يزيد بدر
كنا قد تحدثنا عن المدرسة الأيونية وتحديدًا طاليس وانكسمنس وانكسمندريس، وظهر لنا السؤال الفلسفي واضحًا جليًا ” ما أصل العالم؟” وقد تبين بشيء من الفطنة أن سؤالًا مثل هذا لا يحتاج إلى كثير تأمل وأعني من حيث صياغة السؤال وليس الاجابة، فمن منا لم يسأل نفسه يومًا: من أين جاء هذا العالم بما فيه؟ أيًا كانت صياغة السؤال فسوف تجد نفسك لو استرسلت قليلًا مجيبًا عن سؤال أصل العالم ومنثم تُدرك أن الجواب حينها هو مبدأ كل شيء، ولا تلتفت كثيرًا لتعدد التأويلات فهي مرحلة متقدمة في مسيرة التفلسف. على كلًا تتناول هذه المقالة بشيء من الايجاز فيلسوفًا سيكون له أثر قوي على الفلسفة والفكر البشري بعامة (إن ثنائية تأثير وتأثر لا يقر بها كاتب هذه السطور إلا أن المقام لا يسمح للجدل) وأعني فيثاغورس Pythagoras فكيف رأى هذا الفيلسوف وأتباعه سؤال أصل العالم ؟ سوف نقسم المقالة إلى قسمين وغاية الأمر اعانة القراء على دَرك مباحث الفلسفة وتقسيماتها وهي كالتالي:
١- فيما يخص الميتافيزيقا، أي مبحث الوجود، وهو ما يحيلنا إلى سؤال أصل العالم أي مبادئ الحكمة فنحن نجد عند العودة للتاريخ نصيّن في غاية الأهمية حول تعاليم فيثاغورس الأول ما ورد عند أرسطو في كتاب الميتافيزيقا والثاني نجده عند ديوجينس اللائرتي في كتاب حياة مشاهير الفلاسفة، يذكر أرسطو أن فيثاغورس أختلف عن بقية الفلاسفة “الطبيعيين” في كونه لم يردّ أصل العالم إلى مبدأ حسي بل جعل أصل العالم في العدد أي الأرقام الرياضية ” لقد استخدم الفيثاغوريون مبادئ وعناصر غريبة عن الفلاسفة الطبيعيين والسبب أنهم استمدوا المبادئ من أشياء “غير حسية” نلاحظ أن النص لا يكشف فقط المبدأ الذي اختاره فيثاغورس أصلًا للعالم بل علة (سبب) هذا الاختيار الذي فيه شيءٌ من التجريد(نسبةً للفلاسفة الأيونين حسب رؤية أرسطو أنهم تجاوزا المبادئ الحسية كالعناصر الأربعة الماء الهواء النار التراب) وأنه جاء من كونهم اشتغلوا بالرياضيات والتي شملت كل نسقهم الفلسفي الذي وصل إلينا، حتى انهم قالوا بأن أفضل الأعداد ١٠ والكواكب ٩ وعليه اضافوا أرضًا مقابلة لأرضنا حتى يكتمل العدد. فلو عدنا قليلًا للسؤال المحوري الذي يحرك هذه المقالات : ما هو مبدأ هذا العالم؟ الجواب الفيثاغوري أن العالم هو عددٌ ونغم، وسوف نبين ماذا يعني النغم فيما بعد.
وهذا القول الذي يردُّ العالم إلى مبدأ رياضي سيكون له سيادة على الفكر البشري بعامة، وقد تأثر أفلاطون، كما هو معروف، بهذه الفكرة ” لكنه وافق الفيثاغوريين في قولهم أن الواحد هو جوهر وليس محمولًا لشيء آخر” هكذا ينقل أرسطو عن أستاذه أفلاطون في كتاب الميتافيزيقا، إلا أن أرسطو يذكر فرقًا مهمًا بين الرؤية الفيثاغورية والأفلاطونية ” ولهذا فقد رأى أن الأعداد توجد بمعزل عن الأشياء الحسية على حين أنهم قالوا إن الأشياء نفسها أعداد” هذه التفرقة تعني أن فيثاغورس قال بأن الأشياء كما هي أعداد أي الأشياء الحسية التي نلتقي بها في هذا العالم، بينما أفلاطون فصل الأعداد عن الأشياء الحسية ومن ثم كان أكثر تجريدًا(من البين أن أرسطو هنا يطوّع التاريخ بحسب رؤيته الفلسفية فقد نسب هذا القول أي أن الأعداد هي ذاتها أشياء الحس حتى ينتقدهم فيما بعد بوصفهم لم يتجاوزًا حدود بحث من سبقهم بمعنى أنه يريد القول كل هؤلاء الفلاسفة الأيونيين وفيثاغورس لم يتجاوزا قط العلة المادية) إذن فيما يخص المبحث الميتافزيقي قالوا بأن أصل العالم عدد، ومن جهة أخرى هذه الأعداد في تناغم وانسجام فهي كالسلّم الموسيقي جميلة وصوتها عذب في تناغمها، ومن هنا طبقوا هذه الرؤية على كل شيء كالفلك والنفس والأخلاق الخ ” وما داموا قد وجدوا من ناحية أخرى أن خصائص