” إن الجبابرة يتخاطبون عبر مسافات التاريخ المقفرة ويستمر حوارهم الرفيع بين الأفكار دون أن يعكّر صفوه الأقزام المستهترون والصاخبون الذين ما يزالون يزحفون تحتهم” نيتشه
” إن الإله الذي يكشف عن خطابه في ديلفري لا يتكلم ولا يخبئ إنه يدلّ” هيراقليطس
قبل البدء في هذا الفيلسوف عليّ أن أضع بعض التوضيحات حول منهجية تأويل هيراقليطس وغيره مما تم ذكره سلفاً في هذه السلسلة، وسوف أنطلق من رأي لا يخلو من وجاهة ذكره الطيب بوعزة في كتابه “هيراقيطس فيلسوف اللوغوس” حيث يزعم أنه منذ فيثاغورس قد تحول السؤال من: ما أصل الوجود؟ إلى ما القانون الناظم للوجود؟ ولنكن على بيّنة من البداية أنني لست بصدد نقد رأيه بقدر ما أريد بيان كيفية الوصول لرأيٍ ننسبه لهذا أو ذاك .
لنفرق بين طريقين لقراءة فلسفة ما أو فيلسوف ما الأول أن نُثبت ما قاله نصًا من خلال ما كتبه أو من خلال روايات عنه، والثانية أن نستنبط من أقواله مفاهيم نزعم أنها تمثل فلسفته. من المعلوم أن فلاسفة ما قبل أفلاطون لم يصل لنا عنهم إلا شذرات متفرقة وروايات سجّلها بعض المؤرخين أو الفلاسفة كديوجين اللاترئي وبلوتارك وقبلهم أفلاطون وأرسطو وكذلك كليمنت الاسكندري والشهرستاني الخ وعليه يكون الاستنباط ضعيفًا أو مشكوك فيه، وهذا ما جعل قراءة هؤلاء الفلاسفة متعددة. خذ مثلًا مصطلح الأبيرون وترجمته. وكمقدمة أولية أقول ليس لنا في حالة هؤلاء الفلاسفة تحديدًا إلا الاستنباط . لا أريد تقويض مفهوم الاستنباط من خلال مباحث فلسفة اللغة واللسانيات والبنيوية وموت المؤلف وتفكيكية دريدا فذلك يقودنا لا محالة لامتناع الاستنباط حتى لو توفرت لدينا نصوصهم كاملة، وعليه فالسؤال يكون: هل ثمة معيار من خلاله نطمئن نسبيًا لأي زعم ننسبه لهؤلاء الفلاسفة؟ إنه لا استنباط من غير استقراء هذا أولًا وعليه حين نزمع لاستنباط قولًا ننسبه لهؤلاء فهناك خطوتين رئيسة وأخرى فرعية (هذا التفريق لا يفاضل بين الرئيسي والفرعي) وهي كالتالي:
السياق التاريخي بكل مكوناته حضارية وثقافية وطبقية الخ
ومن ثم يكون الاستنباط أكثر دقة إلا أنه من المهم التنبيه على أنه لا نسلّم لأي علم بأنه يملك معيارًا مطلقًا فكل المعايير نسبية وفقًا لطبيعتها ذاتها، وعليه هذا المنهج الذي أتبعته مع كل الفلاسفة وكذلك مع هيراقليطس هنا. ولو شئنا وضع تفرقة اجرائية بين مستويين للدلالة لقلنا:
حيث أن الدلالة القصدية هي ما نزعم أنه قصد المتحدث شفهيًا أو مكتوبًا، أما الدلالة الفرعية فهي حاصل قوله أو ما يفضي إليه عن طريق اللزوم، ولا يخفى أنه لا فصل مطلق بين الاثنين. وأختم هذا التمهيد بنقد للفرضية التي دافع عنها الطيب بوعزة وهي: الفرق بين مبدأ الوجود (أرخي) وناظم الوجود حيث أنه لا تمايز بين مبدأ الشيء ونظامه وهذا هو المعنى الفلسفي لمفردة مبدأ. ونجد أرسطو في مقالة الدلتا يقول ” والعنصر والفكر والإرادة الحرة والماهية هي كلها بدايات