عبدالله عبدالعزيز
قلنا أن التفلسف بالأساس نشاط له هدف و سياق و زمن واتجاه مخصوص معين، بالإضافة إلى أنه يتميز بأدواته التي تختلف حَسَبَ مكاسب كل ذات، و التي يتم امتلاكها على الطريق إلى تحقيق الذات مكاسبها المعرفية الخاصة، و التي تؤول بها إلى تكوين وجهة نظر حول وعن ذاتها – والعالم.
هنا نتبين ما به الاختلاف بين الكائن اليومي وبين الكائن المتفلسف، بله أيضاً هنا نتبين ما به الاختلاف بين فيلسوف وفيلسوف آخر، أو إن أردنا أن نكون أكثر دِقَّة، هنا نتبين ما به الاختلاف بين فلسفة وفلسفة أخرى. فليس التفلسف من حيث هو “نشاط مخصوص” غير نمط فريد من إظهار ما في بطن الكائن، وعليه فإن الاستجابة السلبية لما هو معطى سلفاً لا يصح كونها ممارسةً ونشاطًا لما نسميه في مستوى الممارسة والفاعلية: تفلسف، فالاستجابة السلبية لا تقول شيئاً، ولا تؤول إلى أي مآل، أو لنقل إن ما يمكن أن تقوله لن يكون في الحقيقة غير تحصيل حاصل.
إن التفلسف كفعل يجد مبدأه في الجرأة والاعتداد بالنفس هو إعلان عن انخراط الفاعل في اجتهاد نظري إرادي يتوخى من خلاله إحداث تعديل على أشياء العالم على المستوى الوجودي وعلى المستوى الدلالي، وعلى الطريق إلى إنجاز هذه التعديلات، يجد المتفلسف أنه بسعيه النظري قد أقر بالفعل بضوابط لها أثرها المباشر في توجيه فعله عن وعي باتجاه معين.
ولأنه ينقاد بما وضعه هو من قيود، فالمتفلسف من هذه الجهة حر طليق، وهذا مُصحح إسهاماته في السياق الحضاري لزمانه، وتكون مساهمته من موقفه كمستشكل أو كفاحص للمعهود والمألوف من الأحكام، وذلك حتى يعود رافعًا الإشكال عبر مسلك مخصوص (التفلسف) من البيان.
كل ما يمكن وضعه نصب العين يمكن النظر إليه كموضوع فلسفي، وبالتالي يتعلق به فعل التفلسف، بغض النظر أكان وجودًا واقعيًا أو وجودًا ذهنيًا، فالمواضيع تستحيل بفعل التفلسف إلى أسماء تُمَثِلُ مسمياتها من جهة، وتَمثُلُ بها أمام ناظر الفيلسوف من جهة أخرى؛ فلا تفلسف إلا بالتمثل باعتباره الفعل الذي يربط بين فعل التفلسف وموضوعه.
والمسمى إذ يَمثُلُ أمام ناظر الفيلسوف لا يَمثلُ إلا بعد إجراء جملة من الأفعال بغرض انتزاع عنصر من عناصر المسمى وتجريده منه، وقد يكون هذا العنصر صفة من صفات المسمى أو علاقة من علاقات يتعالق بها مع غيره من المسميات.
والمعتبر في التجريد الذي بدونه لا تَمتَثِلُ المسميات أنه المؤدي إلى الوعي والاستيعاب والفهم، وبالتالي المؤدي إلى التَعرفِ على تعريف الماثِلِ أمام العين، أو التَعرفِ على دلالته المطلقة أو النسبية، أو على خواصه التي تميزه عن سواه.
وبفضله – أي التَمثُل – تستحيل المواضيع التي يتعلق بها فعل التفلسف إلى جملة من المفاهيم ينسق بينها، بحيث تصبح بتنسيقه منتظمة في بنية نظرية مركبة تفيد الإفصاح عن معارف وآراء تنسب إلى مبحث معرفي ما، مبنية ومنظمة ومرتبة وفق منهجية في النظر تنتهي إلى نظرية فلسفية معرفية أو وجودية أو قيمية، هي تركة الفيلسوف ومساهمته الحضارية الخاصة، وهي الشاهد الوحيد عليه.