تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢٤ أغسطس ٢٠١٣
لم تقتصر النقاشات حول الأجدر بتولي رئاسة الاحتياطي الفدرالي الأمريكي على ما لدى المرشحين من خبرات اقتصادية مستندة إلى نظريات علمية، بل تناولت مسائل تتعلق بشخصية المرشحين. وهذا المفترض. ونظرًا لطبيعة الاقتصادات وقدرتنا على فهم الشأن الاقتصادي، فإنَّ مهمة الرئيس القادم للاحتياطي الفيدرالي ستكون أقرب إلى الصنعة والحكمة منها إلى العلم.
عندما نطلق قمرًا صناعيًّا يدور حول كوكب المريخ، فإننا نستند إلى معرفة علمية تضمن لنا الدقة في التنبؤ بمداره. لكنَّ تحقيق مستوى مشابهًا من اليقين حول النتائج الاقتصادية أمر أصعب من ذلك بكثير.
لم تساعدنا الدراسات الاقتصادية على تحسين قدراتنا التنبؤية، وهذا يوحي بأنها لا تزال أبعد ما يكون عن العلم، وقد لا تكون علمًا أبدًا. بيد أنَّ المفاهيم المغلوطة لا تزال قائمة، فالطالب الذي يحصل على درجة في الاقتصاد يخرج من الجامعة بشهادة البكالوريوس في العلوم، لكنَّ هذا الطالب لا يمتلك معرفة راسخة بوقائع العالم الحقيقية كطالب الكيمياء أو طالب الزراعة.
كان النقاش المتعلق بكيفية جعل الاقتصاد علمًا قبل سبعينيات القرن الماضي، قد تُرك في الغالب للاقتصاديين. لكن كما أنَّ الحرب أهم من أن يُترك أمرها لقادة الجيش، فإنَّ الاقتصاد كذلك أهم من أن يُترك لأساتذة جامعة شيكاغو الحائزين على جائزة نوبل. بمرور الوقت أصبح السؤال المتعلق بسبب عدم تأهل الدراسات الاقتصادية حتى الآن لتكون علمًا هاجس كثير من المنظرين، حتى أمثالنا من فلاسفة العلم.
من السهل فهم سبب الخلط بين الاقتصاد والعلم. يستخدم الاقتصاد التعبير الكمي الرياضي، ويصوغ نظرياته صياغات مقتضبة على شكل مسلمات واستنتاجات رياضية حتى يبدو لك الاقتصاد مشابهًا للنماذج العلمية التي نعرفها في الفيزياء. إنَّ مقاربته للنتائج الاقتصادية المستخلصة من عدد كبير من الخيارات والحالات الفردية “الذرات” تذكرنا بالطريقة التي تشرح بها نظرية الذرة التفاعلات الكيميائية. يستخدم الاقتصاد المعادلات التفاضلية الجزئية كتلك الموجودة في حساب بلاك-شول لأسواق المشتقات، وهي معادلات تشبه إلى حد بعيد المعادلات المألوفة في الفيزياء. تكمن مشكلة الاقتصاد في أنه يفتقر إلى أهم خصائص العلم، ألا وهو تحسن نطاق التنبؤ وتحسن دقته.
وهذا ما يجعل الاقتصاد من الموضوعات التي تلقى اهتمامًا خاصًّا لدى فلاسفة العلم، فليس أي من نماذجنا العلمية يناسب الاقتصاد.
والمفارقة أنَّ الاقتصاديين منذ وقت طويل قد أعلنوا ولاءً شبه رسمي لمطلب قابلية التكذيب عند كارل بوبر باعتباره الاختبار الحقيقي للعلم، وتبنوا أطروحة ميلتون فريدمان القائلة بأنَّ الشيء الوحيد المهم في العلم هو القدرة على التنبؤ. كان السيد فريدمان يرد على النقد الذي وجهه الاقتصاديون الماركسيون والاقتصاديون التاريخيون بأنَّ الاقتصاد الرياضي عديم الفائدة؛ لأنه قدم كثيرًا من الافتراضات المثالية حول العمليات الاقتصادية، مثل: العقلانية الكاملة، والتجزئة اللانهائية للسلع، والعوائد الثابتة الحجم، والمعلومات الكاملة، وعدم تحديد الأسعار.
جادل السيد فريدمان بأنَّ الافتراضات الكاذبة في الاقتصاد لا تعني الشيء الكثير، تمامًا كما هو الحال في الفيزياء. لا يخلو الاقتصاد من معالجات مثالية شبيهة بـ “الغاز المثالي” و “المستوى عديم الاحتكاك” و”مركز الجاذبية” المعروفة في الفيزياء، وهي معالجات ضرورية لكنها لا تضر. إنها أدوات حسابية لا غنى عنها تُمكِّن الاقتصادي من التنبؤ بأحوال الأسواق والصناعات والاقتصادات بالطريقة نفسها التي يتمكن بها الفيزيائي من حساب الكسوف والمد والجزر والحيلولة دون انهيار الجسور وانقطاع التيار الكهربائي.
بيد أنَّ الاقتصاد لم يتمكن من تحقيق تحسن في نجاح تنبؤاته، كما حققت الفيزياء حين استخدمت مثل هذه المعالجات المثالية غير الضارة. في الواقع، إذا تعلق الأمر بسجل إنجازات النظرية الاقتصادية، فلا يمكننا الحديث البتة عن نجاحات تنبؤية كثيرة.
