تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
أصبحت الآراء النسبية حول الأخلاق ذات تأثير متزايد الأهمية في الثقافة المعاصرة. كثير من المفكرين، لا سيما أولئك الذين يرغبون أن لا يستمدوا أخلاقهم من دينٍ ما، يرون أنه أمر لا مفر منه. فمن أين ستأتي الحقائق المطلقة حول الصواب والخطأ إذن، إذا لم يكن هناك كائن أسمى يشرّع لها؟ ينبغي أن نرفض المطلقات الأخلاقية -حتى ونحن نحافظ على معتقداتنا الأخلاقية- مما يسمح بأن يمكن أن يكون هناك صواب وخطأ فيما يتعلق بهذا القانون الأخلاقي أو ذاك، ولكنه ليس صوابًا أو خطأ في حد ذاته. (انظر -على سبيل المثال- افتتاحية ستانلي فيش لعام ٢٠٠١م: ” تَدَيُّن بدون مطلقات”).
هل يُعقل الرد على رفض الحقائق الأخلاقية المطلقة من وجهة نظر النسبية الأخلاقية؟ لماذا لا ينبغي أن يكون ردنا أكثر تطرفا وعدمية، فنتوقف بموجبه عن استخدام المصطلحات المعيارية مثل الصواب والخطأ تمامًا، سواء كان ذلك في مظاهرها المطلقة أو النسبية؟
النسبية ليست دائمًا طريقة متسقة للرد على رفض فئة معينة من الحقائق. عندما نقرر أنه لا توجد أشياء مثل الساحرات، لم نصبح نسبيين بشأن الساحرات. تخلينا -بدلًا من ذلك- عن حديث السحر تمامًا، إلا فيما يخص وصف مواقف الأشخاص، (مثل أولئك الذين عاشوا في مدينة Salem )* الذين اعتقدوا خطأً أنَّ في العالم ساحرات، أو ما يخص وصف ما يجده الأطفال ممتعًا للظهور به في عيد الهالوين. أصبحنا ما يمكن أن نسميه “إقصائيون”* بشأن الساحرات.
من جهة أخرى، عندما علَّمَنَا أينشتاين في نظريته النسبية الخاصة، ألَّا شيء اسمه التزامن المطلق لحدثين، كانت النتيجة الموصى بها أننا نصبح نسبيين حول التزامنSimultaneity؛ مما يسمح بوجود شيء مثل “التزامن بالنسبة للإطار المرجعي (الزماني-المكاني)”، ولكنَّ التزامن ليس على هذا النحو.
ما الفرق بين قضية الساحرة وقضية التزامن؟ لماذا أدى الرفض الأخير إلى النسبية، بينما أدى الأول إلى الإقصائية؟
أظهر أينشتاين في قضية التزامن أنه رغم أنَّ العالم لا يحتوي التزامن على هذا النحو، فإنه يحتوي على ابن عمه النسبي–التزامن بالنسبة إلى إطار مرجعي–، وهي خاصية ذات تأثير مثل تأثير التزامن الكلاسيكي في نظرتنا للعالم تمامًا.
وهذا عكس ما في حالة الساحرة؛ إذ إننا ما إن نتخلى عن الساحرات في حالة الساحرة، حتى نجد أنَّه لا يوجد ابن عم نسبي ذو أي دور كدور الساحرة المفترض. الخاصية التي قد تكون لحدثين من “كونهما متزامنين بالنسبة للإطار المرجعي”، هي نوع من التزامن. لكنَّ خاصية “أن تكون ساحرة وفقًا لنظام الاعتقاد (ت)” ليست نوعًا من الساحرات، ولكنها نوع من المحتوى -محتوى نظام المعتقدات-(ت)، وهي طريقة لوصف ما يقوله نظام معتقدات (ت)، وليست طريقة لوصف العالم.
