثلاث مكونات رئيسية لمفهوم التطور؛ يختلف الأبناء عن والديهم وإخوتهم، ويشبه الأبناء والديهم أكثر من غير الأقارب، ويولد عدد أكبر من الأبناء أكثر مما يمكنهم البقاء على قيد الحياة في بيئتهم. يمكن ملاحظة كل حقيقة من هذه الحقائق بسهولة، وعندما تضعها معًا تحصل على فهم لمفهوم التطور التكيفي للسكان. لم تُطرح أي قوة ميتافيزيقية إضافية مثل نظرية تشي.
تساءلت، بينما كنت مستلقيًا على طاولة المعالج بالوخز الإبري في الصين مؤخرًا، عما إذا كنتُ متشككًا جدًا بشأن نظرية تشي أو ساذجًا جدًا بشأنها. اشتهر الدكتور تشاو لي في مستشفى هوشان على الصعيد الوطني كمدير ماهر لهذه القوة الغامضة. شرحت له أنني مُصاب بآلام مزمنة بأسفل الظهر. ففحص الدكتور لساني وأخبرني أن آلامي هي في الواقع مشكلة متعلقة بضعف طاقة تشي في كليتي، لكن يمكنه تقويتها. وخزني بعشر إبر في منطقة أسفل الظهر، وثبَّتَ دبوسين خلف رُكبتَيّ، ثم أوصلها بمولد للجهد الكهربائي، وسمح للتيار الكهربائي بالمرور في جسدي برفق لمدة 20 دقيقة بينما كان يسخن ظهري بمصباح حراري كمن يحاول الحفاظ على حرارة بطاطس مقلية في مطعم للوجبات السريعة. لم أشارك في هذا التعذيب اللطيف مرة واحدة، بل عدة مرات بغرض إجراء دراسة شاملة للأمر، وإن كانت عبارة عن مجموعة من الوقائع. ويمكنني أن أقول بصراحة إن ظهري قد تحسَّن في الأيام القليلة التي تلت كل جلسة.
يبدو من المعقول جدًا الإيمان بفعالية الطب الصيني التقليدي، حتى مع بقاء شكوكي حول قوة تشي. يمكن، بعبارة أخرى، أن يمارس الناس نوعًا من “الطب العَرَضي”؛ بمعنى أنه يمكن تخفيف الأعراض المرضية حتى عندما تُشخَص أسبابها تشخيصًا خاطئًا (يحدث ذلك طوال الوقت في الطب الغربي أيضًا). فالوخز بالإبر، ودماء السلاحف، والعديد من العلاجات المماثلة ليست خرافية، ولكنها قد تكون هبة من الحكمة الشعبية العملية. وستظل النظرية السببية المُعَّدة لشرح النجاح العملي للعلاج ليست بذات الأهمية أو الاهتمام لذاك الشخص البسيط المطروح على فراشه مُصابًا في ظهره أو أي مرض آخر.
يمكن للمرء، في النهاية، أن يكون متشككًا في قوة تشي الصينية وفي المنهج العلمي المقدس على حدٍ سواء، لكنه قد يبقى متحمسًا للحقيقة البراغماتية القابلة للخطأ. أغلبنا، في النهاية، مقامرون فيما يتعلق بالعلاجات الصحية؛ إذ نراهن بتجربة أكبر عدد ممكن من الخيارات؛ قليل من الوخز بالإبر هنا، وشيء من الإيبوبروفين هناك، وقليل من دم السلحفاة. ألْقِ على الطاولة ما يكفي من الورق (أو العلاجات)، وفي النهاية قد تربح الرهان. فهل هذه خرافة أم حكمة؟
الكاتب: ستيفن تي أسما هو أستاذ الفلسفة في جامعة كولومبيا بشيكاغو، ومؤلف الكتاب الأحدث “ضد النزاهة”. وسيكون في بكين في منحة فولبرايت في عام 2014.
المترجم: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
The Enigma of Chinese Medicine
Stephen T. Asma
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”