تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
مقدمة المترجم: جستن مكبرير (Justin P. McBrayer) أستاذ فلسفة في كلية فورت لويس، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة ميزوري في 2008، وكتب هذه المقالة في 28 يناير 2012 حيث يُعبّر فيها عن محيطه.
ما قولك لو علمت أن المدارس الحكومية تُعلِّم الأطفال أنه لا صحة للاعتقاد أن قتل الناس للمتعة أو الغش في الامتحانات تصرفٌ خاطئ؟ ألن تتفاجأ؟
الأمر فاجأني، لكوني فيلسوفاً قد كنت على علم أن طلاب الجامعة لا يؤمنون بحقائق أخلاقية، فعلى الرغم من عدم وجود استبيانات وطنية تقيس هذه الظاهرة وجدتُ أن بروفيسورات الفلسفة الذين تحدثتُ إليهم يتَفّقون أن أغلب الطلبة الجدد في الجامعة يعتبرون الحديث في الأخلاق مجرد تبادل آراء ليس لها حقيقة، أو أن حقيقتها محدودة لسياق الثقافة المحيطة بهذه الآراء.
ما غاب عني هو مصدر هذا السلوك الفكري، فبوجود فكرة نسبية الأخلاق (moral relativism) في بعض الدوائر الأكاديمية قد يظن بعض الناس أن اللوم يقع على الفلاسفة، ولكن لا يصحُ لومهم، رغم وجود بعض الفلاسفة في التاريخ الداعمين لفكرة نسبية الأخلاق، ومن أقدمهم: بروتاقوراس (Protagoras) القائل: إن “الإنسان مقياس كل شيء”. وهناك آخرون ينكرون وجود أي حقائق أخلاقية بأيّ صورة كانت، ولكن هؤلاء الناس قلة، واعتبر كذلك أن الطلاب المستجدين يأتون بهذا الفكر الأخلاقي عند قدومهم للجامعة مما يرجّح أن الفلاسفة المهنيين (professional philosophers) في الجامعات ليسوا السبب في انتشار الفكر، فمن أين أتى؟
علمت قبل بضعة أسابيع أن الطلاب يتعرّضون لطريقة التفكير هذه قبل دخولهم التعليم العالي، فعندما زرت مدرسة ابني في الصف الثاني وجدت لوحتين مثيرتين للقلق معلقتين فوق السبورة، ونصهما:
الحقيقة: شيء صائب عن أمرٍ ما ويمكن اختباره وإثباته.
الرأي: ما يفكر فيه أحد أو يشعر به أو يؤمن به.
كنت لا زلت آملُ أن هذَين التعريفين مجرّد خطأ فردي، فذهبت إلى المنزل وبحثتُ في Google عن “الحقيقة والرأي”، وكانت التعاريف في الإنترنت تماثل جوهرياً ما رأيت في فصل ابني، كما وجدت لاحقاً أن معايير “الجوهر المشترَك” (Common Core) المتّبعة في أغلب التعليم الابتدائي إلى الثانوي تشترط أن يتمكّن التلميذ من “التمييز بين الحقيقة والرأي والحكم المبرّر في النصوص”، ومعهد “الجوهر المشترَك” يوفّر على موقعه صفحة مليئة بتعاريف وخطط تدريس واختبارات هدفها أن يميّز التلاميذ الفرق بين الحقائق والآراء.
فما المشكلة إذن في هذا التمييز؟ وكيف يقيّض فكرة وجود حقائق أخلاقية موضوعية (objective moral facts)؟
أولاً، في تعريف ما يُسمّى “حقيقةً” (fact) هناك تردد بين الحقّ (Truth) والبرهان (Proof) وهما سمتان مختلفتان كما هو واضح، فيُمكن للشيء أن يكون حقيقة دون وجود برهان، فعلى سبيل المثال من الممكن وجود حياة في مكان آخر في الكون حتى لو لم يستطع أحد إثبات ذلك، وبالمقابل هناك عدة أمور كان لها براهين قد ثبت خطؤها، فقد اعتقد كثيرون بسطحية الأرض في الماضي، فمن الخطأ إذن الخلط بين الحقيقة (شأن عن العالِم) والبرهان (شأن في الحياة الذهنية)، وعلاوة على ذلك، لو كان البرهان شرطًا للحقائق لأصبحت الحقائق مرتبطة بالأشخاص، فيصبح شيء حقيقياً لي إذا أثبتّه وليس حقيقياً لك إذا لم تستطع إثباته، وبهذه الحالة تصبح معادلة E=MC^2 حقيقية للفيزيائيين ولكن ليس لي.
