تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
يصفُ العديد من الفلاسفة المعاصرين أنفسهم بأنهم طبيعانيون. ويقصدون بذلك أنهم يؤمنون بأنه لا وجود إلا للعالَم الطبيعي، وأن المنهج العلمي هو أفضل طريقة لاكتشافه. يصفُني بعضهم، أحيانًا، بأنني طبيعاني، لكنني أقاومُ هذا الوصف، لماذا؟ ليس بسببِ أي وازعٍ ديني، فأنا ملحد من النوع الصريح، لكن قبول شعار الطبيعانية دون التدقيق فيما وراء مظهرها المبهر ليس بطريقة علمية لتشكيل معتقدات المرء حول العالم؛ حتى الطبيعانيون أنفسهم لا يوصون بذلك.
لنبدأ بالتساؤل عن ماهيَّة العالَم الطبيعي، إن أجبنا بأنه عالم المادة، أو عالم الذرات، فإننا بذلك نتخلف عن الفيزياء الحديثة التي تصفُ العالم بمصطلحات أكثر تجريدًا بكثير. ولأنه يُحتمَل، على أي حال، أن تحل التطورات العلمية المستقبلية محل أفضل النظريات العلمية الحالية، فقد نُعرّف العالَم الطبيعي على أنه كل ما يمكن أن يُكتشَف في النهاية من خلال المنهج العلمي. تصبح الطبيعانية، بالتالي، هي الاعتقاد بأنه لا وجودَ سوى ما يمكن أن يكتشفه المنهج العلمي في نهاية المطاف، (ليس مُستغربًا) ولا على سبيل الإطناب، تأكيد أن أفضل طريقة لاكتشاف العالم الطبيعي هي المنهج العلمي نفسه! لماذا يستحيل وجود أشياء لا يمكن أو يستحيل أن تتكشف إطلاقًا إلا من خلال منهجٍ غير علمي؟
إن الطبيعانية، رغم ذلك، ليست مذهبًا مُقيدًا كما يبدو؛ فعلى سبيل المثال، يؤيد بعض أشد مناصريها قبول افتراض وجود روح أو إله، إذا تبيّن أن ذلك جزء من أفضل تفسير لتجربتنا، لأنه حينئذٍ سيكون تطبيقًا للمنهج العلمي. لا تتعارض الطبيعانية من حيث المبدأ مع جميع صور وتمظهرات الدين، لكن يشك معظم الطبيعانيين، من الناحية العملية، أن الإيمان بالأرواح أو الآلهة يمكن أن يقاوم التدقيق العلمي.
ما المقصود بالمنهج العلمي؟ ولماذا نفترض أن للعلم منهجًا وحيدًا؟ صحيحٌ أن العلوم الطبيعية كالفيزياء والبيولوجيا تختلف عن بعضها البعض بطرقٍ محددة بالنسبة للطبيعانيين، إلا أنه على مستوى مجرد – بما فيه الكفاية – يمكن اعتبار أن هذه العلوم جميعًا تستخدمُ منهجًا عامًا واحدًا. ينطوي المنهج على صياغة الفرضيات النظرية، ثم اختبار تنبؤاتها مقابل المراقبة المنهجية والتجربة الخاضعة للسيطرة. وهذا ما يُسمى بمنهج الفرض الاستنباطي.
أحد التحديات التي تواجه الطبيعانية هو إيجاد موضع للرياضيات في منهجها. إذ تعتمد العلوم الطبيعية على الرياضيات، لكن، هل علينا أن نعتبرها علمًا في حد ذاتها؟ إن أجبنا بنعم فسيغدو تعريفنا للمنهج العلمي الذي قدمناه للتو خاطئًا لأنه لا يتناسب مع علم الرياضيات الذي يُبرِهن على نتائجه من خلال التفكير البحت بدلاً من منهج الفرض الاستنباطي. ادّعى بعض الطبيعانيين، منهم الفيلسوف الأمريكي ويلارد فان أورمان كواين، رغم ذلك، أن البرهان الحقيقي الذي يؤيد حقائق الرياضيات يُستمد من تطبيقاتها في العلوم الطبيعية، وبالتالي يُستمد بشكلٍ غير مباشر من الملاحظة والتجربة. إلا أن وجهة النظر هذه لا تتناسب مع الطريقة التي تتطور بها موضوعات الرياضيات في الواقع؛ إذ عندما يُقيّم علماء الرياضيات مُسلَّمة جديدة مُقترَحة، فإنهم ينظرون إلى نتائجها في حدود مجال الرياضيات وحسب، وليس في خارجها. إذا لم نَعد الرياضيات البحتة علمًا، من ناحية أخرى، فإننا بذلك نستبعد البرهان الرياضي بحد ذاته من المنهج العلمي، وبالتالي نشوِّه الطبيعانية نفسها. إذ كيف للطبيعانية وهي التي تخصُّ وتميز المنهج العلمي وتضعه في مرتبة فوق غيره من المناهج أن تتنازل عن واحدٍ من أكثر قصص النجاح إذهالاً في تاريخ المعرفة البشرية، وهو علم الرياضيات.
