تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢٤ أكتوبر ٢٠١٢
نعرف الآن بالفعل، بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية، كيف ستُلوَّن أغلب الخريطة الانتخابية بطريقة قريبة مما تلوَّنت به لعقود. إذ ستصوت الولايات الصحراوية والجبلية الجنوبية والغربية، بشكلٍ عام، للمرشح الذي يوافق على وجود جيش عدواني، ودور للدين في الحياة العامة، وسياسات اقتصادية قائمة على عدم التدخل، وملكية خاصة للأسلحة وشروط مُخفَّفة لاستخدامها، وقواعد تنظيم وضرائب أقل، وإعطاء قيمة للأسرة التقليدية. وستصوت الولايات الشمالية الشرقية ومعظم الولايات الساحلية لصالح المرشح الأكثر انسجامًا مع التعاون الدولي والمشاركة الدولية، والعلمانية والعلوم، والسيطرة على الأسلحة، والحرية الفردية في الثقافة والنشاط الجنسي، ودور أكبر للحكومة في حماية البيئة وضمان المساواة الاقتصادية.
لكن لماذا تتجمع الأيديولوجيا والجغرافيا بشكلٍ يمكن توقعه؟ لماذا، إذا كنت تعرف موقف الشخص من زواج المثليين، ستتمكن من أن تتنبأ بأنه سيرغب في زيادة الميزانية العسكرية وخفض معدل الضريبة، ومن المرجح أن ينحدر من وايومنغ أو جورجيا أكثر من مينيسوتا أو فيرمونت؟ لا شك أن بعضًا من هذه الصلات قد تنبثق من ائتلافات المصالح. فالتحرريون الاقتصاديون والمسيحيون الإنجيليون، متحدون من خلال عدوهم المشترك، هم رفقاء غريبون في الحزب الجمهوري الحالي، تمامًا كما وجد الجورجيان – كبير المحافظين جورج والاس والليبرالي الكبير جورج ماكغفرن – نفسيهما في نفس الحزب الديمقراطي في عام 1972.
ولكن قد تكون هناك أيضًا عقليات متماسكة تحت الآراء المتنوعة التي تتكاتف معًا في أنظمة المعتقدات اليمينية واليسارية. لقد عرف الفلاسفة السياسيون منذ وقتٍ طويل أن الأيديولوجيات مُتجذِّرة في مفاهيم مختلفة للطبيعة البشرية – صراع في الرؤى أساسي للغاية من حيث مواءمة الآراء حول عشرات القضايا التي يبدو أنها لا تشترك في أي شيء.
لاحظ المفكرون المحافظون مثل الاقتصادي توماس سويل وكاتب العمود في صحيفة التايمز ديفيد بروكس أن اليمين السياسي لديه رؤية مأساوية للطبيعة البشرية، حيث يكون الناس محدودي الأخلاق والمعرفة والعقل بشكلٍ دائم. يتعرض البشر دائمًا لإغراء العدوان، الذي لا يمكن منعه إلا بردع جيش قوي، وبمواطنين عازمين على الدفاع عن أنفسهم، وباحتمال التعرض لعقوبات جنائية قاسية. لا يوجد مخطط مركزي حكيم بما يكفي أو على دراية كافية لإدارة اقتصاد بأكمله، الذي يُفضَّل تركه ليد السوق الخفية، حيث تُوزَّع المعلومات عبر شبكة من مئات الملايين من الأفراد الذين ينقلون ضمنيًا معلومات حول الندرة والوفرة من خلال الأسعار التي يتفاوضون بشأنها. تواجه الإنسانية دائمًا خطر الارتداد إلى الهمجية، لذلك يجب علينا احترام العادات فيما يتعلق بالحياة الجنسية والدين واللياقة العامة؛ حتى لو لم يتمكن أحد من التعبير عن أسبابها المنطقية، لأنها حلول بديلة مُجرَّبة بمرور الزمن لأوجه القصور الفطرية لدينا. أما اليسار، في المقابل، فلديه رؤية يوتوبية تؤكد على قابلية الطبيعة البشرية للتطويع، وتضع العادات تحت المجهر، وتضع الخطط العقلانية لمجتمعٍ أفضل، وتسعى إلى تنفيذها من خلال المؤسسات العامة.
