يزيد بدر
“البداية بوصفها شيئًا أوليًا لا يشتق من غيره هي وضع لافتراض معين، أو هي الافتراض نفسه، وهكذا يبدو كما لو كان من المستحيل أن تكون هناك بدايةً على الإطلاق” هيغل/ موسوعة العلوم الفلسفية
” رسمت لنفسي أن أتحدث عن تحولات الأجسام في أشكال جديدة فيا أيتها الآلهة أعينيني في هذه المحاولة أعينيني بإلهامك وقودي مسيرة هذه القصيدة من بدايات العالم حتى هذا الزمن الذي هو زمني” أوفيد/التحولات
من أجل الكتابة عمّا صار يسمى “ما بعد الحداثة” فلابد من التذكير أولًا بأن المهمة شاقة من جهة أنها تستدعي إنقلابًا في طريقة رؤيتنا للعالم كما أنها بطريقة ما تُذكرنا بأن الألفة الشديدة هي أبعد ما يكون عن البساطة والإدراك السريع، فحسب ما أراه في هذه الفلسفات(وإن كان لا يمكن وضعها في قالب واحد إلا على سبيل التجويز البيداغوجي) هو التالي: إنها لا تزمع “إكتشاف” شيء ما ولا حتى “إختراع” أمر ما وما بين الإكتشاف والإختراع جدل طويل ليس هنا مقام البت فيه. إنما أقصى ما نستطيع قوله أن “ما بعد الحداثة” تقترب من ذاك المفهوم الذي ذكره هايدغر في(الكينونة والزمان) أي الكينونة تحت اليد وهو ما سآتي على ذكره بعد أن أفصّل في إشكالية التسمية(وإن كان النحت وتغيير الدلالة لا يخلو من ضرب من الأمثَلة الفلسفية أو بعبارة ما بعد حداثية راسب ميتافزيقي عندما ندرك بأن التشديد على التسمية يعني الإقرار ضمنًا بأن العلامة تعكس الواقع أو الطبيعة الخ).
فالإشكال يقع تحديدًا في لفظ “بعد” فحين نعي بأن هذه الموجة الفلسفية ظهرت إبان صعود الفلسفات التي وجهت سهامها لنقد الحداثة فرانكفورت نموذجًا وكذلك ظهرت بعد أن تَصيرت الحداثة إنشغالًا كونيًا واعيًا أي بكلمة أخرى: مع أوج الحداثة. فيظهر مما تقدم أن عبارة “بعد” توحي بالتجاوز والبعدية فهو ظرف يفهم من خلال أضافته للحداثة فهذه الفلسفات إذن لاحقة وتالية للحداثة وهنا لب المشكلة في هذا المصطلح، فالبعدية توهم “بالتجاوز” ومن هنا جاء الخلط وسوء الفهم الشائع بين الحداثة وما بعد الحداثة حتى ترى الكثير يصرخون بأن ما بعد الحداثة ليست إلا حداثة وأن هذه الأخيرة قادرة على إستيعابها وهي مشروع لم يكتمل ولن يكتمل أبداً. إذن هل هناك بديل لا يوهم بهذه البعدية؟ فضلًا عن ما ذكرناه آنفًا عن كون البديل ونحت المصطلحات فيه من الإشكاليات الميتافزيقية لا يتوفر مصطلح ناجز وإن توفر لن يحل مكان ما عم وساد وهنا طرفة المصطلحات عند النظر إليها بوصفها نتاجًا إجتماعيًا لها سياق وحمولة عمومية يصعب إنتشالها بلمح البصر.