أو مبادئ وينبغي أن نضيف أخيرًا العلة الغائية وذلك لأن بداية المعرفة والحركة في كثير من الحالات هي الخير والجمال”. ونذكر على سبيل الزيادة ما عنونه بعض الكتاب عنوانًا لمؤلفاته قاصدين هذا المعنى لمفردة مبدأ وأعني مثلًا كتاب أوريجانوس المبادئ وكتاب نيوتن المبادئ principles وفيه يذكر قوانين الوجود الفيزيائية من خلال الرياضيات الخ فالاسطقس إن كان ماءً فهو مبدأ ومن المبدأ يُستنبط قانون الوجود ولا أدله قول انكسمنس بالتكاثف والتخلخل. كماأنني أُريد أن أختم هذا التمهيد بشذرة لأنكسمندر تكشف العلاقة المنطقية بين المبدأ وقانون الوجود ” اللانهائي هو المادة الأولى للأشياء الكائنة وأيضًا فإن الأصل الذي تستمد من الموجودات وجودها هو الذي تعود إليه عند فنائها، طبقًا للضرورة” ومن ثم ننتهي إلى أن مبادئ الحكمة تُستنبط من الأنساق حتى إن لم يصرح بها بطريقةٍ مباشرة، وإن لم توجد هذه المبادئ ينبغي منزاوية بيداغوجية أن تستشف من بين السطور على أن نكون حذرين من التعامل معها كما لو أنها قولٌ ناجز لا يعتريه التغير والتبدل.
لعب مفهوم اللوغوس دورًا مركزيًا في تاريخ الفكر البشري، فمنذ طُرح لأول مرة مع هوميروس وهيراقليطس على نحو فلسفي أخد يتجوّل بين الأنساق الكبرى، وفي نظري أن هذا التمسك القوي باللوغوس يعود إلى العهد الجديد الذي تصور ابن الله بوصفه الكلمة ومن ثم اللوغوس كما في انجيل يوحنا، لذلك لا غرابة في وقوف هايدغر منذ نص ١٩٢٧ وكذلك مدخل للميتافزيقا عند هذا المصطلح، وكذلك فعل تلميذه غادامير في الحقيقة والمنهج، كما أن اللوغوس صار الطريق المثالي لنقد مركزية العقل والرؤية الثيولوجية/الدينية للعالم وعليه تعرّض اللوغوس لنقد جذري مع فلاسفة ما بعد الحداثة وخاصةً عند دريدا ومشروعه الغراماتولوجي ومن ثم نسأل ما اللوغوس؟ فهذا السؤال يقودنا إلى: فهم فلسفة هيراقليطس بعيدًا عن اللاهوت الإبراهيمي
ذكر هيراقليطس اللوغوس في أكثر من شذرة، وكان يأتي في سياقات مختلفة تارةً بوصفه الصوت الذي يسمع “بالاصغاء لا إلى نفسي بل إلى اللوغوس من الحكمة الاعتراف بأن الكل هو واحد” مع ذلك ليس الكل يسمع هذا الصوت ” أما بالنسبة لهذا اللوغوس الموجود أبدا فإن الرجال عاجزون أبدا عن فهمه” وفي شذرة أخرى ” هؤلاء الذين لا يعرفون لا أن ينصتوا ولا أن يتكلموا ” وأيضًا ” أنهم يسمعون دون أن يفهموا وهم أشبه بالصم ينطبق عليهم مثل أنهم غائبون وهم حاضرون” ويبدو لي أن اللوغوس كصوت جعل من دلالة الكلمة عليه هي الأقرب، المهم أننا نعلم الآن من هيراقليطس أنه صوت وأن ليس للكل قدرةٌ على سماعه، واللوغوس أيضًا هو القانون الذي يحكم الطبيعة ككل “يجب أن نتبع أيضًا ما هو عام اللوغوس عام ومع ذلك فإن التعددية تعيش كما لو كان لكل واحد ذكاؤه الخاص” والحكمة أو الفلسفة عنده تكمن في الاصغاء لهذا اللوغوس وهذا يعني أن أقرب مفهوم لهذه المفردة كما وردت عند هيراقليطس