د. معجب الزهراني
حين يخصص الإصدار السادس لكارل ماركس فالمؤكد أن قارئا مثلي سيتساءل عن ما يبرر القفز على كانط وهيجل اللذين يعدان أبرز فيلسوفين في القرن التاسع عشر، وبكل المعاني والمعايير . ولأن التساؤل لا ينتظر إجابة أصلا فإننا نطرحه ذريعة لوعد لا غير . نعم ، لا بد من العودة إليهما في مقالات تالية لأنهما قدما أطروحات كبرى تستحق العرض والحوار من جهة ، ولأن ماركس ذاته لم يكن ليوجد من دون هيجل بشكل خاص فيما نظن . كتب الكثير عن هذه الشخصية التي لم يؤثر أحد من المفكرين في أحداث القرن العشرين مثلما أثرت . فإلى قبيل عقود بدا العالم كله وكأنه قد إنقسم إلى ” أتباع ” لماركس و”أعداء ” له ولكل الماركسيات التي تنتمي إليه مباشرة أو مداورة !. والسبب أن منظومة كاملة من دول كبرى كالاتحاد السوفييتي والصين ودول أو دويلات صغرى كألبانيا وكوبا وكوريا واليمن الجنوبي سابقا ، فضلا عن الأحزاب التي أسستها النخب المثقفة ولم يخل منها بلد في العالم تقريبا ، تبنت الماركسية فكرا نظريا وإيديولوجيا سياسية وعقيدة خلاصية . هكذا كان لابد من الصراعات الداخلية والحروب الخارجية الباردة والساخنة التي يرى البعض أنها حسمت في الثمانينات لصالح الغرب الليبرالي ، فيما يرى آخرون أن الرهان لا يزل قائما لأن التاريخ لم ينته بعد .
لنبدأ بتشكل الفكر . ولد ماركس في ألمانيا عام 1818 وفيها نشأ ودرس الفسفة وأنجز أطروحة بعنوان ( اختلاف فلسفات الطبيعة عند ديموكريت وأبيقور) . في هذه المرحلة كان ينتمي إلى ما عرف باليسار الهيجلي ، وهو توجه تبناه شباب متحمسون للتغيير الذي ظل فكرة حية فعالة في بلد لم يكن قد أنجز ما أنجزته فرنسا الجمهورية وأنجلترا الملكية الدستورية من قطائع وعرفته من تحولات جذرية في شتى الميادين. ورغم نزعته المادية – الطبيعية إلا أنه لم يكن قد امتلك بعد رؤية فكرية واضحة تضمن له مكانة متميزة بين المفكرين البارزين آنذاك . هذه الرؤية بدأت تتبلور حين انتقل إلى فرنسا حيث ابتعد الباحث الشاب عن الفكر النظري وبدأ يتعرف على مهارات التحليل الاقتصادي ويفضله على غيره لفرط انشغاله السابق بالنضال العملي من أجل الديمقراطية ومن أجل حقوق الطبقات الفقيرة بشكل خاص . وفي باريس كتب مع صديقه إنجلز ” البيان الشيوعي ” الذي نشر عام 1848 وسريعا ما انتشر على نطاق واسع في أوروبا الغربية وكأنه صادف تلك اللحظة التي تنعقد فيها الصلات القوية بين النصوص والواقع فلا يعود من السهل قطعها . هنا تحديدا بدأت الأطروحة الماركسية تتبلور بشكل واضح ولا شك أن انتقال صاحبها إلى بريطانيا البلد الصناعي الأكثر تقدما والقوة الاستعمارية الأكثر تمثيلا للرأسمالية العالمية حينها ، مثل المرحلة الحاسمة في هذا السياق ( وأهم عمل معرفي – فكري أنجزه ماركس – رأس المال – من منتوجات هذه المرحلة أو هذه ” الرحلة ” تحديدا ). ومع أن الأطروحة تبدو واضحة معروفة لكثرة تداولها في الكتابات وعلى الألسن ، لكنها ليست كذلك بالضرورة في الواقع نظرا لما نتج عن التداول العام ذاته من تبسيط واختزال وتشويه . فالقول بأن الطبقات العاملة التي تنتج هي الأكثر فقرا، وبالتالي فإن تملكها لوسائل الأنتاج وإدارتها لمؤسساته وعملياته هو المخرج المنطقي والعملي الأمثل لحل المشكلة ، لأن هذا هو السطح الظاهر للفكرة لاغير . فماركس كان يحاول تفسير الظاهرة الجزئية في ضوء نظرية كلية للتاريخ ، وليس للاقتصاد أو للسياسة أو للاجتماع