يبقى السؤال قائمًا وهو مشروع : إذن ما هي ما بعد الحداثة؟ وإن لم تكن تجاوزًا فماذا تكون ؟ إن هذا السؤال هو بشكل ما يقول: ماذا يعني النقد لدى هذه الفلسفات إن لم يكن تجاوز أو بناء ما هو جديد الخ ؟ إن عصرًا نقديًا دشنه كانط في مشروعه الشهير يفترض طريقة وحيدة للنقد وكذلك آليات التفكير، فمثلًا النقد المحض ينبّه كانط إلى أنه ليس سلبيًا أي فقط يزمع بيان حدود العقل بل هو إيجابي من حيث أنه يمهّد الطريق للعقل العملي والفصل بين العلم والإيمان بحيث يقوم الأول على الملاحظة والتجربة وحدسي الزمان والمكان بينما الثاني لا يتتطلب ذلك فالإيمان أمر يتعلق بالضمير والتسليم والإختبار وهذا جوهر الإيمان. إلا أن النقد ما بعد الحداثي لا يسير على هذه الطريقة وحتى أوضح وأقرب مفهوم النقد الما بعد حداثي فعلي أن أستعين بإستعارة أرسطوية وأخرى هايدغرية عمّقها فاتيمو (وإن كان في الإستعارات الكثير من المخاطرة كما بينا جونسون ولايكوف).
يبين لنا أرسطو مفهوم الحركة في عدة من مؤلفاته ومن أهمها(السماع الطبيعي) ثلاثة أشكال النمو والنقصان والإستحالة والنقلة، وما يهمني هنا هو حركة الإستحالة فهي تعني الإنتقال من الحرارة إلى البرودة كما في المعدن مثلًا عندما نضعه تحت نار تستعر ثم نخرجه، فالصورة التي تظهر هنا هو بقاء المادة على ما هي عليه أي الحديد إلا أن التغيّر يحصل في البرودة والسخونة وإن جاز لي لقلت بلغة أرسطوية أيضًا تغير في العرض لا الجوهر، كذلك النقد ما بعد الحداثي فهو يشير إلى ما هو موجود سلفًا ولكن طرأ عليه بعض التغييرات كالأَمثَلة كما أصطاد دريدا في تأريخ الميتافزيقا مفهوم الحضور وهيمنة الصوت على الكتابة.
يُقدم لنا فاتيمو في كتابه الرائع(نهاية الحداثة) قراءة “نقدية لكل الحجج الكلاسيكية التي قُدمت ضد ما بعد الحداثة ومن أشهرها أنها داخلة في صيرورة الحداثة، وأن النقد بذاته واقع في مقولتي “الجديد” و “التطور” وهي مقولات حداثية بإمتياز(سوف نعود لهذه المقولات فيما بعد) يستخدم فاتيمو على هدي نيتشه وهايدغر مقولتي “التعافي” و “المرض” مما يعني أن النقد ما بعد الحداثي ليس إلا تشخيصًا لمرض موجود ومحاولة التعافي منه دون تركه خلف الظهر لذلك يقول فيما نصه” ليست الميتافيزيقا[كما يقول هايدغر] شيئًا نستطيع وضعه جانبًا كرأي ولا يمكن تركها خلف الأكتاف كمذهب انتهى الإيمان به” (فاتيمو،٢٠١٤،ص١٩٩). مما يعني أنها نقد يسعى إلى وضع الأصبع على الأمراض دون الوقوع في مقولات من قبيل التجاوز والتطور والجديد، وسوف أبيّن فيما بعد بأكثر وضوحًا هذه المسألة كما ذكرت سابقًا من خلال مفهوم الكينونة-تحت-اليد ولكن الآن حسبنا أن نعي ماهية النقد ما بعد الحداثي وإلى ماذا يصبو. ومن الطريف أن هذا المفهوم الذي أعتمده فاتيمو بناءً على نصوص عدة لنيتشه وهايدغر وجدت صدىً له في مؤلفات ماركس وتحديدًا في مقالته(إسهام في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل): إن الحزب يعتقد أنه يستطيع نفي الفلسفة لمجرد أن يدير لها ظهره ويغرب عنها وجهه مغمغمًا ضدها بعض الجمل الغاضبة الساذجة، ان ضيق افقه هو الذي يجعله لا يعتبر الفلسفة من ميدان الواقع الألماني او أن يذهب إلى إفتراضها دون الممارسة الألمانية والنظريات التي تستخدمها، تريدوننا ان ننطلق من بذور الواقع الحيّة ولكنكم تنسون أن بذرة الشعب الألماني الحية لم تنم إلى حد الآن إلا تحت جمجمته وبكلمة إنكم لا تستطيعون إلغاء الفلسفة إلا بتحقيقها.