أنه قانون “بالاصغاء لا إلى نفسي بل إلى اللوغوس من الحكمة الاعتراف بأن الكل هو واحد” وأيضًا ” تقوم الحكمة على شيء واحد التمرس بالفكر الذي يحكم الكل بواسطة الكل ” وعليه نجد هيراقليطس يدعوا الآخرين للاصغاء لهذا الصوت أي هذا القانون الذي يحكم الكل “إن هذا اللوغوس الذي يحتكون به باستمرار الذي يحكم كل الأشياءينفصلون عنه وتبدو لهم الأشياء التي يلاقونها كل يوم كأشياء غريبة” وعليه من يتحدّ مع هذا القانون يكون قد عرف طبيعة الوجود ” لكي نتكلم بذكاء يجب أن نستمد قوتنا مما هو مشترك بين الجميع كما تستمد المدينة قوتها من القانون وأكثر ذلك أن كل القوانين البشرية يغذيها القانون الإلهي الوحيد الذي يسيطر على كل شيء على هواه يكفي كل شيء ويفوق كل شيء” نبدو هذه الشذرة واضحة في ترسيخ مفهومين في غاية الأهمية في فلسفة هيراقليطس أن اللوغوس مشترك بين الجميع، وأنه يعني القانون الناظم للطبيعة، إذن ماذا يعني اللوغوس؟ إنني أقرّ مبدئيًا بما ذهب إليه الطيب بوعزة في كتابه (هيراقليط فيلسوف اللوغوس) بأن لهذا اللفظ عدة معاني العقل والقانون والكلمة الخ إلا أنني اختلف معه في تعيين هذا المفهوم عند هيراقليطس فهناك فرق بين أن تحدد هذاالمفهوم وتزعم أنه قصد الفيلسوف ذاته وبين تعيين مآلات المصطلح. على كل اللوغوس عند هيراقليطس هو القانون الكلّي الذي يحكم العالم ومن ثم يكون السؤال: ما طبيعة هذا القانون؟ جواب هيراقليطس هو “وحدة الأضداد” أو الصيرورة فالطبيعة عنده ذات قانون وهذا القانون هو ما يجعل الأضداد في انسجام، ومن هنا اتفق مع هايدغر في أن اللوغوس يعني الجمع والربط والوحدة اي بين الأضداد، إن فلسفة هيراقليطس تجمع بين الوحدة (القانون) وبين التعدد (صراع الأضداد) على عكس بارميندس الذي نفى التعدد على حساب الوحدة، ومن ثم نفهم أن طبيعة القانون أنه صراع وانسجام داخل هذا الصراع “إن كل ما هو نقيض يتجمع ومن المختلف يولد أجمل انسجام كل شيء يتحول بالتنافر” هكذا نظفر حتى الآن بمقولات أساسية في هذه الرؤية وهي اللوغوس/القانون والصيرورة وحدة الأضداد بقي أن نفهم دلالة النار في هذا النسق؟ قد تفهم النار بطريقتين مجازًا أو بالمعنى الحرفي، اختلف جذريًا مع التأويل الأرسطي أي بوصفها اسطقس أو مبدأ(أرخي) مادي للعالم (مع ذلك لهذه القراءة خصوبة تاريخية) النار تشير كما يظهر من خلال شذراته بوصفها التشبيه الأقرب لقانون العالم أي اللوغوس فهي تلتهم كل شيء وتتولد من جديد “إن الله هو نهار وليل، شتاء وصيف، حرب وسلام، شبع وجوع، ولكنه يتغيّر كالنار” وهكذا نفهم فلسفة هيراقليطس بوصفها جوابًا عن ما أصل العالم حيث كان اللوغوس هو أصل هذا العالم، وأنه قانون يجمع وينسج بين الأضداد، وأن النار هي الدلالة الرمزيةعلى هذا القانون الحاكم للوجود.
نيتشه(١٩٨٣). الفلسفة في العصر المأساوي الأغريقي. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع