الشعر هو الكلمة خارج السياق. من هنا يلتقي بالميتافزيقا من جهة اللغة المتعالية على اللغة اليومية، وعند التأمل الطويل ندرك بأن الشعر عليه أن لا يكون ميتافزيقا ولكن ماذا أعني ؟ الميتافزيقا أفهمها هنا بوصفها مجموعة من المبادئ الأولية والمطلقة وهذا مفهوم أرسطو الذي ذكره في مقالاته حول الميتافزيقا، فهل للشعر مبادئ؟ نعم ولكن المعضلة أنها تُحمل على جهة الإطلاق فيتحجر الشعر وتموت الكلمة وقوةالخلق في حدود أسوار قوانين الوجود المطلقة. إذن نقول ليس للشعر مبادئ؟ ليس كذلك الأمر يعتمد على كيف نفهم المبدأ والأصل والعلة الخ بعد ذلك تتضح رؤيتي حول الشعر في هذا المقام.
كان ولازال عند البعض يُعرف العلم بوصفه “العلم بالكليات” أما الجزئيات فلا يمكن أن تكون علمًا لأن الجزئي يفر ولا يقبض عليه، ليس له مبدأ ثابت نستطيع من خلاله تعميم القضية، لذلك ولد الفرق بين التعميم الاستقرائي الجزئي والتعميم الاستنباطي الكلي، إلا أن مفهوم العلم الكلي واجه عدة نقودات منذ نهاية العصور الوسطى وبداية عصر النهضة، وكان الجسر بين المرحلتين يمر من كوبرنيكوس ذو الثقافة القروسطية وغاليليو محاولًا دعم أطروحة كوبرنيكوس الحداثية آنذاك، ولا أدل على هذا الإنزياح من كتاب غاليليو “حوار حول النظامين الرئيسيين للكون: النظام البطليموسي والنظام الكوبرنيقي” فهو وثيقة عظيمة باذخة الجمال على كيفية تغير “الأفكار” من عصر إلى أخر. ومن جهة أخرى دشن بيكون البيان الرسمي لمنهج العلم الحديث فعاد الجدل الأفلاطوني والسفسطائي من جديد على شكل ديكارت وبيكونأي ما بين العلم الكلي والجزئي.
مشروع كانط يعتبره الكثير وثبة في تاريخ الفلسفة ضد التجريبية أي إعلانًا بإنتصار العقلانية الحديثة، لقد قتل كانط حيوية الإنسان الحديث الذي كان يرتع في خيرات الإستطيقا ما بين عمارة قوطية وموسيقى باروكية وجداريات تدون قصة الخلق الخ كيف فعل ذلك؟ أدرك ديوي جيدًا وهذا ما جعله وحيدًا بعد ذلك أهمية ولوازم العلم بالمعنى الحديث أي الجزئي فكتب كتابًا رائعًا بعنوان (المنطق) ووضع فيه المنطق كما لو أنه تأسس على العلم الحديث دون اللعنة الكانطية، ديوي هنا يعد رامبو الفلسفة حيث قال هذا الأخير ” سأمضي بعيدًا بعيدًا جدًا كمثل بوهيمي عبر الطبيعة سعيدًا كما لو مع إمرأة ” هل نجد في هذا النص من حيث بنيته “اللاواعية” تأويلًا يصح ربطه مع منطقية ديوي؟ نعم فالأمر في غاية البساطة عندما ندرك حجم تعدد الدلالات في الجمل بعامة، لكن لنحذر من أي تشومسكية هزيلة “التوليد اللامتناهي للكلمات” هنا تعدد للمعاني دون شك لكن لا يقع في مقولة “اللاتناهي” وهنا المعضلة بل هي متناهية ولا تعارض مع كثرتها.
إذن سيمضي رامبو بعيدًا وهذا ما فعله ديوي في علم المنطق أو منهج العلم الحديث، إنه بعد مكاني نسبةً لتاريخ الأفكار ولا يفهم هنا أي مثالية لمقولة “المكان” فهو مكان يلد من الدماغ. على كل وضع ديوي الطبيعة كأساس لوضع منهجه ومن ثم صارت المقولات الميتافزيقيةوالمنطقية المعتادة ذات دلالات مختلفة، الوجود الهوية التناقض العلة المبدأ الكثرة التعدد الخ ويهمني هنا مقولة المبدأ . حتى نفهم طبيعة المبدأ أعود لكانط قلتُ إنه قتل الحيوية وجعل الإنسان صنمًا أو مسخ يعيد تكرار المعنى، وذلك على مستويين “الاستطيقا المتعالية” و “استنباط مقولات الفهم” في الشطر الأول حدد بشكل صارم إطارين يقبضان على رأس الإنسان “جمجمة على هيئة زنزانة” وأعني مقولتي الزمان والمكان، فحتى لاأطيل أقول بشكل مختصر هنا بأنه لولا ثورية النظرية النسبية العامة لما صارت الهندسة اللاأقليدية ممكنة، وهذه بداية التحرر من قلعة كالقوطية.