(٩-ماركس-إسهام في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل) مما يعني أنك لا تستطيع أن “تدير ظهرك” فكل ما هنالك هو ما تحمله معك ، وهذا ما يقودنا إلى مقولة الجديد والتي تتبناها الحداثة بشدة ولكن قبل ذلك نسأل مما قد طرحناه من قبل : كيف يفيدنا المقام الإنطولوجي البدئي عند هايدغر في إستيعاب هذا الأمر جيدًا؟ أي كيف نفهم “طبيعة” النقد ما بعد الحداثي بوصفه “إشارة” وإستنطاق لما هو مُتكلم أصلا إلا أنه يقبع في الظلام، الأمر أشبه(وهنا إستعارة أخرى) بالدوافع المكبوتة بحيث أنها كامنة في ذواتنا ولكننا لا نشعر بها مما يعني أن الأمر لا يبحث في الوجود واللاوجود بل فيما ينكشف في النور وفيما يحتجب في الظلمة، وهذه ليست استعارات غنوصية ولا هايدغرية بل غايتها تقريب ما نصبو إليه.
الكينونة تحت اليد لفظ إشكالي في ترجمته فهل الأقرب إلى الدلالة الهايدغرية في at أو تحت under، ولكننا لسنا هنا في مقام توضيح ذلك ولكن بالجملة فنحن نختار “تحت” على “في” وقد يتضح ذلك بعد الإسهاب في بيان ماذا يعني هايدغر بهذا المقام الذي للكينونة، ولا يغيب عن بالنا أن القصد هنا هو بيان ما للنقد ما بعد الحداثي من معاني ممكنة تقترب مما ذكرنا أو تبتعد.
على كل من المهم، ولن أطيل في ذلك، أن نفهم فلسفة هايدغر بوصفها نقدًا لثنائية الذات والموضوع، وبلغة أخرى نقدًا للذاتوية الحديثة والتي تؤرخ عادةً مع ديكارت {وهذه العودة إلى ديكارت فيها الكثير من التبسيط فالأمر يعود إلى ما قبل ذلك بكثير} المهم أن العلاقة بين الإنسان والعالم تتشكل من خلال ذات أو وعي وعالم أو موضوع وهنا قطبين يحدث التناحر بينهما أيهما له الأسبقية وما إلى ذلك، إلا أن هايدغر يبين لنا في تحليلاته الإنطولوجية منذ بداية كتابه(الكينونة والزمان) بأن الكينونة في يوميتها هي من تؤصل لعلاقة أصلية لهذا الكائن الذي يطلق عليه دازاين، فكيف يكون ذلك؟ العالم يظهر لنا في البداية بوصفه كينونة تحت اليد أي أدوات هنا وهناك قابلة للإستعمال، المطرقة والساعة والمنزل والسيارة والطريق واللافتات الخ ومن سمات هذه الأدوات طابع الإحالة والتخفي، بمعنى أن المطرقة تحيل إلى المسمار وهذا الأخير يحيل إلى الخشب والخشب بدوره يحيل إلى البيت وهكذا ولكن الأهم أن الأدوات والتي لها نمط كَون تحت اليد لا نقيم معها علاقة حضور كما يفعل الفيزيائي عندما يدرس ظاهرة الصوت أو الضوء وغيره، بل كون يحتجب لا نسائله نظريا ولا عمليًا، وما يهمني هنا أنه يملك طبيعة الإختفاء والإحتجاب بوصفه أداة تستخدم لا نلاحظها ما لم يحدث لها شيء يعترضها كأن تُكسر إذا كنا نتحدث عن مطرقة مثلًا، عندها تظهر لنا وتفتح عالمًا، وتملك طابع ما يسميه هايدغر “لفت نظر” فهذه الإلتفاتة حين تعاند الأداة وتجبرنا على النظر والالتفات.