أثرى علماء الإدراك مؤخرًا هذه النظرية بتفاصيل حول كيفية تطبيق الانقسام بين اليمين واليسار في الحدس المعرفي والأخلاقي لدى الناس. يقترح اللغوي جورج لاكوف أن اليمين السياسي يتصور المجتمع كعائلة يحكمها أب صارم، بينما يعتقد اليسار أنها عائلة يقودها أحد الوالدين الراعيين. قد تكون الاستعارات نتيجة طبيعية للرؤيتيْن المأساوية والطوباوية، إذ تُستدعى ممارسات الأبوة المختلفة اعتمادًا على إذا ما كنت تعتبر الأطفال متوحشين نبلاء أم كريهين وحمقى وقصيرين. يشير عالم النفس جوناثان هايدت إلى أن اليمينيين واليساريين يستثمرون حدسهم الأخلاقي في مجموعات مختلفة من الاهتمامات: المحافظون يشددون على احترام السلطة والامتثال للمعايير ونقاء الجسد وقداسته؛ والليبراليون يقصرون حقهم على الإنصاف وتوفير الرعاية وتجنب الأذى. قد ينبع الاختلاف، مرة أخرى، من المفاهيم المتضاربة للطبيعة البشرية. إذا كان الأفراد معيبين بطبيعتهم، فيجب تقييد سلوكهم بالعادات والسلطة والقيم المُقدَّسة. وإذا كانوا قادرين على الحكمة والعقل، فيمكنهم أن يقرروا بأنفسهم ما هو عادل أو ضار أو مؤذٍ.
تساعد هذه النظريات في تفسير سبب ارتباط القناعات التي تبدو متنوعة داخل العقليات اليمينية واليسارية معًا، لكنها لا تفسر سبب ارتباطها بالجغرافيا. يُعزي المؤرخ ديفيد هاكيت فيشر الانقسام إلى المستوطنين البريطانيين لأمريكا المُستعمَرة. فقد استوطن المزارعون الإنجليز الشمال بشكلٍ كبير، واستوطن الرعاة الاسكتلنديون الأيرلنديون الجنوب الداخلي. لاحظ علماء الأنثروبولوجيا منذ فترة طويلة أن المجتمعات التي ترعى الماشية في التضاريس الوعرة تميل إلى تطوير “ثقافة الشرف”. ونظرًا لأن ثروتهم لها أقدام ويمكن أن تُسرق في غمضة عين، فإنهم يضطرون لردع السارقين عن طريق زرع حالة استنفار للانتقام العنيف ضد أي تعدي أو إهانة تنال من عزمهم. يمكن أن يكون المزارعون أقل عدوانية لأنه يصعب أكثر سرقة أراضيهم من تحتهم، ولا سيما في المناطق الواقعة ضمن نطاق إنفاذ القانون. عندما تحرك المستوطنون غربًا، أخذوا ثقافاتهم الخاصة معهم. أثبت عالم النفس ريتشارد نيسبيت أن الجنوبيين يواصلون اليوم إظهار ثقافة الشرف التي تضفي الشرعية على الانتقام العنيف؛ يمكن رؤية ذلك في قوانينهم (مثل عقوبة الإعدام وحق الدفاع عن النفس والمال)، وفي عاداتهم (مثل ضرب الأطفال في المدارس والتطوع للخدمة العسكرية)، وحتى في ردود أفعالهم الفسيولوجية تجاه الإهانات التافهة.
لا يمكن إنكار أنه من الصعب تصديق أن الجنوبيين والغربيين اليوم يحملون ذاكرة ثقافية لأسلافهم رعاة الغنم. وقد لا تكون مهنة الرعي ذاتها هي التي تغذي ثقافة الشرف بقدر ما يغذيها العيش في غياب النظام. يجب على جميع المجتمعات أن تتعامل مع المعضلة التي أشار إليها هوبز بشكلٍ مشهور: يميل الناس، في غياب الحكومة، إلى مهاجمة بعضهم البعض بدافع الجشع والخوف والانتقام. حلَّت المجتمعات الأوروبية، على مر القرون، هذه المشكلة؛ حيث فرض ملوكها النظام العام على خليطٍ من العصور الوسطى من الإقطاع الذي دمره الفرسان المتناحرين. كانت النتيجة السعيدة انخفاضًا بمقدار خمسة وثلاثين ضعفًا في معدل جرائم القتل لديهم من العصور الوسطى حتى الوقت الحاضر. وبمجرد استرضاء الملوك للشعب، كان على الشعب بعد ذلك كبح جماح الملوك، الذين كانوا يحافظون على السلام من خلال المراسيم التعسفية وعمليات الإعدام والتعذيب العامة الشنيعة. اضطرت الحكومات، ابتداءً من عصر العقل والتنوير، إلى تنفيذ الإجراءات الديمقراطية، والإصلاحات الإنسانية، وحماية حقوق الإنسان.
وجد المستوطنون الأمريكيون الأوائل أنفسهم في حالة من الفوضى مرة أخرى عندما انتشروا من السواحل والمناطق الاستيطانية الأخرى. أثبت المؤرخ ديفيد كورترايت أن هناك حقيقة مُعتبَرة في الكليشيهات السينمائية للغرب المتوحش والجنوب الجبلي حيث عاش ديفي كروكيت ودانييل بون وهاتفيلدز ومكويز. إذ قد يكون أقرب شريف على بعد 90 ميلاً، ويكون الرجال مضطرين للدفاع عن أنفسهم بالأسلحة النارية والاشتهار بالصلابة. كان الشبان، في جيوب الماشية ومدن التعدين، المُتيَّمون بالشرف والكحول يتحدون باستمرار شجاعة بعضهم البعض ويستجيبون لهذه التحديات، ويدفعون معدلات العنف إلى أقصى ارتفاع لها.
كان هناك أيضًا كليشيه آخرى من أفلام رعاة البقر تحتوي على عنصر من الحقيقة التاريخية. فقد عملت النساء، مع انتقال المزيد منهن إلى الغرب على إنهاء نمط الحياة المتمثل في المشاجرة والشرب والدعارة التي وجدنها هناك، ووحَّدن قواهن مع المسؤولين المكلفين بالمستوطنات الصاخبة. فوجدن حليفًا طبيعيًا في الكنيسة، مع عضويتها المختلطة، ومعايير الاعتدال والانضباط صباح الأحد. كانت معايير الدفاع عن النفس من خلال الشرف الذكوري وتقييد الوحشية من خلال النساء والكنيسة قد ترسَّخت بحلول الوقت الذي أحكمت فيه الحكومة سيطرتها على الغرب (ونتذكر أن “إغلاق الحدود”، إيذانًا بنهاية الفوضى الأمريكية، حدث قبل أكثر من قرنٍ من الزمان).
ولكن لماذا لم تطالب الحكومة المستقرة بمجرد وصولها باحتكار العنف بما يمثل تعريفًا دقيقًا للحكومة؟ أشار المؤرخ بيتر سبيرنبورغ إلى أن “الديمقراطية جاءت في وقتٍ مبكرٍ جدًا لأمريكا”، أي قبل أن تنزع الحكومة السلاح من مواطنيها. تمكن الشعب، بسبب كون الحكم الأمريكي ديمقراطيًا منذ البداية، من اختيار عدم التنازل لهذا الحكم عن حماية سلامتهم الشخصية ولكن الاحتفاظ بذلك كامتياز خاص بهم. والنتيجة غير السعيدة لهذه العدالة الأهلية هي أن معدلات جرائم القتل في الولايات المتحدة أعلى بكثير من تلك الموجودة في أوروبا، ومعدلات الجنوب أعلى منها في الشمال.
إذا كان هذا التاريخ صحيحًا، فربما نشأ الانقسام السياسي الأمريكي ليس بسبب المفاهيم المختلفة للطبيعة البشرية بقدر ما نشأ عن الاختلافات في أفضل السبل لترويض هذه الطبيعة. فالشمال والسواحل امتدادات لأوروبا واستمرا في عملية الحضارة التي تقودها الحكومة التي كانت تكتسب زخمًا منذ العصور الوسطى. أما الجنوب والغرب فقد حافظا على ثقافة الشرف التي نشأت في المناطق الفوضوية في البلد المتنامي، التي خففتها قوى الحضارة الخاصة بهما من الكنائس والعائلات والاعتدال.
الكاتب: ستيفن بينكر هو أستاذ علم النفس في كلية هارفرد بجامعة هارفرد ومؤلف الكتاب الأحدث “الملائكة الأفضل لطبيعتنا البشرية: لماذا انخفض العنف.”
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
?Why Are the States So Red and Blue
Steven Pinker
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”