عبدالله عبدالعزيز
“الإنسان الكامل برزخٌ بين الوجوب والإمكان” ابن عربي
لنتفق أولاً على أن الكائن الإنساني الموصوف بما يتميز به عن باقي الكائنات الحية بالوعي بوعيه، أو الموصوف بمقدرته على أن يعقل عقله، هو الكائن الذي من شأنه أن يتفلسف. بمعنى أنه فيلسوف بالقوة، لكن ما بالقوة غير ما بالفعل، فبينهما مسافة يعنينا في مقامنا هذا تحديد نوعها، فمقولة المسافة لها أكثر من مستوى للدلالة، أحدها أنها تدل على المدة: وإليها ترجع مقولات “التجربة” و”الخبرة” و”الممارسة”، أما المستوى الثاني للدلالة فهو أنها تدل على الكيف: وإليه ترجع مقولة “الفعل” وعنه يكون “الأثر”.
إذن، هناك جهات ثلاث بلحاظ كل منها يمكن تحديد الأفق الذي يجب أن تتنزل فيه أي إجابة عن سؤالنا عن ماهية الفلسفة: جهة “الدافع” و جهة “المبدأ” وأخيراً جهة “المآل”، فالتفلسف في الأساس “نشاط” إيجابي هادف، له سياق و زمن واتجاه خاص، والمتفلسف يأخذ لقب الفيلسوف باعتبار نشاطه الخاص.
كان هيدغر سبق ونبّه إلى أن السؤال عن ماهية الفلسفة قد يثير انطباعًا مشهورًا مفاده أن “الفلسفة” قائمة في ذاتها، وبالتالي نحن إذ نسأل هذا السؤال جاعلين كل شيء رهينة له، فنحن لا نسأل بقدر أننا نتظاهر بالسؤال عما نعتقد سلفًا أننا نملكه، أي لا نفعل سوى التأكيد على اعتقادنا أنّا نملك الحقائق المزعومة ذاتها، أي إن الفلسفة عندئذ لا تفد صاحبها غير ما سبق أن أكده سلفاً بالملموس والتعامل مع الأشياء القائم على التجربة.
والحال أن “المعرفة الفلسفية” ليست تحصيل حاصل، أي ليست معرفةً مسبقة يحرص الرأي المعتاد على التأكيد عليها كيما يبالغ في تقديرها أو يبالغ في تبكيتها والحط من قدرها، إنما هي التفكير الأشق، انطلاقًا من اليقظة الصافية للتفكير النابع من حال وجداني أعلى تظل فيه.
هذه اليقظة الصافية “ليست […] لا شيئا، وليست مجرد غياب الوجدان، وليست أيضا مجرد برودة المفهوم المتحجر، بل إن اليقظة الصافية للتفكير ليست في العمق سوى إمساك الأشد صرامة المميز للحال الوجداني الأعلى، أقصد ذلك الحال الوجداني الذي انفتح للأمر الجبار: أن الكائن كائن لا غير كائن” [هايدجر، الأسئلة الأساسية للفلسفة، ص22]
الفلسفة إذن معرفة بماهية الكائن، وهي معرفة لا فائدة مباشرة منها، إنها معرفة استباقية تختلف كليًا عن “رؤية للعالم” وتختلف جذريًا عن كل “علم”، ومع ذلك هي معرفة سيادية بالإضافة لكونها معرفة استباقية.
إن معرفةً استباقية وحدها، هي من تفتح للذات مسالك جديدة، وبذلك تمكنها من رؤيتها الخاصة التي تتمتع بما لها من مقاييس، هي الأمارة على سيادتها، بحيث “تقوم السيادة على أن تضع في التفكير أهداف كل تمعن” [نفسه، ص28] وعليه، تكون الفلسفة معرفة لماهية الأشياء، “على أن ماهية الكائن تظل في كل حين أكثر الأمور جدارة بالسؤال” [نفسه، ص27] وهو سؤال تعيد الفلسفة طرحه باستمرار من أجل التقدير، ولكن التفكير الذي يُصرُ على الحساب والفائدة وقابلية التعلم ذاهل عن كل ذلك، فلا عجب لو يئس منها كونها لا تثمر نتائج أبدًا.
إنّما ينتظره المرء كنتيجة للفلسفة هو الذي يقوم عليه حكمه عليها، وبحسب هايدغر إن أولئك الذين ينتظرون منها نتائج مباشرة مخطئين، والخطأ في تصور بدئي لديهم عن الفلسفة كتقرير يعيد طرح ما هو مطروح فعلًا، و معطى سلفاً، فيؤول الأمر بالذات إلى تحصيل ما هو حاصل.
صحيح أن التفلسف وسيلة إلى… لكن هذا لا يعني اختزاله في كونه وسيلة، بل هو غاية أيضاً، هو وسيلة لاستئناف مسالك جديدة، طرق لم تطرق من قَبلُ، لكنه أيضا ذا غاية، وغايته ليست غير التفلسف نفسه. البحث نفسه هو هدفنا، وما “البحث إن لم يكن القرب المستمر من المتخفي الذي منه يصيبنا كل ضُر و يحمسنا كل تهليل. البحث نفسه هو الهدف وهو في الوقت نفسه ما نجده. لكن هنا نبعث شكوك تبدو مقنعة. فإذا كان ينبغي أن يكون البحث هدفاً أفلا نضع غياب أهدافٍ بلا نهاية، هدفاً؟ هكذا يفكر الفهم الحاسب. إذا كان ينبغي أن يكون البحث هو الهدف، أفلا يحدث بذلك تأييد غياب السكون وغياب الرضا؟ هكذا يعتقد الشعور المتلهف على ملك سريع. وفي كل مرة نعرف أن البحث يحمل للكينونة الاستقرار والاتزان الأعليين – لكن ذلك لا يكون إلا إذا كان هذا البحث نفسه، يبحث بالمعنى الحق.” [نفسه، ص29]
يحدد هايدغر أفق الانتظار المناسب، فلا فائدة مباشرة من الفلسفة، لكن ثبات الذات – بالذات، لا في الذات هو ثمرة المعرفة الفلسفية، أو ثمرتها أنها تضع أهداف كل تمعن فلسفي، وهذا الأخير هو ما يوفر “لكل سلوك مسالك جديدة للرؤية، ولكل قرار مقاييس جديدة”. [نفسه، ص26]
ثم إننا إذ نضع البحث نفسه هدفًا، نعين البداية والنهاية لكل تمعن في التساؤل عن حقيقة “الكون” نفسه – ليس هذا الكائن أو ذاك أو كل الكائن، هذا الذي لأجله يُعَدُّ هذا “لتساؤل نفسه معرفة، لأنه مهما كان الجواب أكثر جوهرية وحسمًا، فإنه لا يمكن أن يكون سوى الخطوة الأخيرة في سلسلة طويلة من خطوات تساؤل مؤسس في ذاته. فليس الاكتشاف في مجال البحث الحق كفًا عن البحث، بل هو تصعيده الأعلى” [نفسه، ص29]
———–
المراجع:
الأسئلة الأساسية للفلسفة “مشكلات” مختارة من “المنطق”: محاضرة فرايبورغ لدورة الشتاء 38/1937م، مارتن هايدغر، الكتاب الجديد