تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
تخيّل كائنًا ما بمقدرته تحليل المعلومات، وتذكّرها، ومشاركتها، كائنًا بإمكانات تناسبه، يسكن عالمًا خاصًا به. وعلى ضوء هذا التوصيف الموجز، فإن أغلبنا سيُفكّر بالإنسان، والبعض سيربطه بحيوانٍ ما، إلا أنه، فعليًا، ما من مخيلة لأحد ستستحضر أحد النباتات.
وعلى الرغم من ذلك، فمنذ الثاني من شهر نوفمبر، لم تظهر إلا إجابةٌ مُحتملة على هذه الأحجية، ألا وهي Pisum Sativum، وهو الاسم العلمي لإحدى الفصائل التي تُعرف بالعامية باسم “البازلاء الخضراء” الشائعة. في ذلك اليوم، نشر فريقٌ من العلماء من معاهد جاكوب بلاوشتاين لأبحاث الصحراء في جامعة بِن غوريون Ben-Gurion في إسرائيل نتائج بحث مُحكّم يكشف عن أن إحدى نباتات البازلاء التي تعرضّت للجفاف، عبّرت عن شدّة حالها لنباتات أخرى تتشارك التربة معها. وبعبارة أخرى، من خلال الجذور، نقلت لجاراتها الرسالة البيوكيميائية بشأن بداية الجفاف، تحثّهم على التفاعل كما لو كانوا هم أيضًا مُعرّضين لمأزقٍ مُماثلٍ.
ومما يُثير العجب أنه بعد تلقيها للإشارة، فإن النباتات التي لم تتأثر مُباشرة بعامل الإجهاد البيئي المُحدد هذا، كانت أكثر قدرة على تحمل الظروف المعاكسة عندما حدثت بالفعل. وهذا يعني أن مُتلقي الرسائل البيوكيميائية باستطاعتهم الاعتماد على “ذاكرتهم”—أي على المعلومات المُخزنّة على مستوى خلوي، من أجل تفعيل الدفاعات المناسبة والاستجابات التكيفيّة عندما تظهر الحاجة.
وفي عام ١٩٧٣، اُعتبِر، عمومًا، نُشر كتاب “The Secret Life of Plants” (الحياة السريّة للنبات) للكاتبَين بيتر تومبكينز وكريستوفر بيرد، والذي عرض الحياة النباتية باعتبار اتسامها بالحساسية الشديدة، والاستجابة، وكونها قابلة للمقارنة من بعض جوانبها بحياة الانسان، علمًا زائفًا. لم يكن مُؤلفو الكتاب علماء، ومن الواضح أنه لا يمكن إعادة استنساخ النتائج التي وردت في الكتاب والتي كان معظمها غريبًا. ولكن تظهر اليوم بيانات علمية جديدة ومُحكمة وكأنها تُدعّم فكرة الكتاب الأساسية بأن النباتات كائنات أكثر تعقيداً مما كان يُعتقد سابقًا.
كما تُشكّل نتائج البحث التي توصل إليها الفريق في معاهد بلاوشتاين لَبنة أخرى في الحقل النامي لدراسات الذكاء النباتي وعلم النبات العصبي يجب-على أقل تقدير-أن تدفعنا إلى إعادة التفكير بعلاقتنا مع النباتات. هل يجوز أخلاقيًا إخضاع الكائنات الحيّة للاستغلال الكامل، والتي على الرغم من عدم امتلاكها لجهاز عصبي مركزي فبِمقدرتها التعلم والتواصل الأساسيَين؟ هل يجب أن تتركنا استجابتها السريعة للإجهاد غير مُبالين، بينما تُثير فينا معاناة الحيوان مشاعر قوية من الشفقة والرحمة؟
من الواضح أن التعاطف ربما لا يكون الأساس الأكثر ملائمة للأخلاقيات تجاه الحياة النباتية. ولكن الإشارات الحديثة المرتبطة باستجابة النباتات وتفاعلها مع البيئة ومع بعضها البعض تكفي لتقويض كل الحلول البسيطة والبديهية لتناول الطعام بضميرٍ مُرتاح. وحينما يتعلق الأمر بأحد النباتات، يتضح أن الأمر ليس “ماهية” فحسب، بل أيضا يتعلق “بالفاعل”—الفاعل في بيئته، بقيمته الجوهرية أو تصوّره عما هو حَسن. ولذا، أُعيد تصورنا بشأن التساؤل حول تبريرات استهلاك الكائنات النباتية، حيث نصل إلى واحد من الحدود النهائية للأخلاقيات الغذائية.
وتشير النتائج الحديثة في علم النبات الجزيئي والخلوي إلى تفضيلات من حيث التغذية، أيضًا، والتي يجب أن تُميّز عمليًا بين الماهية والكيفية النباتية مع السعي إلى الإبقاء على هذه الأخيرة غير منقوصة. إن هذا التفريق هو أمر بالغ الصعوبة لأن ذاتية النباتات ليست متمركزة في عضو منفرد أو وظيفة منفردة، بل إنها منتشرة خلال أجسامها، من الجذور إلى الأوراق والبراعم. ورغم ذلك، فإن هذا الانتشار للحيوية يحمل في طياته وعدًا خاصًا به: إن مرونة النباتات وقدرتها المذهلة على تجديد نموها عن طريق الزيادات والإضافات الكميّة أو التكرارات لأجزاء موجودة من قبل، تقوم بالقليل لتغيير شكل الكائنات الحيّة والتي لا تُعد جزءًا ولا كلًا لأنها ليست كائنات مَبنيةً في هيكل هرمي. ويُمكن قبول الإنسان للجوانب “القابلة للتجديد” للنباتات المُعمّرة كهدية من الكائن النباتي، وكذا دمجها في نظامه الغذائي.
ولكن سيكون الأمر أكثر صعوبة لتبرير زراعة البازلاء وغيرها من النباتات السنوية، والتي يُكرّس البشر كينونتها الكاملة لغايات مفروضة من الخارج. وبعبارة أخرى، لا يمكن للقرارات المستوحاة أخلاقيًا افتراض الوحدة المفاهيمية المجردّة لجميع النباتات. فبالأحرى من ذلك، عليها الأخذ بعين الاعتبار لتفرّد كل فصيلة من الفصائل.
إن التركيز على الخصائص الفريدة لكل فصيلة من الفصائل يعني أن المخاوف الأخلاقية لن تختفي بعد ما حدد الفلاسفة المعياريون وعلماء الأخلاقيات الحيوية مجموعات الإرشادات الحتميّة للسلوك الإنساني خاصتهم. وعلى نحوٍ أكثر دقة، فإن القلق تجاه علاج النباتات سوف يظهر مرارًا وتكرارًا، في كل مرة نتعامل فيها مع فصيلة مميزة أو مجتمعات من النباتات.
ففي القصة الخرافية The Princess and the Pea (الأميرة وحَبة البازلاء) لهانز كريستيان أندرسن Hans Christian Andersen، يتم اكتشاف الهُوية الحقيقة للأميرة بعد ما تقضي ليلة من العذاب فوق عشرين مَرتبة وعشرين من الأفرشة الريشية، أُودِعَ في ثناياها حبة بازلاء واحدة. ولعل الرغبة في تناول الطعام، على نحوٍ أخلاقي، أقرب لهذه الحساسية الملكيّة، كما قد يجادل البعض بأنها رفاهية لدى أولئك الذين يمتلكون الطعام الكافي اختيار أنماطهم الغذائية واعين. ولكن هناك طريقة أكثر رفقًا لتفسير هذه المماثلة.
المخاوف الأخلاقية ليست مشكلة يجب أن تُحل بشكل قاطع ومن أجل الجميع؛ فهذه المخاوف تجعلنا غير مرتاحين وأحيانًا، عندما يكون وخز الضمير أشدّ، تمنعنا من النوم. فَكونك مرتبكًا إلى درجة عدم الارتياح بسبب حبة بازلاء واحدة يُماثل الهوس الأخلاقي، الذي لا يمكن ترجمته إلى لغة البديهيات الأخلاقية ومبادئ الاستقامة. مِثل هذه الأخلاق لا تُملي كيفية التعامل مع عينة من نبات Pisum Sativum أو أي نبات آخر، ولكنها تدفعنا للاستجابة، وبشكل جديد في كل مرة، إلى السؤال-عند التفكير وعند تناول الطعام- عن كيفية قول “نعم” للنباتات.
الكاتب: مايكل ماردر هو أستاذ فلسفة لبحوث مؤسسة Ikerbasque في جامعة إقليم الباسك في مدينة فيتوريا-غاستايز. وأحدث كُتبه هو كتاب Thinking: A Philosophy of Vegetal Life Plant (تفكير النبات: فلسفة في الحياة النباتية) سوف تنشره مطبعة جامعة كولومبيا هذا العام.
المترجم: باحثة دكتوراه في الأدب. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
?If Peas Can Talk, Should we Eat Them
Michael Marder
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”