تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
لا يمر يوم لا يذكر فيه الناطقون بلغة اليوروبا الموت باعتباره ظاهرةً ويقينًا على حدٍ سواء
حوار أجراه جورج يانسي
السيد يانسي فيلسوف وأستاذ في جامعة إيموري ألَّف العديد من الكتب حول الأعراق والمجتمعات والعقائد الدينية
١٤ فبراير ٢٠٢١
حوار هذا الشهر في هذه السلسلة التي نستكشف فيها الدين والموت مع جاكوب كيندي أولوبونا، أستاذ التقاليد الدينية الأفريقية في كلية الدراسات اللاهوتية بجامعة هارفارد. ألف جاكوب أولوبونا كتاب “مدينة المائتي إله وإله: إيلي إيفيه في الزمان والمكان والمخيلة” (City of 201 Gods: Ilé-Ifè in Time, Space, and the Imagination) وكتاب “الأديان الأفريقية: مقدمة قصيرة جدًا”. نركز في نقاشنا هذا على التقليد الديني لشعب اليوروبا. (جورج يانسي)
جورج يانسي: يندر هنا في الغرب الذي تهيمن على ثقافته بضع ديانات توحيدية أن تجد من يعرف الممارسات الدينية الأفريقية للشعوب الأصلية ويفهمها. هل شعب اليوروبا توحيديون أم متعددو الآلهة؟ أم هم شيء مختلف تمامًا؟
جاكوب أولوبونا: في دين شعب اليوروبا شيء من هذا وذاك، إذ يختلف عن العديد من ديانات العالم التي تقول أن الكون من صنع إلهي. يركز دين اليوروبا على تجارب الناس الدينية المُعَاشة وليس على المعتقدات والعقائد المنظمة التي نراها في أديان عالمية أخرى كالإسلام والمسيحية. إن تقاليد اليوروبا الدينية متداخلة مع تقاليد شعب اليوروبا وممارساتهم الشفهية. فعالم الروح وجوده متوازٍ مع عالم البشر، ويستوعب عالم الروح الكائن الأعلى والآلهة والأسلاف وكائنات روحية أقل شأنًا تتفاعل مع عالم البشر على مستويات مختلفة.
تتمحور صورة العالم في دين اليوروبا على مفهوم “الآسي” الذي وصفه رولاند أبيودن بأنه “الكلمة العليا التي يجب أن تتحقق” ووصفه بأنه “قوة الحياة” و “الطاقة” التي تنظم كل نشاط وحركة في الكون. تكون الأنشطة الدينية غالبًا ذات طابع اجتماعي يوجهها مختصون بهذه التقاليد وقادة لها وقيِّمون عليها، منهم ملوك مقدسون وعرافون وكهنة وكاهنات ومعالجون، يتكاملون جميعهم في الحفاظ على توازن الكون.
يتصور شعب اليوروبا العالم باعتباره مكوّنًا من نصفين – نصف نعيش فيه وآخر يعيش فيه الآلهة والأسلاف. وتوجَد بين هذين الفلكين قوى هي في الأساس شريرة بطبيعتها – وهم الأجوغون أو المحاربون كما يسميهم واندي أبيمبولا – الذين يجب استرضاؤهم باستمرار، بالقرابين أحيانًا، لمنعهم من إحلال الخراب والفوضى في هذه الأرض. تلعب الممارسات التعبدية البشرية باختصار دورًا أساسيًا في تنظيم أنشطة القوى الشريرة والحفاظ على توازن عالم اليوروبا.
جورج يانسي: تُرفض الديانات الأفريقية الأصلية في الغرب ويصفها مَن لا يعرفها بأنها “بدائية” أو “خرافية”. هل لك أن تعطي القراء الذين لا يعرفون التقاليد الدينية الأفريقية لمحة عن تاريخ وتعقيد شعب اليوروبا وثقافتهم؟
جاكوب أولوبونا: شعب اليوروبا الذي يعيش بشكلٍ رئيسي في جنوب غرب نيجيريا من أكبر المجموعات العرقية في غرب إفريقيا. يوجد شعب اليوروبا كذلك في جمهورية بنين وتوغو وسيراليون والعديد من البلدان الأخرى. ونُقل عدد كبير من شعب اليوروبا، نتيجة لتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، إلى منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، حيث كان لهم تأثير كبير على ثقافة العالم الجديد ودينه.
