تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
أثارت كل المقالات التي نُشرت هنا في منتدى “ذا ستون” تقريبًا عددًا من تعليقات القرّاء التي تتحدى الفكرة الأساسية القائلة بأن لدى الفلسفة قولًا مهمًّا يمكن أن تقدِّمه لغير الفلاسفة. تشتكي تلك التعليقات شكوى محدَّدة مفادها أن الفلسفة مجرد ممارسة من البرج العاجي لا ترتبط بالحياة ولا فائدة منها إلا لأولئك المهتمين بالجدالات المنطقية في ذاتها.
هناك بالفعل تصوّر مهم عن الفلسفة ينطبق عليه هذا النقد. هذا التصوّر المرتبط عادة بأوائل الفلاسفة المُحدِثين -خصوصًا رينيه ديكارت- حيث تكون الفلسفة أساسًا ضروريا للاعتقادات التي تقود حياتنا اليومية. على سبيل المثال، أتصرف في هذه الحياة على أساس أن هناك عالمًا ماديًّا وأن هناك آخرين يخبرون هذا العالم كما أخبره أنا. ولكن كيف أعرف أن أيًّا من هذا حقيقي؟ أليس من الممكن أنني أحلم بعالم يقع خارج حدود أفكاري؟ كذلك وفي أحسن الأحوال، باعتبار أنني لا أرى سوى أجساد الآخرين، فما هي الأدلة التي أملكها على احتواء تلك الأجساد على عقول؟ وللإجابة على تلك الأسئلة يبدو أني في حاجة إلى حجج فلسفية دقيقة تثبت وجودي ووجود ذوي العقول الآخرين.
وأنا بالتأكيد لا أحتاج لمثل تلك المحاججات، إلا إذا أعياني توافُر بديل عملي يثبت وجودي ووجود الآخرين. وبمجرد توقفنا عن التفكير في تلك الأفكار الفلسفية الغريبة، فإننا نعود مرة أخرى للاعتقاد فيما تشكِّك فيه الفلسفات الرَيْبِيَّة. وهذا الأمر صحيح؛ حيث إننا -كما قال ديفيد هيوم- بشر قبل أن نكون فلاسفة.
هذا إلا أن ما يرفضه ديفيد هيوم، وتقريبا كل الفلاسفة اليوم، هو ما أسمّيه التصوّر التأسيسي [التأصيلي] للفلسفة. وبالتالي، فإن رفض هذه التأصيلية يعني القبول بأن لدينا الحق في أن نتمسّك بالمعتقدات الأساسية التي لا تؤكدها التأملات الفلسفية. وفي الآونة الأخيرة، قال فيلسوفان مختلفان جدًّا هما ريتشارد رورتي وألفن بلانتينغا Alvin Plantinga قد جادلا بشكل مقنعقلوًا مقنعًا بأن تلك الاعتقادات الأساسية لا تتضمن المعتقدات “الهيومية [نسبة لهيوم]” فحسب والتي لا يمكن الاستغناء عنها، ولكنها تشمل كذلك معتقدات مهمة حول إشكالات الأخلاق والسياسة والدين. فعلى سبيل المثال، يرى رورتي أن المبادئ الأساسية للديموقراطية الليبرالية لا تتطلب أي تأسيس فلسفي (“أولوية الديموقراطية على الفلسفة”).
وإذا كنا نعتقد أن “الاستعمال” الوحيد الممكن للفلسفة هو أن تقدِّم أساسًا للمعتقدات التي لا تحتاج إلى أساس، فإن ذلك يستتبع بالضرورة صحة للاستنتاج القائل بأن الفلسفة لا تُسهِم إلا بالنذر اليسير فيما يتعلّق بالحياة اليومية. ولكن هناك طرق أخرى يمكن أن يكون للفلسفة من خلالها أهمية عمليّة.