ما يهمني هنا وهو غاية هذا التخريج هو التالي : إن فاتيمو قال بأن النقد ما بعد الحداثي لا يريد التجاوز بل التعافي من مرض ما إلا أنه لم يفسر لنا كيف يكون بقاء هذه “الأفكار” ممكنًا والمراد من ترسيخ هذا الأمر يتبين أكثر حين نصل إلى نقد مقولة الجديد التي تبشر بها الحداثة بإستمرار . الخلاصة أن “الشيء” موجود كما في الأداة إلا أنه يحتجب ويختفي وما النقد ما بعد الحداثي إلا كسر لهذه الألفة، وهنا يقترب النقد من الفن حين نفهم هذا الأخير بوصفه نزع الألفة كما تحدث هايدغر أيضًا عن حذاء الفلاح في لوحة فان غوخ . إلى هنا نكون قد بيّنا بعض الشيء مفهوم النقد(إن جاز تسميته نقد) لفلسفات ما بعد الحداثة، وتبين لنا بأنه ضربٌ من الإشارة إلى ما هو موجود سلفًا كأن يفسر المحلل النفسي حلمًا لمريض ما فينقله من مرحلة عدم وعيه به إلى وعيه. بذلك نكون احتفظنا بأن “الأفكار” لا يمكن تجاوزها واستطعنا كذلك أن نبين لماذا و كيف يكون وجودها ممكنًا على مر العصور. إننا نصل لرؤية بارميندية دون ثنائية عقل/حس.
بدون شك إن للحداثة معاني متعددة، وهناك ضروب من التفرقة يقيمها بعض الباحثين بين الحداثة والتحديث وما إلى ذلك. ما يهمني هنا هو محاولة تحديد مجموعة من السمات البارزة التي تميز حداثة العصر الذي نعيشه، وذلك من مبدأ أن العصور كلها تمر بما نطلق عليه حداثة، وهناك سمتين بارزتين سوف نظهرهما أوًلا قبل أن نخرج بتحديد يفي بما أعنيه بالحداثة ومن ثم ما بعد الحداثة، لأننا لا نسلم بطوباوية الحد الجامع المانع، وهاتين السمتين هما: العلم والإصلاح الديني، عليّ أن أذكر بأن قراءة التأريخ مكللة دائمًا بالاختزالية فكوني أُبرز العلم والإصلاح لا يعني تهميش العامل الاقتصادي مثلًا والاجتماعي الخ، وحتى نبلغ هذا الأمر سوف أسير وفق هذه المحاور:
ثم بعد ذلك أمر سريعًا على أثر هذه التغيرات العلمية، وليست هي الوحيدة، على الإنسان ورؤيته للعالم مما أسفر عنه ظاهرة الإصلاح الديني والتي أنبثق عنها مفهوما لاهوتيًا للفردانية مما يجعل هذا المفهوم تحت مجهر فلاسفة ما بعد الحداثة ، والأهم نبلغ أخيرًا إلى فرضية البحث: أن إعلان موت الفن لدى هيغل وعي بالحداثة يضُمر رنين التخليق والتخلق لما بعد الحداثة. وسيكون ذلك من خلال إيضاح ما معنى موت الفن، وعلاقة موت الفن بموت العلم أيضًا، العلم بالمعنى الجزئي التجريبي، وبيان علاقة هذا الموت بقيمة(إكسيوم) الجديد والتي هي أحد أركان الحداثة.