جورج يانسي: إذن لثقافة اليوروبا وحساسيته تأثيرات هنا بشكلٍ ما في الغرب ولعدة قرون. ماذا عن تواجدهم السكاني في نيجيريا؟
جاكوب أولوبونا: أصول اليوروبا في نيجيريا أكثر تعقيدًا بعض الشيء، وفقًا لأسطورة أصل اليوروبا كان خلق العالم في مدينة إيلي إيفي المُقدَّسة التي ازدهرت فيها حضارة اليوروبا في القرن التاسع ونمت لتصبح إحدى أكبر إمبراطوريات غرب إفريقيا. ويعتقد العلماء اليوم أن مستوطنات اليوروبا الأخرى وثقافتهم الحضرية التي لا تضاهى ومدنهم العالمية تدين بالفضل لمدينة إيلي إيفي – وهي مدينة اليوروبا العتيقة والمقدسة، رغم الاعتراف الآن بأن إمبراطورية أويو هي مصدر لغة شعب اليوروبا الفصحى والمعاصرة ومصدر ثقافته ومنظومة قيمه. وتشير أساطير الأصول الأخرى إلى هجرة اليوروبا من أماكن بعيدة إلى أوطانهم الحالية، لكن هذه الهجرات لم تثبتها دراسات الآثار ولم تثبت في ثقافة اليوروبا على نطاقٍ واسع.
جورج يانسي: كيف ينظر مؤمنو شعب اليوروبا إلى معنى الموت وحقيقته؟
جاكوب أولوبونا: الموت ذلك المصير المحتوم المحسوس حاضر بشكلٍ كبير في الوعي الديني والاجتماعي لليوروبا. كل شيء يذكر حقيقة الموت، الكوزمولوجيا والممارسات الطقوسية المختلفة وأجناس التقاليد الشفهية كالأمثال والأشعار والقصص القصيرة. لا يمر يوم لا يذكر فيه الناطقون بلغة اليوروبا الموت باعتباره ظاهرةً ويقينًا على حدٍ سواء.
شعب الأوو – وهو من اليوروبا – يشبّهون الموت بفرس النهر الذي لا يستطيع أحد أن يحمل جسمه الثقيل، ولا مفر من وجوده ولا مهرب. هذا يذكرنا بمعضلة الطفل المفجوع الذي يقف بجوار جسد والده المتوفى فلا هو يستطيع حمله معه ولا يملك الشجاعة الكافية لتركه وراءه، وهذا يبيّن عجز المرء عند مواجهة الموت.
تصور أيضًا حكايات اليوروبا الشعبية الموت على أنه عجوز متعب يحمل هراوة ثقيلة يقتل بها ضحاياه، ولا أحد ينجو منه، لا الشباب ولا كبار السن ولا الملوك ولا الرؤساء ولا العوام ولا الأغنياء. ويُقال أن الناس عند الخلق وقبل مغادرتهم العالم الآخر يُلقى في عقولهم قبل أن تعي متى يأتي الموت إلى هذا العالم ومتى يعودون إلى العالم الآخر، بيد أنهم لا يعلمون ساعة موتهم أبدًا.
جورج يانسي: هل يعتقد اليوروبا أن على البشر تقبل الموت؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف ولماذا؟
جاكوب أولوبونا: يُفترض أن الموت لا ينهي حياة الشخص، بل هو عبورٌ من عالم الوجود إلى العالم الآخر. لذا يعتقد اليوروبا أن هناك حياة أخرى أو “حياة بعد الموت” يتواجد فيها الموتى كجزء من الكون المقدس.
ثمة أيضًا ردة فعل غامضة تجاه الموت تبعًا للظروف المحيطة بالحدث. إذ يُرحَّب بالموت على كِبَر مثلا باعتباره تحقيقًا لأحد أهم مساعي الحياة. يحتفي المجتمع بمثل هذا الموت بوصفه انتقالاً ضروريًا إلى عالم الأسلاف. ويُستهجَن، من جهة أخرى، موت الرضّع أو الأطفال أو من لم يبلغ الحلم، ولا يُحتَفَى به في كثيرٍ من الأحيان، لأن المتوفى لم يحقق رسالته على هذه الأرض بعد.
كما تندرج الوفيات التي حدثت بأسباب غير طبيعية تحت هذه الفئة. وتحظر التقاليد على كبار السن المشاركة في مآتم الشباب، ليدرأ ذلك عنهم شر الموت، وكذلك لأن موت صغير السن يُعتبَر “موتًا سيئًا” غير جدير باحتفاء كبار السن به. كما يُحظَر على الملوك حضور مراسم العزاء أو النظر إلى جسم الميت.
جورج يانسي: هل ثمة تفسير لدى اليوروبا لخوفنا من الموت؟
جاكوب أولوبونا: بالتأكيد. تكشف أسماء شعب اليوروبا الشخصية الكثير عن سبب خوفهم من الموت. تأمّل هذه الأسماء: إيكوباجامي معناه “دمرني الموت” ؛ إيكوبيلي، “لقد أحدث الموت الخراب في عائلتنا”؛ إيكوجبي، “الموت سلبنا كرامتنا”؛ إيكوموني، “لا يوقر الموت أحدًا”؛ إيكوموفين، “لا يعترف الموت بأي قانون”؛ إيكوباكين، ” قتل الموت البطل” ؛ إيكوبليرو، “قتل الموت السيد” ؛ إيكوسيكا، “ارتكب الموت أعمالا شريرة،” وهكذا.
تجب أيضًا مناشدة روح القتيل للانتقام من قاتله. أخبرتني جدتي لأمي ذات مرة قصة أحد أخوالي الذي قُتل في مزرعة جدي أثناء عمله ثم نُقِلت جثته إلى البيت لأداء طقوس الدفن. كان جدي مسيحيًا متدينًا ورفض أداء طقوس الدفن، مفوضًا أمره إلى الله. فانتقم المقتول لنفسه بطريقةٍ ما، بعد دفنه بأقل من سبعة أيام، بعد أن ظلت روحه تلاحق القاتل أثناء نومه. قيل أن القاتل استيقظ فجأة من نومه وهو يصرخ وروح القتيل “تطارده”. ثم ما لبث أن جاءت الأخبار أنه قد انهار وسقط ميتًا.
جورج يانسي: هل يرى شعب اليوروبا أننا ينبغي أن نخاف من الموت في أحوال بعينها؟
جاكوب أولوبونا: نعم، خاصةً عندما تتكرر الوفيات بشكلٍ غير عادي أو على نحوٍ يتعذر تفسيره. لقد اعتاد اليوروبا البحث عن أسباب الوفاة وضمان عدم تكرارها. فهم يخشون مثلاً موت “الأطفال الروحانيين” المعروفين بأطفال “الأبيكو”.
هؤلاء هم الأطفال الذين يتناسخون ويولدون من جديد ثم يموتون مهما حدث. وهم أطفال عالقون في دورة أبدية تمنعهم من النمو إلى مرحلة البلوغ. موت الأطفال الروحانيين عصي على عقل اليوروبا بشكلٍ كبير حتى قيل أن أطفال “الأبيكو” قد حيَّروا أذكى الأطباء والطبيبات.
يخاف أيضًا شعب اليوروبا من الموت إذا حدث في ظروف غامضة كأن يُتوفى الزوجان بعد حفل زواجهما بيوم، أو أن يموت سباح ذو خبرة في السباحة غرقًا، أو أن يموت حاكم بعد اعتلائه العرش بفترة وجيزة، أو حين يموت فجأة من يتمتع بصحةٍ جيدةٍ دون أن تظهر عليه أي علامات واضحة على المرض، أو أن يموت الأبناء أو الأشقاء كلهم في نفس اليوم رغم تواجدهم في أماكن مختلفة؛ كل هذه الأمثلة تجعل المرء يفكر في أهمية الأسماء الشخصية عند شعب اليوروبا كاسم إيكوديفو الذي يعني “لقد أصبح الموت ريحًا”؛ واسم إيكوسونون، “الموت ليس لطيفًا”؛ وإيكوجايفيسيمي، “يا موت، دع للناس متنفسًا” وإيكودابو، “توقف أيها الموت”.
جورج يانسي: هل هناك علاقة بين الكيفية التي نحيا بها هنا على الأرض وما يحدث لنا بعد الموت؟
جاكوب أولوبونا: لا يبدو أن هناك إشارة صريحة إلى يوم الحساب في الكوزمولوجيا التقليدية لليوروبا كما هو الحال في الإسلام والمسيحية؛ إذ البشر مأمورون بالعمل الصالح في هذه الحياة حتى يُذكَر المرء بأعماله الصالحة حين يأتيه الأجل. وتُقاس شخصية المرء من خلال ما يعمله من فضائل وسيئات أو ما يقدمه من أعمال تستحق الجزاء الحسن. فهذا هو جوهر الدين عند شعب اليوروبا.
يمكن أن يُقال، على سبيل المثال، إن الإنسان الناجح والرابح يجني ثمرة ما قدمه والداه من أعمال صالحة في حياتهم. كذلك قد يقال إن من يعاني في حياته إنما يحصد أفعال والديه السيئة التي قدماها في حياتهما. لذا يفترض أن أحفاد الإنسان الشرير قد يعيشون ليلاقوا العقوبة المفروضة على أهلهم. هذه الفكرة مشتركة بين اليوروبا والمسيحية كما ورد في السفر الرابع والأربعين من العهد القديم.
جورج يانسي: كيف يحزن اليوروبا على موتاهم وكيف ينسونهم؟
جاكوب أولوبونا: يُمْضي شعب اليوروبا الكثير من الوقت ويبذلون الكثير من الجهد في دفن موتاهم. يُقال إن الدفن “اللائق” مطلوب للميت، لا لينتقل انتقالاً مطمئنًا إلى عالم الأسلاف فحسب، بل كي لا يتأثر الأحياء بزيارة الموت لهم. قد تستغرق طقوس الدفن وشعائره أسبوعًا كاملاً وتشترك فيها أسرة المتوفى وأهله وعشيرته وسكان مدينته والمجتمع بأكمله في النهاية.
يُفترَض، في بعض الأماكن، وجوب تشجيع الموتى على المغادرة بسرعة وزيارة السوق المفتوحة (أوجا) حيث يمكن أن تظهر أرواحهم هناك. ويعتقد شعب “الأوو” أن الموتى في طريقهم إلى عالم الأسلاف يجب أن يعودوا إلى الوطن ويمروا أولاً بمدينة إيلي إيفي المقدسة التي خُلق فيها شعب اليورويا.
في تقاليد شعب الأوو الذين يميزون بين الفئات العمرية لابد من الاهتمام بأمر طقوس الدفن واحتفالاته، فعلى الأقران تقع مسؤولية حفر قبور بعضهم البعض وقبور من مات من والديهم حتى يضمنوا لهم الدفن اللائق. لذا تقول اليوروبا “إن أهل العزاء الحقيقيين هم من يحفرون القبر، أما أولئك الذين يذرفون الدموع فليسوا إلا أصواتًا عالية”.
المُحاور: جورج يانسي أستاذ الفلسفة في جامعة إيموري، هو مؤلف الكتاب الأحدث “عبر الفضاءات السوداء: مقالات ومقابلات مع فيلسوف أمريكي” (Across Black Spaces: Essays and Interviews from an American Philosopher).
المُترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
Death Has Many Names
George Yancy
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”