رغم أن المعتقدات الأساسية حول الأخلاق والسياسة والدين لا تحتاج إلى تسويغ فلسفي قَبْلِي، فإنها تحتاج إلى ما يمكن تسميته بـ”الصيانة الفكرية” والتي تتضمن في ذاتها تفكيرًا فلسفيًّا. على سبيل المثال، تواجه المتدينين عادة إشكالاتٌ تتعلق بوجود الشرور المروّعة في العالم الذي يؤمنون بأنه من صنع إله لا يفعل إلا خيرًا. وبعض تلك الإشكالات نفسيّ يحتاج إلى إرشاد ديني. ولكن الالتزام الديني لا يتطلب إنكار الفكر المنطقي. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما يود كثير من المؤمنين الصادقين اختبار مدى إيمانهم بالله في ظل وجود هذا الشرّ في الأرض. وفلسفة الدين مليئة بنقاشات تعالج تلك القضية. وفي سياق مشابه، قد يلحد شخص بسبب زعمه ب أن كل الحجج على وجود الله غير صحيحة. ولكنه عندما يلاقي صياغة راقية للحجة الكونية المؤكِّدة على وجود الله مثلا أو حجة التوافق الدقيق للكون، فإنه قد يحتاج إلى فيلسوف ذكي ينظر في مدى دقة تلك الحجج.
وبالإضافة إلى الدفاع عن اعتقاداتنا الأساسية في مواجهة الاعتراضات، فإننا كثيرًا ما نحتاج أيضًا إلى إيضاح ما تعنيه معتقداتنا الرئيسة أو ما تحتاج إليه من الناحية المنطقية. وبالتالي، فحين أقول إني لن أقتل أبدًا إنسانًا بريئًا، فهل هذا يعني أني لن أعطي الأمر بقصف مقرّ الأعداء في الحرب باعتبار أن ذلك قد يؤدي إلى قتل بعض المدنيين؟ هل الالتزام بالانتخابات الديمقراطية يتطلب من الفرد أن يقبل بالانتخابات التي تأتي بحزب معادٍ للديمقراطية؟ تتطلب الإجابة على تلك الأسئلة تمييزات تصوّرية دقيقة كالتمييز بين النتائج المباشرة وغير المباشرة للأفعال، أو بين أخلاقية الأفعال الخاطئة في ذاتها وبين أخلاقية النتائج والمُترتِبات. ولا شك أن تلك التمييزات موضوعات فلسفية بالأساس، وغالبا ما يعجز غير الفلاسفة عن الدخول في نقاشات فلسفية عالية المستوى. ولكن هناك مِن غير الفلاسفة مَن يملكون قدرة فائقة تتيح لهم مجاراة تلك النقاشات ومجاراة أولئك الفلاسفة المشاركين في مناظرات تتصدى لمثل تلك الموضوعات.
ويتمثل الاعتراض الدائم على أي ركون للفلسفة في أن الفلاسفة أنفسهم يختلفون فيما بينهم في الموضوعات التي يناقشونها كلها، وبالتالي لا توجد معرفة فلسفية محدَّدة يمكن لغير الفلاسفة الاعتماد عليها. صحيح أن الفلاسفة غير متفقين على الإجابة عن “المسائل الكبرى” كوجود الله، وحرية الإرادة، وطبيعة الالتزام الأخلاقي وغيرها من القضايا الكبرى، لكنهم يتفقون على كثير من الارتباطات المنطقية والتمييزات التصوّرية المهمة للتفكير الواضح في تلك المسائل الكبرى. على سبيل المثال، يتطلب التفكير في الله وفي الشر التمييز الأساسي بين الشر غير المُسبَّب (غير ضروري لأي خير أكبر) والشر المسبَّب، ويتطلب التفكير في حرية الإرادة التمييز بين الاختيار من حيث كونه اختيارًا أم جبرًا، كما يتطلب التفكير في موضوع الأخلاق التمييز بين الفعل الخاطئ في ذاته (بغض النظر عن ما يترتب عليه) وبين الفعل الخاطئ فقط بسبب ما يترتب عليه. ومثل هذه التمييزات تنبع من التفكير الفلسفي، والفلاسفة هم مَن يعلمون الكثير عن الكيفية التي يمكن بها فهم تلك التمييزات والاستفادة منها. بهذا المعنى المهم، يمكننا أن نقول إن هناك قواعدَ محدَّدة للمعرفة الفلسفية يمكن -ومن ثم ينبغي- لغير الفلاسفة الركون إليها.
المترجم: أستاذ جامعي في الأصول الفلسفية للتربية في جامعة الملك سعود. عضو مؤسس ورئيس مجلس إدارة جمعية الفلسفة السعودية. له عدة ترجمات ومؤلفات في الفلسفة من ضمنها كتابه فلسفة الآخرية.
Philosophy – What’s the Use?
Gary Gutting
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”