أهم ما يميز العلم الحديث هو : ظاهرة العزل أو التحييد. ومن هذه الظاهرة ولد أمرين في غاية الأهمية : أ- الترييض ب-الصناعة{تلسكوب عامود غاليليو الخ} عزل الظاهرة وخلق بيئة مناسبة لها من خلال عزل وابعاد. مفهوم العزل انتقل ايضا إلى فلسفات القانون والسياسة وأعني فلسفات العقد الاجتماعي هوبز وروسو ورولز بينما كان الاجتماع صفة أساسية عند اليونان{تحديدا أرسطو في كتاب السياسة} فهو يطبعه حيوان مدني. الكثير من المتغيرات جعلت إمكانية الترييض ممكنة أكثر مما كان عليه، ونحن نعرف أقوالًا عدة حول هذا الموضوع مع غاليليو وكبلر وديكارت (وقد بلغت النزعة الرياضية أوجها مع لابينتز ومحاولة ابداع لغة كونية رياضية وسوف تعود هذه النزعة في القرن العشرين مع راسل ووايتهد) والعلاقة قد لا تبدو واضحة للوهلة الأولى إلا أنها تتضح حين نعي بأن الحداثة قامت على “الفردانية” ومن ثم “الذاتوية” وهذه النزعة الذاتية بدأت بخلق بيئة مناسبة لها لإجبار الطبيعة على التحدث ومن هنا أصبح الترييض ممكنًا.
ولا أدل على ذلك من فلسفة كانط النقدية عندما صار الزمان والمكان ومقولات المنطق قبليّة ونحن لا ندرك الواقع كما هو بل الظاهر أو ما يظهر ويتجلى وليس الشيء في ذاته، وقد أدرك فيلسوف العلم كواريه هذا الأمر ودافع عن نزعة أفلاطونية انتصرت على أرسطو طاليس. وعلى كل ليست سمة العلم الحديث “الجوهرية” الترييض بل الترييض نتيجة لسمة أساسية وأعني: تحييد الظواهر. أي خلق بيئة مصطنعة لدراسة ظاهرة ما. ولا يخفى علاقة هذه النزعة مع صعود الفردانية والذاتوية لذلك: أنا أفكر إذن أنا موجود. ومن جهة أخرى كان الإصلاح اللوثري منسجمًا مع روح العصر فلا يهم جزئيات التجديدات اللوثرية ولكن الذي يهم هنا هو نقد العلاقة السلطوية بين الإنسان وربه كما تجسد ذلك في الكاثوليكية وخاصة بعد مجمع نيقية، فالإصلاح دعم الفردانية، علمًا بأنني أقر بأن تتبع الفردانية عبر التأريخ لا يحتمل هذا الاختصار فمنذ الحرية الرواقية والإله الأبيقوري والقانون الروماني حتى ظهور الإله الإنسان والتعالي في الإسلام واللوثرية، عندما قال لا يحق لأحد أن يتوسط بين العبد وربه وليس هناك تأويل كهنوتي للكتاب المقدس، ولكل فرد الحق في التأويل، وهكذا بشكل سريع نلاحظ أنه من سمات الحداثة الرئيسية الفردانية(سياسيا) والذاتوية(فلسفيا).
إن الفرضية البسيطة التي أريد طرحها هنا هي كالتالي: في لحظة الوعي بالحداثة مع هيغل تم الوعي أيضًا بولادة ما صار يسمى ما بعد الحداثة؟ فالسؤال إذن كيف يكون ذلك ممكنًا؟
منذ نص 1807 وهيغل يردد “الأزمنة الحديثة” وفي هذا النص أيضًا يطرح فلسفةً تؤرخ للوعي والوعي بالذات حتى عصره أي اكتمال التاريخ وبلوغ الفكرة المطلقة. لكن النص الذي نجد فيه وعيًا بميلاد ما بعد الحداثة طرحه في دروس الاستطيقا، وتحديدًا فيما صار يسمى “موت الفن” لذلك ما أريد قوله تحديدًا من هذا النص هو: موت الفن وعي صريح بفقدان قيمة الجديدة. ورأينا بأن الجديد هو لب الحداثة إذا أخذنا هذا المفهوم بمعناه الإنطولوجي القوي، وقبل أن نخوض أبعد من ذلك لنقرأ نصًا لهيغل يُظهر لمحةً من خشيته على مقول الجِدة والجديد ” أما التغيرات التي تحدث في الطبيعة مهما كان تعدادها اللامتناهي فإنها لا تعرض علينا سوى دورة يعاد تكرارها باستمرار فليس هناك جديد تحت الشمس يحدث في ميدان الطبيعة ولهذا فإن التفاعل المتعدد الاشكال بين ظواهرها لا يثير إلا شعورًا بالضجر فالجديد لا يظهر إلا في تلك المتغيرات التي تحدث في المجال الروحي”(هيغل، ١٩٨٦، ص ١٢٧).