ما هي التخصصات الأخرى التي تُعدُّ علمًا؟ هل المنطق علم؟ ماذا عن اللغويات والتاريخ والنظرية الأدبية؟ كيف لنا أن نحدد ذلك؟ هذه هي معضلة الطبيعانيين؛ فإن كانوا شموليين للغاية فيما يعتبرونه علمًا، فستفقد الطبيعانية ميزتها. ينتقد الطبيعانيون عادةً بعض الأشكال التقليدية للفلسفة باعتبارها غير علمية بما يكفي لتجاهلها الاختبارات التجريبية. فكيف يمكنهم الحفاظ على هذه الاعتراضات ما لم يحصروا المنهج العلمي في الفرض الاستنباطي؟ ولكن إذا كانوا حصريين للغاية فيما يعتبرونه علمًا، فستفقد الطبيعانية مصداقيتها بفرضها منهجًا يلائم العلوم الطبيعية في جوانب غير ملائمة. يتذبذب العديد من الطبيعانيين، لسوء الحظ، بدلاً من توضيح المسألة. إذ يفترضون، في حالة الهجوم، فِهمًا حصريًا للعلم باعتباره فرضًا استنباطيًا. ويتراجعون، عندما يتعرضون للهجوم، إلى فهم شموليٍّ أكثر للعلم ما يخفف بشكلٍ كبير من تركيز النزعة الطبيعانية. هذه المناورات تجعل من الطبيعانية اعتقادًا راسخًا غامضًا؛ إذ لا أصف نفسي بالطبيعاني لأنني لا أريد أن أتورط في عقيدة ملتبسة. إن صرف النظر عن فكرة ما باعتبارها “غير متوافقة مع الطبيعانية” أفضل قليلاً من رفضها باعتبارها “غير متوافقة مع المسيحية”.
ما زلت أتعاطف مع دافع واحد وراء الطبيعانية وهو التطلع إلى التفكير بروح علمية. إنها عبارة غامضة، ولكن قد يبدأ المرء في شرحها من خلال التأكيد على قيم كالفضول والصدق والدقة والضبط والصرامة. ما يهم ليس التشدق بهذه الخصال، فما أسهل ذلك، لكن الأهم والأصعب هو تجسيدها عمليًا على أرض الواقع. لسنا في حاجة إلى التظاهر بأن للعلماء دوافع نقية؛ فهم بشر، والعلم لا يعتمد على اللامبالاة بالشهرة أو التقدم المهني أو المال أو المقارنة مع المنافسين. بل يُفضَّل التركيز على السعي وراء الحقيقة في البيئات الاجتماعية والمجتمعات الفكرية، مما يقلل من الصراع بين تلك الدوافع الأساسية والروح العلمية من خلال مكافأة العمل الذي يجسد تلك الفضائل العلمية. لأن هذه التقاليد موجودة حتى خارج أوساط العلوم الطبيعية.
الروح العلمية وثيقة الصلة بالرياضيات والتاريخ والفلسفة وموضوعات أخرى، تمامًا كصلتها بالعلوم الطبيعية. تتطلب الروح العلمية إجراء التجارب عندما يكون ذلك هو الطريقة الأرجح للإجابة عن مسألةٍ ما بشكلٍ صحيح؛ وعندما تكون المناهج الأخرى -كالبرهان الرياضي، والبحوث الأرشيفية، والتفكير الفلسفي- أكثر صلة بالمسألة ستدعونا الروح العلمية لتوظيفها بدلاً من التجربة. صحيحٌ أنه يمكن تطبيق مناهج العلوم الطبيعية تطبيقًا مفيدًا على نطاقٍ أوسع مما كانت عليه حتى الآن، إلا أن الافتراض التلقائي يجب أن يكون: أن الممارسين في تخصصٍ مستقر يدركون ما يفعلونه، ويستخدمون المناهج المتاحة الأكثر ملاءمة للإجابة على أسئلة هذا التخصص. قد تنجم بعض الاستثناءات بسبب طريقةٍ أو تقليدٍ متحفظ أو لا يُقدِّر الروح العلمية؛ إلا إن الانزعاج من جميع المناهج عدا مناهج العلوم الطبيعية أساسًا ضعيفًا للاستناد عليه في تحديد تلك الاستثناءات.
تحاول الطبيعانية اختزال الروح العلمية في نظريةٍ فلسفيةٍ واحدة. لكن لا يمكن لأي نظرية أن تحل محل تلك الروح؛ فأي نظرية يمكن استخدامها بطريقة غير علمية كأداة جدلية لتعزيز التحيز. الطبيعانية كمذهب ما هي إلا عدو آخر للروح العلمية.
الكاتب: تيموثي ويليامسون هو أستاذ ويكهام في المنطق في جامعة أكسفورد، وزميل في الأكاديمية البريطانية، وعضو فخري أجنبي في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم. كان أستاذًا زائرًا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا واجمعة برنستون. تتضمن كتبه “الغموض” (1994)، و”المعرفة وحدودها” (2000)، و”فلسفة الفلسفة” (2007).
المترجم: كاتب ومترجم في فلسفة التقنية وتاريخها.
?What Is Naturalism
Timothy Williamson
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”