ثانياً، وما هو أعظم، يتعلم التلاميذ أن الجُمَل بطبيعتها إما حقيقة أو رأي، بل ويأخذون امتحانات يُطلب منهم فيها توزيع الجمل إلى أحد الصنفين دون الآخر، لكن لو اعتبرنا أن الحقيقة هي الأمر الصائب وأن الرأي هو ما يُعتقَد لصارت الكثير من الجُمَل رأياً وحقيقةً معاً، فعلى سبيل المثال، سألت ابني عن هذا التمييز بعد زيارتي للمدرسة وأخبرني بثقة أن الحقائق هي الأمور الصائبة وأن الآراء ما يعتقده الناس، فاختبرته قائلاً: “أنا أؤمن أن جورج واشنطن أول رئيس أمريكي، هل هذا رأي أو حقيقة؟”، فأجابني: “حقيقة”، فتحديت جوابه: “أنا أؤمن أن جورج أول رئيس، وأنت قد قلتَ أن ما يؤمن به الناس رأي”، فكان رده: “نعم، ولكنه رأي صائب”، فسألته: “أهو حقيقة ورأي معاً؟”، تعبيرات وجهه الخاوية أبدت كل شيء، إذن ما الرابط بين الأخلاق وتمييز الرأي عن الحقيقة؟ عرفت إجابة هذا السؤال بعد التدقيق في واجبات ابني (وواجباتٍ أخرى على الإنترنت)، فالأطفال مطلوب منهم تمييز الحقائق عن الآراء ودائماً يتمّ تصنيف أيّ جملة عن القيم على أنها رأي، وإليكم هنا بعض الجُمَل المستعملة، انظروا كيف تصنفونها، رأياً أم حقيقةً:
الإجابة: جميع هذه الجُمَل تمّ تصنيفها كآراء، والتفسير المُقَدَّم أن كل هذه الجُمَل تعبّر عن قيم وأن التعبير عن القيم ليس تعبيراً عن حقيقة، وتُكرّر التفسير كثيراً -لحدّ يثير الغثيان- تجاه أيّ جملة عن “الحسن” و “الصواب” و “الخطأ”، فباختصار: مدارسنا الحكومية تعلّم الطلاب أن كل الجمل إما حقيقة أو رأي وأن كل التعابير عن القيم والأخلاق هي آراء، إذن لو لم يكن هناك حقائق أخلاقيةً فلن يكون للحقِّ وجود في الأخلاق.
هذا التناقض في المنهج الدراسي واضح، فعلى سبيل المثال أحضر ابني في بداية العام الدراسي قائمة بحقوق ومسؤوليات الطالب، ولو أنه كان واعياً بهذا الدرس عن الحقائق والآراء لانتبه أن الحقوق المفترضة للطلاب الآخرين أساسها مجرد آراء، فوفقاً لمنهج المدرسة لا توجد حقيقة تقتضي حقّ زملائه أن تتمّ معاملتهم بطريقةٍ ما؛ لأن هذا التعبير الأخلاقي يصبح تعبيراً عن حقيقة في هذه الحالة، وكذلك ليس من المفترَض على ابني تحمُّل أيّ مسؤوليات؛ لأن هذا الافتراض يجعل من قولٍ في القيم حقيقةً معارضاّ لمنهج المدرسة، فمن غير العجيب إذن انتشار الغشّ في الجامعات؛ فنحن نعلِّم الطلاب لـ12 سنة أن مسألة الغشّ لا حكم في أخلاقياتها، فلا يمكننا لومهم.
والواقع أن المخاطر أعظم في العالَم خارج نطاق المدارس، ففيه يمارِس البالغون معرفتهم الأخلاقية والتفكير في كيفية تصرفهم في المجتمع، والتناسق الفكري في هذا العالم يطلب منا أن نقرّ بوجود الحقائق الأخلاقية، كيف لنا أن نغضب لو لم يكن حقيقة أن من الخطأ قتل رسّام رفض القاتل رسوماته؟ كيف لنا أن نحاسب الناس على جرائم ضد الإنسانية لو لم تكن هناك حقيقة عن الحَسَن والقيّم والصحيح؟ لماذا نصوّت لأحزاب سياسية لا تضعنا في أفضلية على الآخرين إذا لم تكن حقيقةً أن الناس خُلِقوا سواسية؟
مدارسنا تنفع أبناءنا بشكل عظيم، وهي بطريقةٍ تعلّمهم معايير أخلاقية عندما تطلب منهم أن يُعامِلوا بعضهم البعض بإنسانية وأن يُكمِلوا أعمالهم الأكاديمية بنزاهة، ولكن في نفس الوقت المنهج الدراسي يهيئ أبناءنا للازدواج الفكري، فيقال لهم بعدم وجود حقائق أخلاقية بنَفَسٍ ثم يُخبَرون بكيفية التصرف بشكل الصحيح.
يمكننا تقديم شيء أفضل، وأبناؤنا يستحقون أساساً فكرياً ثابتاً، الحقائق هي الأمور الصائبة، والآراء هي ما نعتقد، وبعض اعتقاداتنا صائبة وبعضها غير ذلك، بعض اعتقاداتنا يدعمها الدليل وبعضها غير ذلك، الإدلاءات الأخلاقية مثل غيرها من الإدلاءات، فهي إما صائبة أو مخطئة ومدعومة بدليل أو غير مدعومة، والعمل الصعب ليس في الإقرار أن بعض الأقوال الأخلاقية صائبة بل في التأمل فيما نملك من أدلة بعناية حتى نقدّر صحة قولٍ أخلاقيِّ من بين عدة أقوال متنافسة، هنا تكمن الصعوبة، ولا يصحّ أن تدفعنا الصعوبة إلى تجاهل مسؤولياتنا كبشر.
لأن ذلك تصرف خاطئ.
الكاتب: أستاذ الفلسفة في كلية فورت لويس في دورانقو، كولورادو. يبحث في الأخلاق وفلسفة الدين.
المترجم: مترجم سعودي.
Why Our Children Don’t Think There Are Moral Facts
Justin P. Mcbrayer
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”