في بدء دروسه حول الاستطيقا يذكّرنا هيغل بأمرين في غاية الأهمية في نظره: أن الجمال الفني أسمى من الجمال الطبيعي وزيادة على ذلك كل فكرة من حيث الشكل هي أسمى من أي نتاج طبيعي مما يعني أن الفن نتاج الروح، والأمر الثاني وهو مرتبط بالأول ما صار يسمى “موت الفن” حيث نجده يقول: فإنه من الثابت في هذه الحالة أن الفن لم يعد يحقق ذلك الإشباع للحاجات الروحية الذي كانت الأزمنة والشعوب القديمة تبحث عنه في الفن(هيغل،٢٠١٤،ص٣٨). فثبت لنا أولًا روحنة الفن كون الجمال الفني أرقى من منتجات الطبيعة{وعليه سيكون نقد هيغل لمبدأ المحاكاة والذي ترسخ منذ أرسطو وخاصة في كتابه فن الشعر}.وثانيا أن الفن لم يعد يشبع الإنسان الحديث أو إنسان الحداثة، فمن البدهي أن يكون السؤال: لماذا؟ وماذا يعني هيغل بموت الفن؟ إن السؤال الثاني سيقودني إلى اثبات الفرضية أعلاه، حيث يجب أن ندرك بدايةً أنني لا أنوي شرح فلسفة هيغل الاستطيقية وغاية الأمر هو بيان كيف شعر هيغل وأدرك العلاقة الانطولوجية بين الفن وقيمة الجديد.
بادئ ذي بدء: لا جديد تحت أشعة الشمس. أي أننا في كون مغلق، وكنت قد طرحت مفهوم الكون المُغلق في عِدة مناسبات قبل أن اكتشف بأن فيلسوف العلم كواريه قد استخدم ذات المفهوم بذات المعنى الذي أعنيه إلا أن المفهوم عنده سلبي حيث يجعله على الضد من مفهوم الكون اللامتناهي الذي تجدد مع مبدأ العطالة، وهو عنوان أحد كتبه المهمة. الكون من حيث الرؤية المحايثة له مغلق ولا مجال فيه للتعالي، ولكن لا يعني أن كل محايثة تعتقد بأن الكون مغلق ولا قيمة للمطلق فيه، فنعلم أن سبينوزا يقول بالمحايثة إلا أنه يعتقد بأن الكون مطلق كونه لا يمايز بين جوهرين على طريقة ديكارت فكلا الجوهرين أي الفكر والامتداد صفات من بين أخرى تُحمل على الله أو الطبيعة.
المهم أن الكون مُغلق كما أنه محدود بالزمان والمكان المتناهيين. ومن هنا نجد أن قيمة Axiology الجديد غير ممكنة من جهة الإعتبار الانطولوجية أو الميتافزيقية، وهذا ما يرد العالم المغلق إلى قاعدة فيزيائية بحتة. نعود إلى هيغل فنقول: بأنه أدرك أن الفن يقود إلى طريق مسدود وأنه يلغي بدوره قيمة الجديد لذلك كان لزامًا أن يموت الفن وأن يوجد منبع أخر منه تتولد القيم، وقبل ذلك نقول بأن الفن عنده هو: التجلي الحسي للفكرة. الفن يتولد عن مضمون ويكون المضمون متنزل في شكل، وحسب ما يكون المضمون يكون الشكل والعكس صحيح، فيقسم هيغل أطوار الفن إلى ثلاثة مراحل: الرمزي، والكلاسيكي، والرومانسي. أن الفن في طوره الأول يكون ضعيف المضمون وينعكس ذلك على الشكل، وأما في طوره الثاني فيكون المضمون قد أكتمل في الشكل أي الفن اليوناني بحيث أن الشكل المحسوس لا يمكن أن يبلغ أكثر مما بلغ يقول هيغل: لقد بلغ الشكل الكلاسيكي ذروة ما يمكن أن يفضي إليه تصير الفن حسيًا (هيغل،٢٠١٤،ص١٠٨).