كذلك فعل فيما يخص مقولات الفهم فهي راسخة في الإنسان لا يرى العالم إلا من خلالها “نظارات بنكهة المقولات” وتحول الإنسان إلى مشرع للطبيعة قوانينها وليس تشريعًا بريئًا بل يشرع قوانين ثابتة وأزلية، المقولات العشر الذي وضعها أرسطو في كتب التحليلات هي من يقبض على ملكة الفهم بالأحرى أنت لا تملك الخروج عن دائرة هذه المقولات ومن ثم ما تنتجه ليس إلا تكرار عبثي. ليس ذلك فحسب كتابة الشعر مثلًا تصبح إستلافات خجولة من مبادئ الأسلاف فهناك فرق كبير بين من يستلف مبادئه وبين من يبتدعها. لذلك عاود العلم بالمعنى الكلي للظهور بقوة بلوغًا لهوسرل الذي غضب في كتاب الأزمة من : غياب العلم الكلي في القرن العشرين. من هنا نفهم الفرق بين المبدأ الذي ينطلق من العلم بوصفه علمًا كليًا وبين المبدأ الذي يتأسس على العلم الجزئي وهذا ما فعله ديوي في كتاب المنطق “بوهيمي عبر الطبيعة” ولا أغفل أن كانط في ملكة الحكم فرق بين العبقري والعالم من جهة مفهوم المبدأ أيضًا فالأول يخلقها والثاني يجدها جاهزة أييكتشفها إلا أن ذلك لا يعدو أن يكون هامشيًا في المتن الكانطي وإن كان سبب نشوء الرومانطيقية التي تعد بوابة العبور نحو الفن الطلائعي الانطباعية الدادائية السريالية جيل البيت الخ من جهة ثانية لا يهمني تحقيق فلسفة كانط هنا بل مآلات هذه الخطابات وسميتها ” البنى الإنطولوجية” على ضد “البنى السيكولوجية ” أي ذات التعارض بين العقلانية الفرنسية والتجريبية الإنجليزية، وهناك تقسيمات أخرى لكن مايهمني هنا هو هذه الرؤى.
إذن بعد كل هذا ما المبادئ؟ وعلى ماذا تتأسس؟ تنطلق الخطابات التي تعتمد على التوصيفات الإنطولوجية الثقيلة على ضرب من المبادئ القبلية والأزلية، بينما التوصيفات التي تعتمدها التجريبية الكلاسيكية ثم البراغماتية والبراغماتية الجديدة مع كواين على البنى السيكولوجية الخفيفة فيكون لدينا نوعين من المبادئ:
ما الشعر إذن؟
ليس السؤال هنا ماهويًا بالمعنى الميتافزيقي للكلمة، بل هي ما متخففة من أثقال الميتافزيقا والأنطولوجيا. والشعر إذن كلمة حرة تعاند السياقات حسب تعاقب عصورها، وضد ذلك يعني حَجب وتعطيل عملية البحث المستمرة والحثيثة عن “طبيعة الإنسان” ولسنا اليوم إلا بوذا تعترضه الأسئلة الوجودية على طريق الحرير والذهب ولا يجد لها إجابات، وهذه الظلمة التي تغطي عصرنا ليس إلا ظل سؤالاته الضخمة،الرحلة الأوديسية لن تنتهي فالبحر لم يكن إستعارة بريئة في عصور الملاحم والبطولات والأساطير، إنما البحر دلالة واضحة على حداثةليست سائلة فهذه أوصاف تفتح للشهية، إنما حداثة صلبة في مغامراتها، عصر الشجاعة يعيد تكرار نفسه عبر التاريخ لا كتحايل سحر يضد العباقرة كما يصف هيغل بل هم حالمون وببساطة لا يريدون إنتهاك حقهم في الحُلم:
حلم
نحن في جوع في غرفة الثكنة
حقًا
روائح تنبعث انفجارات
عسكري أنا جبن الغرويير
لوفيفر : كيلر!
عسكري أنا جبن البري
الجنود يقطعون خبزهم
إنها الحياة
عسكري: أنا جبنة الروكفورت
سيكون موتنا
أنا الغرويير
أنا البري…إلخ
فالس
ثمة من انضم إلينا لوفيفر وأنا…إلخ/آرتور رامبو