ونسب السلم الموسيقي يمكن التعبير عنها بالأعداد فقد بدت لهم جميع الأشياء الأخرى عندئذ وقد صيغت طبيعتها كلها على غرار الأعداد” ونجد في دليل اكسفورد ” عرف الفيثاغوريون أنه يمكن التعبير عن الفواصل الموسيقية المتوافقة (أوكتاف، الرابعة، الخامسة) بنسب حسابية ربما جعلهم هذا يعتقدون أن الكون بأسره قابل لأن يفسر ويفهم رياضيًا، وهذه فكرة ثبت أنها مفيدة على نحو لافت” من المهم هنا أن نتوقف عند العبارة الأخيرة “مفيدة على نحو لافت” ارتبط تاريخ الفلسفة بعامة بعلاقته القوية مع الرياضيات، وتصوير الأمر وكأنه حديث عهد خاطئ تمامًا، بل نجد أرسطو مجددًا في الميتافيزيقا يتندر على هذا الأمر ” غير أن الرياضيات قد أصبحت هي الفلسفة كلها عند فلاسفة العصر الحاضر رغم أنهم يقولون أنه ينبغي دراستها من أجل الأشياء الأخرى” فليس من الدقة القول بأنها دخلت منذ بدأ غاليلو تجاربه أو نيوتن في المبادئ أو كبلر، وعلى الصعيد الفلسفي ننسب لديكارت فضل النهج الرياضي في التفلسف وهذا كلامٌ خالي من الدقة المنهجية فضلًا عن الدقة الفلسفية.
يبقى أن ننظر في رواية أخرى غير رواية أرسطو فماذا نقل لنا ديوجينيس حول أصل العالم عند فيثاغورس؟ ” المبدأ الذي ينادي بأن الموناد الواحد هو أساس جميع الموجودات وينشأ عن هذا الموناد ثنائي غير محدد من شأنه أن يكون مادة تشكل أساسا لهذا الموناد وتكون سببًا له ومن الموناد ومن الثنائي غير المحدد تنشأ الأعداد ومن الأعداد تنشأ النقط…” نلاحظ أنه ذات الفكرة أن الأعداد هي أصل للأشياء مع اضافة مفهوم الموناد أو الواحد، وهكذا نكون قد فرغنا من مبحث الميتافيزيقا الفيثاغوري لننتقل للمبحث الأخلاقي.
٢- ليكن من البين أولًا أن مفهوم الأخلاق قديمًا ليس ذات المفهوم حديثًا فهي تشمل سلوكيات الفرد مع الأخر كما أنها تشمل أفعال الفرد مع نفسه والغاية القصوى من العيش، والمنظومة الأخلاقية بهذا المعنى عند فيثاغورس ترتكز على مبدأين(تناسخ الأرواح- التطهير) يُنسب لفيثاغورس قوله بتناسخ الأرواح بعد موتها، وهي فكرة قديمة في كل الحضارات، ويذكر ديوجينينس ناقلًا عن اكسينوفانيس قصة تكشف البعد الأخلاقي لهذه العقيدة التي كانت في الديانة الأورفية أيضًا وبعض فلسفات الشرق ” يقصون علينا أن فيثاغورس في أثناء مروره بجرو(كلب) كان بدنه يرتجف من الضرب العنيف امتلأ قلبه بالشفقة عليه وقال لمن يقوم بضربه العبارة التالية: “توقف يا هذا وكف عن ضربه بعنف حيث إنه كان صديقًا لي وكان روحًا من النسيم لقد تعرفت على شخصيته من خلال سماعي لصوت عوائه” فهذه العقيدة تدفع النفس نحو أمرين تطهير ذاتها ومراعاة الأخرين، فالأول أي أن تتطهر من الجسد حتى تنعتق من عجلة الميلاد ودورة التناسخ ويكون ذلك من خلال تدريبات روحية منها التقشف والزهد وذكر ديوجينيس عدة أمور أخرى كالامتناع عن أكل اللحوم والفول الخ وكذلك ممارسة الرياضيات فهي تحاكي مواضيع مجردة تعين الجسد على التحرر من المادة، ولهذا المفهوم أي التطهير أثر بالغ على الفلسفة والثيولوجيا بعامة ونجد استخدامه في محاورة فيدون لأفلاطون وكتاب الشعر لأرسطو، أما الأمر الثاني فمن الملاحظ أن مراعاة الآخر عند من يعتقد بالتناسخ تقوم على مبدأ أن الآخر حيوانًا كان أو نبات أو حتى انسان قد يكون شخص ما فمن هنا وجب الرفق بكل الموجودات، وهكذا نفرغ من فيثاغورس والفيثاغورية، على أننا نرجو أن تكون غاية هذه السلسلة واضحةٌ بينه، وهي معرفة الطرق التي سلكها العقل البشري في الاجابة على أسئلة بينة، دون الخوض بقدر ما هو متاح في جدل تأويلي، وعليه نقول أصل العالم إما ماء أو هواء أو اللامتعيّن أو النار أو العناصر الأربعة كلها أو أعداد رياضية الخ فما هو أصل ومبدأ العالم إذن؟