تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢١ ديسمبر 2011
عبرنا، عندما أقلعت طائرتنا من مطار سان فرانسيسكو في أكتوبر الماضي، فوق الموانئ التي ساعدت حركة “احتلوا أوكلاند Occupy Oakland” على إغلاقها، ووصلنا إلى ألمانيا لتستقبلنا حركة مرور تسبَّب بها متظاهرو حركة “احتلوا برلين Occupy Berlin”. ولكن لم تُغيّر هذه الحركة الفضاء العام فحسب، بل إنها غيرت الخطاب العام أيضًا.
احتلوا.
يستحيل تقريبًا الآن أن نسمع هذه الكلمة ولا نفكر بحركة الاحتلال تلك.
حتى أن الخبير المتميز مؤلف المعاجم وكاتب العمود الصحفي بِن زيمر اعترف بذلك هذا الأسبوع: “احتلال” هي الكلمة المرشحة الأوفر حظًا لاختيارها ككلمة العام من قبل جمعية اللهجة الأمريكية.
لقد نَجَحَت هذه الكلمة بالفعل في تغيير مصطلحات النقاش، وإخراج عبارات مثل “سقف الدَيْن” و “أزمة الميزانية” من دائرة الأضواء ووضع مصطلحات مثل “عدم المساواة” و “الجشع” في مركز الاهتمام. هذا التحوّل الخطابي صعّب على واشنطن الاستمرار في الترويج للأسباب الزائفة للانهيار المالي والنتائج غير المتكافئة التي كشفت عنها وأنتجتها أيضًا.
إن مفارقة استخدام حركة اجتماعية تقدميّة لمصطلح “احتلال occupy” لإعادة تشكيل الطريقة التي يفكر بها الأمريكيون في قضايا الديمقراطية والمساواة لطالما كانت واضحة للأغلبية. فالدول والجيوش والشرطة بشكلٍ عام، في نهاية المطاف، هي التي تحتل عادةً بالقوة. وقد كانت الولايات المتحدة رائدة في هذا الأمر؛ فالحكومة الأمريكية الآن وبعد تسع سنوات فقط من إنهاء احتلالها الصريح للعراق، لا تزال مترسخة في أفغانستان وتبقي قواتها على أراضي العشرات من البلدان في جميع أنحاء العالم. كل هذا ليس لإخفاء حقيقة أن الولايات المتحدة كما نعرفها نشأت عن طريق الاحتلال – احتلال تدريجي وعنيف بشكل مدمّر قضى تقريبًا على جميع سكان أمريكا الأصليين عبر آلاف الأميال من الأرض.
لكن غيّرت هذه الحركة، في وقتٍ قصيرٍ للغاية، وبشكلٍ كبير طريقة تفكيرنا في الاحتلال. لقد كانت كلمة “احتلال” في أوائل سبتمبر تشير إلى توغلات عسكرية مستمرة. أما الآن فهي تشير إلى الاحتجاج السياسي التقدمي. لم تعد الكلمة تتعلق بشكلٍ أساسي بقوة القوى العسكرية، إنما ترمز بدلاً من ذلك إلى مواجهة الظلم وعدم المساواة وسوء الاستخدام للسلطة. لم تعد الكلمة تتعلق ببساطة باحتلال مساحةٍ ما، بل تتعلق بتحويل تلك المساحة.
احتلّت حركة “احتلوا وول ستريت” Occupy Wall Street اللغة بهذا المعنى، وجعلت من كلمة “احتلال” كلمة خاصة بها. والأهم من ذلك، أن أشخاص من أعراق وثقافات ولغات متنوعة شاركوا في هذا الاحتلال اللغوي — وهو يختلف عن تاريخ الاحتلال القسري في كونه صُمِّم لاستيعاب الجميع، وليس فقط الأقوى أو الأكثر عنفًا.
كما أوضح جيفري نونبرج رئيس لجنة الاستخدام في قاموس التراث الأمريكي “American Heritage Dictionary” وآخرون، يمكن تتبع أقدم استخدام لكلمة “احتلال” “occupy” باللغة الإنجليزية المرتبط بالاحتجاج إلى أوصاف وسائل الإعلام الإنجليزية للمظاهرات الإيطالية في عشرينيات القرن الماضي، حيث “احتل” العمّال المصانع حتى لُبّيَت مطالبهم. وهذا بعيد كل البعد عن بعض المعاني السابقة للكلمة. في الواقع، يخبرنا قاموس أوكسفورد الإنجليزي أن كلمة “احتلال” كانت في السابق تعني “ممارسة الجنس”. يمكن للمرء أن يتخيّل ما كانت تعنيه عبارة مثل “احتلوا وول ستريت” في ذلك الوقت.
أشار زيمر في أكتوبر الماضي، وهو أيضًا رئيس لجنة الكلمات الجديدة التابعة لجمعية اللهجات الأمريكية في برنامج “On the Media” على الإذاعة الوطنية العامة NPR إلى أن معنى الاحتلال قد تغيّر تغيرًا كبيرًا منذ وصوله إلى اللغة الإنجليزية في القرن الرابع عشر. قال زيمر: “لقد كانت الكلمة دائمًا تقريبًا ما تُستخدَم كفعلٍ متعدٍ، أي فعلٌ يأتي مع مفعول به، لذا فأنت تحتل مكانًا أو مساحةً ما. ولكن اُستخدِمت الكلمة بعد ذلك كنداء للاحتشاد، دون مفعولٍ به، لتعني فحسب المشاركة فيما يُسمَّى الآن باحتجاجات “الاحتلال Occupy”. وتُستخدَم كصفة [1] كما في “احتجاجات الاحتلال Occupy protests”، و”حركة الاحتلال Occupy movement”. لذا فهذه الكلمة المرنة تحديدًا الآن تملأ العديد من الخانات النحوية في اللغة”.
ماذا لو غيّرنا معنى الاحتلال مرة أخرى؟ تحديدًا، ماذا لو فكرنا بـ “احتلال اللغة Occupy Language” أكثر من لغة حركة الاحتلال Occupy، وبدأنا نفكر فيها كحركة في حد ذاتها؟ ما أنواع القضايا التي قد تعالجها “احتلال اللغة Occupy Language”؟ كيف ستبدو عملية استعادة اللغة من الذين نصبوا أنفسهم”سادة” لها؟ قد نبدأ باعتبار هذه الأسئلة من منظور العرق والتمييز، والإجابة بكيفية تعزيز العدالة والمساواة في هذه الجوانب.
قد تستمد حركة “احتلال اللغة Occupy Language” الإلهام من الطريقة التي أعادت بها حركة “احتلوا” تشكيل تعريفات كلمة “احتلال”، مما يعلمنا أننا نحن مَن يمنح الكلمات معنى وأن الخطابات ليست ثابتة، وقد نستمد الإلهام أيضًا من الطريقة التي اعترضت بها حركات السكان الأصليين على استخدام الكلمة، ما يعلمنا الانتباه دائمًا لكيفية تمكين اللغة واضطهادها وتوحيدها وعزلها، على حدٍ سواء.
في البداية، قد تبدو “احتلال اللغة” للوهلة الأولى حركة نحو الداخل. في مقابلة أجريت مؤخرًا، حثّ جوليان باديلا من مجموعة العمل لصالح الأفراد ذوي البشرة المُلوَّنة، حركة الاحتلال على فحص اختياراتها اللغوية:
الاحتلال يعني شغل مساحة، وأعتقد أن شغل مجموعة من المعارضين للرأسمالية لمساحة في وول ستريت يُعتبَر أمرًا قويًا، ولكنني أتمنى أن تغيّر حركة مدينة نيويورك اسمها إلى “تحرير وول ستريت” لتأخذ في الاعتبار التاريخ ونقد السكان الأصليين والأشخاص المُلوَّنين والإمبريالية … احتلال مساحة ليس سيئاً بطبيعته، الأمر يتعلّق فحسب بمَن يفعل ذلك وبكيفية فعله وسببه. عندما يحتل المستعمرين البيض أرضًا ما، فإنهم لا ينامون هناك طوال الليل فحسب، بل يسرقون ويدمرون. وعندما احتل السكان الأصليون جزيرة ألكتراز ، كان ذلك بمثابة (فعل) احتجاج.
يمكن لهذا التغيير اللغوي أن يذكّر الأمريكيون بأن غالبية نسبة الـ ٩٩ في المئة قد استفادوا من احتلال الأراضي الأصلية.
قد تدعم حركة “احتلال اللغة” أيضًا الحملة الرامية إلى منع وسائل الإعلام من استخدام كلمة “غير قانوني” للإشارة إلى المهاجرين “غير النظاميين”. فالأشياء الجامدة والأفعال هي ما تصنّف على أنها غير قانونية في اللغة الإنجليزية من وجهة نظر الحملة؛ لذلك فإن استخدام “غير الشرعيين illegals” للإشارة إلى البشر هو تجريد لهم من إنسانيتهم. يطلب دليل الكتابة الصحفية للنيويورك تايمز حاليًا من الكُتّاب تجنب مصطلحات مثل “أجنبي غير قانوني illegal alien” و “غير نظامي undocumented”، لكنه لا يذكر شيئًا عن “غير الشرعيين illegals”. ولكن محرر معايير النيويورك تايمز فيليپ ب. كوربيت أبدى رأيه مؤخرًا حول هذا الأمر قائلاً بأن مصطلح “غير شرعيين illegals” يحتوي على “نبرة إزدراء لا داعي لها” وأنه “من الحكمة تجنبه”.
يمكن أن يكون للغة التحقيرية والعنصرية عواقب في الحياة الواقعية. يشعر الناشطون، في هذه الحالة، بالقلق من مصادفة الزيادة في استخدام مصطلح “غير شرعيين” والارتفاع المفاجئ في جرائم الكراهية ضد جميع اللاتينيين. فقد أفاد المعهد الوطني للسياسة اللاتينية، رغم صعوبة إثبات العلاقة السببية هنا، أن إحصاءات جرائم الكراهية السنوية التي أصدرها مكتب التحقيقات الفيدرالي تُظهر أن اللاتينيين شكلوا في عام ٢٠١٠ ثلثي ضحايا جرائم الكراهية ذات الدوافع العرقية. إذ تمهد اللغة بهدوء الطريق لأعمال العنف عندما يوصف شخصٌ ما مرارًا وتكرارًا بكلمةٍ ما.
لكن يجب أن تهتم حركة “احتلال اللغة” بأكثر من مجرد الكلمات التي نستخدمها. كما ينبغي أن تعمل على القضاء على العنصرية والتمييز اللغويين. في النظام القانوني، أفادت CNN مؤخرًا بأن وزارة العدل الأمريكية تزعم أن شريف أريزونا سيء السمعة جو أربايو قد مارس، من بين جرائم أخرى، التمييز ضد “السجناء اللاتينيون الذين يستخدمون اللغة الإنجليزية استخدامًا محدودًا من خلال معاقبتهم وحرمانهم من الخدمات الهامة”. وفيما يخصّ التعليم، تذكر عالمة الأنثروبولوجيا اللغوية آنا سيليا زينتيلا أنه لا تزال العداوة تجاه أولئك الذي يتحدثون أولئك الذي يتحدثون الإنجليزية “بلكنة” تسبب مشكلة (كالآسيويون واللاتينيون والأمريكيون من أصل أفريقي). وفيما يخص الإسكان فقد اعترف التحالف الوطني للإسكان العادل منذ فترة طويلة بأن “اللهجات” تلعب دورًا كبيرًا في التمييز في مجال الإسكان. وفيما يخص سوق العمل، فإن التمييز على أساس اللغة يتقاطع مع قضايا العرق والطبقة والمنشأ القومي لجعل الأمر أكثر صعوبة للمتقدمين المؤهلين تأهيلاً جيدًا من ذوي “اللكنة” للحصول على فرص متساوية.
يمكن أن تكون حركة “احتلال اللغة” حركة لغوية تقدمية مهمة في مواجهة هذا التمييز الواسع النطاق القائم على اللغة، إذ تكشف الحركة كيفية استخدام اللغة كوسيلة للسيطرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. يمكننا، من خلال احتلال اللغة، الكشف عن الكيفية التي تستخدم بها المؤسسات التعليمية والسياسية والاجتماعية اللغة لتعزيز تهميش المجموعات المضطهدة؛ ويمكننا مقاومة الممارسات اللغوية الاستعمارية التي ترفع لغات معينة على حساب أخرى؛ ومقاومة محاولات تعريف الأشخاص بمصطلحات متجذّرة في الصور النمطية السلبية؛ والبدء في إعادة تشكيل الخطاب العام حول مجتمعاتنا وحول الدور المركزي للغة في العنصرية والتمييز.
كما أظهرت حركة “الاحتلال” العالمية، يمكن للكلمات أن تثير وتحفز شعوبًا بأكملها، وحتى العالم بأكمله. يجب أن تخاطب حركة “احتلال اللغة” قوة اللغة في تحويل طريقة تفكيرنا في الماضي وتصرفنا في الحاضر وتصوّرنا للمستقبل.
[1] تُعرب هذه الكلمة باستخداماتها في اللغة الإنجليزية في هذا السياق على أنها صفة لأسماء “احتجاجات” و “حركة” كما في الأمثلة التي يقدمها الكاتب “المترجمة”.
الكاتب: يُدير مركز العرق واللغة CREAL في جامعة ستانفورد. كتابه القادم “التعبير عندما تكون أسودًا: باراك أوباما، واللغة والعرق في الولايات المتحدة” (Articulate While Black: Barack Obama, Language, and Race in the U.S.)، الذي كتبه مع جنيف سميثرمان، يتناول فيه السياسات العنصرية لرئاسة أوباما من خلال عدسة لغوية.
المترجمة: باحثة دكتوراه في الأدب. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
?What if We Occupied Language
H. Samy Alim
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”