المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
٣ سبتمبر ٢٠١٣
هذا المنشور الثاني من خمسة منشورات هذا الأسبوع حول النساء في الفلسفة.
هذا السؤال طرحه عليّ صحافيون العام الماضي عندما كنتُ رئيسة للجمعية الفلسفية الأمريكية، الفرع الشرقي. لماذا ما تزال الفلسفة متأخرةً عن بقية أقسام الدراسات الإنسانية الأخرى فيما يتعلق بتنوع هيئات تدريسها؟ لماذا ما تزال نسبة أعضاء هيئة التدريس من النساء وأبناء العرقيات الأخرى (=الملونين) معاً غير منسجمة في بلادنا، بل وحتى في التعليم العالي؟ ما المشكلة مع الفلسفة؟
الآن، حقلنا الأكاديمي (أي الفلسفي) يمر بحدثٍ آخر يستحق الذكر، حدثٍ أذاعته صحيفة نيويورك تايمز على صفحتها الأولى، وهو ادعاءات التحرش الجنسي ضد الفيلسوف المؤثر كولِن ماكجِن (Colin McGinn) والتي نجم عنها استقالته لاحقاً. ها هو ذا أحد رواد فلسفة اللغة لا يستطيع أن يميز بين المزاح الجنسي الذي تحول إلى ضغط جنسي مقلِق ومتكرر ضد مساعدته الشابة. هذا قد يدفع للتساؤل: ما المشكلة في حقل فلسفة اللغة؟ لقد حاول ماكجن تفادي اللائمة وذلك عبر الادعاء بأن الطالبة التي تعمل مساعدة لديه لا تفهم شيئاً في فلسفة اللغة وإلا لكانت أدركتْ الجانب اللامؤذي في نكاته ومزاحه. هو لم “يقصد” إلحاق الأذى بها، ولم تكن “عباراته” منطقياً تحتوي على أذى؛ إذن فهي التي تحمل وحدها عبءَ شعورها بالأذى.
من المؤسف أن حجة ماكجن أو دفاعه عن نفسه تتكرر باستمرار في التخصصات عندما يتعلق الأمر بالتحديات التي يفرضها افتقار تلك التخصصات للتنوع الديموغرافي. وقد ذكر مقال في التايمز، وأيده أصحاب المدونات الفلسفية، أن الندرة في فلسفة النساء وأبناء العرقيات المختلفة سببه نحن (= أصحاب أقسام الفلسفة). بل ويقترح البعض أن أسلوب الفلسفة الجاف والوعر في النقاشات أدى إلى نفورنا نحن النساء ونفور الرجال غير البيض. النتيجة المنطقية: يجب ألا يتم إبعادنا من حقلٍ مهمّ كهذا.
في مرحلة التحاقي بالدراسات العليا، تجرأتُ على طرح أسئلة شكوكية على واحد من أبرز الفلاسفة في العالم وهو رودريك شيشولم (Roderick Chisholm) في محاضرة له عن نظرية المعرفة. وقد كنتُ مستندةً على أفكار المذهب البراجماتي وعلى فكر فتغنشتاين (Wittgenstein). لكن شيشولم، المشهور بنزعته التأسيسية “مسح بي البلاط” وحوّل أسئلتي إلى شذَرَ مذَرَ واتخذ منها أضحوكة يتسلى بها الحاضرون. هذا لم يفاجئني. ما فاجأني أن شيشولم في اليوم الثاني أقبل عليّ وأنا في نادي الطلاب، وسألني بلطفٍ: هل أنتِ بخير؟ فقلت: نعم. وقد كنت صادقة في ذلك. لقد كنتُ على اطلاعٍ على أسلوب شيشولم التربوي لمدة عامين، وأعرف جيداً قدرته على تحويل أسئلة الطلاب وآرائهم المخالفة إلى أضحوكة يبتهج بها الطلاب. وأنا معجبة بهذه القدرة. لكني ما أزال راغبة في معرفة كيف سيجيب عن أسئلتي تلك. وعلى الرغم من نكاته، فإنه كان من الممكن أن يستنبط المرء من جوابه على أسئلتي فوائد فلسفية. وعلى كل حال، فقد كان ما حدث سجالاً فلسفياً مشروعاً أوقظ الطلاب من نومهم في الفصل.