بل لا ينزعج كثير من الاقتصاديين من خطأ تنبؤاتهم. قرّاء بول كروغمان وأمثاله من المعلقين على دراية بشكواهم المتكررة من رفض الاقتصاديين مراجعة نظرياتهم في مواجهة الحقائق المتمردة. والسؤال نفسه يحير فلاسفة العلم: لكن ما بال الاقتصاد لا يهمه نجاح تنبؤاته ولا يعمد إلى تعديل نظرياته لتناسب الطريقة التي يعمل بها العلم إذا تبين أنَّ تنبؤاته خاطئة؟
يضم المجال الاقتصادي -بخلاف العالم المادي- مجموعة واسعة من “البناءات” الاجتماعية. وهذه البناءات مؤسسات كالأسواق وأشياء كالعملات والأسهم، وهي التي لا تنضبط، وإن عولجت معالجة مثالية. إنها مكونة من أعراف غير متفق عليها، بل مصطنعة. أعراف ما فتئ الناس يغيرونها، بل ويدمرونها بطرق لا يمكن لأي عالم اجتماع أن يتوقعها. يمكننا استغلال الجاذبية لكن لا يمكننا تغييرها أو تدميرها. أما خياراتنا الاقتصادية التي يتعامل معها الاقتصاد فأسبابها وتأثيراتها المقيّدة بالسياق الاجتماعي لا ينطبق عليها الأمر نفسه.
ثمة عامل آخر لم يكن الاقتصاد قادرًا على ترويضه، وهو العلم نفسه، ففي العلم محركاتُ النمو الاقتصادي وكذا “التدمير الخلاق” للرأسمالية. لكن لا أحد يستطيع أن يتنبأ باتجاه الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها التكنولوجية. وهذه من أهم أفكار بوبر. لقد علمنا الفلاسفة ومؤرخو العلوم من أمثال توماس كون أنَّ تحولات النماذج العلمية تأتي من حيث لا نعلم. مع تزايد معدل تسارع الابتكارات العلمية تتضاءل احتمالات ظهور نظرية اقتصادية قادرة على ترويض قوى الاقتصاد، ويتضاءل معها أيضًا كل أمل في تحسن التنبؤ.
لكن ما فائدة الاقتصاد إن لم تكن القدرة التنبؤية إحدى أدواته؟
لقد ساعدنا فلاسفة الاجتماع والسياسة على الإجابة عن هذا السؤال، ومن ثم فَهْمُ الاقتصاد. لقد اهتم الفلاسفة منذ توماس هوبز بتصميم المؤسسات التي تحمينا من أنفسنا وإدارتها، فهي تحمينا مما فينا من الاحتيال والانتهازية وتحقيق الفائدة على حساب الآخرين، وتجنب كلفة الحياة المدنية عمومًا مع الإصرار على تحصيل فوائدها. أدرك هوبز وهيوم لاحقًا، وكذا فلاسفة معاصرين من أمثال جون رولز وروبرت نوزيك، أنَّ النهج الاقتصادي يسهم إلى حد بعيد في تصميم هذه المؤسسات وإدارتها إدارة إبداعية. ما زال من الممكن للنظرية الاقتصادية أن تسهم في القطاعين الخاص والعام بإصلاح ما في المؤسسات الاقتصادية والسياسية من سوء المؤسسات التي تتركز فيها السلطة وتكثر فيها المؤامرات والاحتكارات، كما يمكنها تحسين المؤسسات الجيدة، من خلال عمليات السوق المفتوحة للاحتياطي الفيدرالي على سبيل المثال، ويمكنها أيضًا تصميم مؤسسات جديدة مثل مزادات النطاق الترددي الكهرومغناطيسي.
هنا نعود إلى الاحتياطي الفيدرالي. لعلَّ رئيس البنك المركزي الكفء هو الشخص الذي يعي أنَّ الاقتصاد ليس علمًا بعدُ، وقد لا يكون علمًا أبدًا. الاقتصاد في هذه اللحظة صنعة يستعان بها في بناء المؤسسات وإدارتها، وهي صنعة تدار بالحكمة لا بالخوارزميات. ما جعل بن بيرنانكي الرئيس الحالي للبنك المركزي ناجحًا هو استعداده لاستخدام طرق تتطلب حسًّا اقتصاديًّا، مثل: “التيسير الكمي”، وشراء السندات لخفض أسعار الفائدة طويلة الأجل، وهو حس لا تمليه عليه نظريات الاقتصاد الكلي وتوقعاتها العقلانية المجردة.
لعل النظرية الاقتصادية تُفهم في المستقبل المنظور على غرار نظرية الموسيقى، وليس وفقًا لنموذج نظرية نيوتن. على رئيس الاحتياطي الفيدرالي أن يكون مثل قائد الفرقة الموسيقية فيتحلى بأذن ثاقبة تضبط تعقيدات الأنغام (على الأرجح قدرة كينزية على ضبط الاقتصاد). الاقتصاديون مثل الموسيقيين. خبرتهم ليست إلا صنعة. عليهم ألا يغتروا فيظنوا أنَّ نظريتهم مناسبة تمامًا للمهمة، وعليهم توخي الحكمة حين يستخدمون نظريتهم؛ كي ينتجوا لنا نغمات منسجمة من ضجيج النغمات المتنافرة.
الكاتبان: أليكس روزنبرغ أستاذ كرسي تايلو كول للفلسفة ورئيس قسم الفلسفة بجامعة دوك في الولايات المتحدة، ومؤلف كتاب: “الاقتصاد: سياسة الرياضيات أم علم تناقص العوائد؟”
تايلور كيرتن فيلسوف علم وأستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن المشارك بجامعة نورث كارولينا بمدينة تشابل هيل. حصل مؤخرًا على كرسي روبرت فروست المتميز للأدب في مدرسة بريد لوف للغة الإنجليزية في كلية ميدلبري، فيرمونت.
المترجم: أستاذ اللغويات المساعد بجامعة أم القرى، عضو مؤسس جمعية الفلسفة.
?What Is Economics Good for
Alex Rosenberg and Tyler Curtain
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”