فحسب . هنا تحديدا استعار من أستاذه هيجل قانونه الجدلي الشهير وحوله إلى مسار جديد . فعند فيلسوف التاريخ الأهم في العصر الحديث لا تتطور البشرية إلا بفضل الوعي حين يحضر في الزمن والمكان ليفكر وينتج فكرة عامة سائدة ( أطروحة ) لا تلبث أن تنتج عنها فكرة مختلفة تعارضها لتحل مكانها ( نقيضة ) عن هذه العلاقة ” الجدلية ” تنتج فكرة ثالثة مختلفة عن سابقتيها وهكذا . أما عند التلميذ العاق فإن الفكر كله منتوج فوقي ، نظري أو رمزي ، تحدده وسائل الأنتاج ، أي أنه يبدأ ويحسم في مستوى علاقات الواقع المادي حيث يدور الصراع بين الأفراد والفئات والطبقات ، ومن يمتلك ويهيمن لا بد أن يسعى لضمان سيطرة أفكاره وقيمه وتصوراته على غيره . هكذا نرى كيف قلب ماركس منطق هيجل ليقدم المادة على الوعي ، والصراع على الجدل ، والجزئي على الكلي ، بل وقدم المنافع الحيوية للكائن على القيم الرمزية للإنسان فألغى من التاريخ معان عميقة لا فكر ولا ثقافة من دونها كما نبه إليه التوسير!. لكن المشكلة ستتفاقم حين تحول الفكر إلى إيديولوجيا ، لأن الأطروحة النظرية المفتوحة على الجدل والحوار ستتحول إلى فكرة صلبة ، بل وإلى ” دوغما “، تؤمن بها جماعة محدودة منغلقة ،فلا تترك لأحد سوى فرصة تقبلها أو رفضها.هذا المنزلق الخطر تنبه إليه ماركس في أواخر حياته ولذا قال مقولته الشهيرة ” أنا لست ماركسيا ” ، وكأنه كان يحذر من تحول فكره إلى ” عقيدة خلاصية ” توزع الناس بين قطبي الخير والشر ، ووفق منطق ثنائي لا يرحم أيا من الطرفين. لكن الخطاب كان قد استقل عن الشخص وبدأ يشتغل وفق قوانين أخرى قد لا يكون للفكر وللذات المفكرة أي دور فيها ، وكل خطاب شمولي يوهم اتباعه بامتلاك الحقيقة المطلقة والنطق باسمها يتورط في إشكاليات كهذه حتما . فالشيء المؤكد بالنسبة لنا اليوم أن الأنظمة السياسية التي تبنت الفكر الماركسي ورطت ذاتها ومواطنيها في إشكالات إنسانية كبرى حيث بررت صنوف القمع وضحت بأرواح عشرات الملايين من البشر، وغالبيتهم إما من أنصار الفكر ذاته أو من الأبرياء الذين تحولوا إلى وقود للصراع بين رجال السلطة الماكرين الذين لبسوا أقنعة النبوة من جديد ! . ومع أن هذه مأساة تتكرر كلما خلط البشر بين أحلام اليوتيوبيا ومعطيات الواقع إلا أن ما ارتكبته هذه الأنظمة في حق نخبها وشعوبها ، وظل مسكوتا عنه إلى فترة قريبة ، مثل فجيعة كبرى للمتعاطفين مع الفكر وفضيحة أكبر كانت منتظرة من قبل أعدائه وخصومه ، ومنذ البدايات .
ماذا تبقى إذن من ماركس ومن الماركسيه ؟ .
سيقول البعض : لا شيء ، فيرد آخرون : كل شيء .
ولكي لا ننخرط في المواقف الحدية لا بد أن نعود إلى السياق الفلسفي الذي سيذكرنا ببدهيات منسية من كلا الطرفين . فالذي تبقى فعليا هي هذه النصوص التي يمكن أن تحاور كفكر نقدي حاول أن يفسر العالم ويغيره ، ويمكن أن ترفض جملة أو تفصيلا حين يصر آخرون على أنها فكر علمي أو فكر خلاصي لا يأتيه الباطل من أي جهة . إنها صيغة أخرى للقول بأن ماركس المفكر كان موجودا وسيظل ، أما ماركس المنذر المبشر المخلص فقد سقط ، وساهمت الماركسيات كلها في إسقاطه . وحتى ماركس المفكر لا بد أنه أصبح خلفنا ، مثله مثل أرسطو وابن رشد وهيجل و كانط ، ولذا ينبغي أن نعود إليه كي نحاوره ونعود سريعا إلى مواقعنا في راهن تختلف تحدياته واستحقاقاته كثيرا عما عاشه وعاناه أسلافه وأسلافنا .. وحتى الذين يطلون علينا من شرفات الأمس القريب .