شيشولم كان نموذجاً للفلاسفة المميزين في عصره وعصرنا، ولاسيما في جمعه بين الحذق الفلسفي والقدرة الخطابية. لكنه لم يكن نموذجياً في ذلك الوقت بسبب حساسيته تجاه النقاشات والجدال. كان يحترمني بما فيه الكفاية ليتعامل معي كما يتعامل مع بقية المناقشين، ولكنه كان يريدني أن أبقى في اللعبة. كنت واحدة من امرأتين فقط في ذلك الفصل، وكان يدرك أنني ربما أعاني من قلقٍ ناشئ عن الاغتراب الذي أشعر به فيما يتعلق بأدائي العام.
المسألة ببساطة لم تكن عن النقاش بل عن كيفية إجرائه. كثير من الفلاسفة يرون أن الحقيقة يمكن أن يتم الحصول عليها كما لو أن الأفكار معروضة في سوقٍ يتنافس عليه الناس في صورة قتال أو صراع. لكن الأساليب العدوانية التي تسعى إلى مكاسب سهلة من خلال اللجوء إلى أمثلة مضادة غامضة لا يمكن لها أن تزيد في الحقيقة شيئاً. وكذلك لن يزيد من الحقيقة شيئاً اللجوءُ إلى الامتيازات الاجتماعية التي قد ينالها المرء بفضل انتمائه لجنس معين أو عرقية معينة أو انتمائه لجيل قديم. ولا حتى اللجوء لرفض الاعتراف بسياقات العالم الواقعي المليء بالتحيزات المضمرة واستغلال السلطة والتي تحدث دائماً في النقاشات الفلسفية.
من المثير أن غاية الحقيقة تتعزز بشكل طفيف في إطار النقاش الجدلي الحاد مقارنةً بالقبول الذي يحيّد الخلاف لمدة كافية من أجل تجربة أفكار جديدة وتطويرها ومعرفة إلى أين يمكن أن تتجه. أحيانا تعمل البيداغوجيا (طرائق التدريس) بشكل أفضل ليس عبر التحدي ولكن عبر وضع المتعلّم على مساره الخاص به وبأجندته. وأحياناً يمكن بلوغ الفهم بشكل أفضل من خلال جعل ملكاتنا الشكية تمتد إلى اعتقاداتنا الخاصة وآرائنا الشخصية، كما يقول مونتين (Montaigne). إذا كان النقاش يعني أن تكون وسيلة لبلوغ الحقيقة – كما نحب أن نسلم بذلك نحن الفلاسفة-، فإن أفضل أشكال النقاشات هي المتنوعة وليس الموحّدة (= ذات الرأي الواحد).
فيما يخص التحديات الديموغرافية في الفلسفة، فإنه لا يليق بنا أن نلقي باللائمة على عيوب الأقليات. ماكجن، بخلاف شيشولم، لم يكن متواصلاً مع تلميذته ولكنه كان يربط رسائله الالكترونية بإيحاءات جنسية إن لم نقل تصريحات جنسية. النساء اللواتي عانين من هذه التجربة في مجال تخصصها (أنا وتقريبا كل من أعرف من النساء) يمكن أن يشعرن بالانزعاج من فكرة أن مكانة أستاذهم العالية في الفكر يمكن أن يكون باعثها ليس طلب الحقيقة بل شيء آخر. هذا يمكن أن يدمر ثقة أولئك النساء بأنفسهن وعجزهن عن خوض النقاشات. وربما أن هذا هو ما كان المقصود من كل ذلك.
الكاتبة: ليندا مارتن ألكوف أستاذة الفلسفة في كلية هانتر ومركز جامعة مدينة نيويورك، والرئيس السابق للجمعية الفلسفية الأمريكية، القسم الشرقي. مؤلفة كتاب “هويات واضحة: العرق، والجنس، والذات” وكتب أخرى. يمكن العثور على المزيد من كتبها من على موقعها الإلكتروني الخاص.
المترجم: فيلسوف، عضو جمعية الفلسفة السعودية، من مؤلفاته: ١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، ٢- قراءات في الخطاب الفلسفي، ٣- الوجود والوعي، ٤- الهرمنيوطيقا (ترجمة).
? What Is Wrong with Philosophy
Linda Martín Alcoff
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”