وهنا نقطة في غاية الأهمية بالنسبة لي. أن المضمون عند هيغل هو روحي وفي الطور الكلاسيكي قد بلغ الفن أوج الحس لنتأول هذه الفقرة بعض الشيء. إذا كان الفن ملزم بتوسط المادة أي أنه يتخذ من المادة منطلقه فإنه من البين أن المادة متناهية، فلو قلنا بأن العناصر أربعة هي الماء والهواء والتراب والنار وقلنا لفنان أن يبدع عملًا فنيًا خارج هذه العناصر لما استطاع، وعليه نفهم قولة هيغل بأن الفن اليوناني بلغ أوجه وخاصة عندما ندرك بأن الفن اليوناني كان يؤمثل الصورة ولا ينسخها كما هي{من هنا كان غضب أفلاطون على المحاكاة الكاذبة إلا أنه وجد في الفن الفرعوني نموذجًا يحتذى به كونه يقوم على خطوط مستقيمة ومن ثم محاكاة صادقة} لذلك هو بعبارة واضحة أي الفن اليوناني: بلغ أقصى ما تستطيعه المادة وما دون ذلك هو فن أيضًا إلا أنه يقاس بمعيار الكمال اليوناني{لا يهمني هنا تحقيق صحة القضية بقدر ما يهمني المعنى الفلسفي} وعليه لابد من منبع أخر نجد فيه ما هو جديد فالمادة كما رأينا بلغت أوجها. إن الحل الهيغلي هو حل ميتافزيقي قديم جدًا فهو يقول بطريقة ما: هناك عالم خلف العالم المغلق ومنه نعرف ونأتي بالجديد. لقد اختار هيغل طورًا ثالثاً هو كمال الفن أي الطور الرومانسي وفيه يقول : هذا العالم الجواني هو الذي يكون له ظاهر تلك الجوانية، تحتفل الجوانية بانتصارها على ما هو خارجي.(هيغل، ٢٠١٤،ص١١٠) ومن البين هنا أن هيغل كان على وعي بما يؤول إليه الفن لو أتخذ منطلقًا للحقيقة ففيه حد ينتهي إليه، وندرك بأن الفلسفة صراع منذ البدء بين التناهي واللاتناهي بين الفزيقا والميتافزيقا، بذلك رأينا كيف لجأ هيغل إلى العالم الجواني خوفًا من برانية الفن الكلاسيكي وقيد المادة، بذلك أثبتنا ما أرتأيناه من تأويل لهيغل، والأهم أنه في الفيزيقا لا وجود “للجديد المطلق” وكل الأشياء تعد نسبية أي نسبة لشيء أخر ليس إلا، وهكذا نؤصل أرضية قوية لما بعد الحداثة من حيث مفهوم النقد ومفهوم الجديد وكذلك مفهوم التطور وغيرها لو طبقنا ما خرجنا به حتى الأن لتغيرت رؤيتنا للعالم، وكذلك لما فهمنا ما بعد الحداثة بطريقة تجعلها حداثية فالفارق بينهم لابد وأن يكون واضحًا وإلا لأصبحت ما بعد الحداثة ضربًا جديدا من الحداثة التي لم تكتمل.
فاتيمو (٢٠١٤). ما بعد الحداثة. المنظمة العربية للترجمة.
هيجل ( ١٩٨٦). محاضرات في فلسفة التاريخ. دار الثقافة للنشر والتوزيع.
هيجل (٢٠١٤). دروس في الاستطيقا. منشورات الجمل.