السؤال الآن: هل كانت القضية الأخلاقية أشبه بالحالة المتزامنة أم أشبه بحالة الساحرات؟ عندما نرفض الحقائق الأخلاقية المطلقة، هل النسبية الأخلاقية هي النتيجة الصحيحة أم هي الإقصائية الأخلاقية (العدمية)؟
تعتمد الإجابة -كما رأينا- على ما إذا كان هناك أبناء عمومة نسبيون من “الصواب” و “الخطأ” ذوي دَوْرٍ مثل الدور نفسه الذي يلعبه “الصواب” و “الخطأ” المطلق.
يصعب أن نرى ما يمكن أن يكون عليه الأمر.
ما هو أساسي لـ “الصواب” و “الخطأ” أنهما مصطلحان معياريان، وهما مصطلحان يستخدمان لقول: كيف ينبغي أن تكون الأشياء على نقيض ما هي عليه في الواقع. ولكن ما ابن عم “الصواب” و “الخطأ” النسبي الذي يمكن أن ذا دَوْرٍ كهذا الدور المعياري؟
يقول أكثر النسبيين الأخلاقيين: إنَّ الصواب والخطأ الأخلاقِيَّيْنِ يجب أن يكونا نسبيين إلى “القانون الأخلاقي” للمجتمع. بعض هذه القوانين تفيد أنَّ تناول لحم البقر مسموح به، بينما يراه آخرون رجسًا، ويجب عدم السماح بأكله أبدًا. الاقتراح النسبي هو وجوب عدم التهاون بالتحدث عما هو صواب أو خطأ، ولكن عما هو “صواب أو خطأ في ظل قانون أخلاقي معين” فقط.
المشكلة أنه في حين أنَّ جملة: “أكل لحوم البقر خطأ” معيارية بوضوح، فإنَّ جملة: “أكل لحوم البقر خطأ عند الهندوس” مجرد ملاحظة وصفية لا تحمل أي مضمون معياري على الأطلاق. وهي مجرد طريقة لوصف ما يدعيه قانون أخلاقي معين، وهو هنا قانون الأخلاق الهندوسي. ويمكننا أن نرى ذلك من حقيقة أنَّ أي شخص – أيًّا كان رأيه في أكل لحم البقر- يمكن أن يتفق على أنَّ أكل لحم البقر خطأ في القانون الأخلاقي للهندوس.
لذلك يبدو أنَّ القضية الأخلاقية تشبه قضية الساحرة أكثر من قضية التزامن؛ إذ لا يوجد أبناء عمومة نسبيون لـ “الصواب” و “الخطأ”. إنكار الحكم المطلق لا يؤدي إلى النسبية، بل إلى العدمية ٢.
لا حلّ منصف يُسمَّى “النسبية الأخلاقية” نستطيع من خلاله استخدام المفردات المعيارية بشرط فهمها على أنها نسبية لقوانين أخلاقية معينة. إذا لم تكن هناك حقائق مطلقة عن الأخلاق، فسيتعين على “الصواب” و “الخطأ” الانضمام إلى “الساحرة” في مزبلة المفاهيم الفاشلة.
الحجة مهمة؛ لأنها تظهر أنه ينبغي لنا عدم التسرع في التخلي عن الحقائق الأخلاقية المطلقة، والغامضة أحيانًا؛ لأنَّ العالم قد يبدو أكثر غموضًا دون أية مفردات معيارية على الإطلاق.
قد يشك المرء في حجتي ضد النسبية الأخلاقية. ألسنا على دراية ببعض المجالات المعيارية التي نحن جميعا نسبيون عنها مثل آداب السلوك؟ لا ريب ألَّن يعتقد أحد سليم الذهن أنَّ هناك بعض الحقائق المطلقة حول ما إذا كان يجب علينا أكل المكرونة بسرعة أو بصوت مزعج.
إذا كنا نتناول الطعام في قصر باكنغهام، ف ينبغي لنا ألَّا نلتهمه بسرعة؛ لأنَّ مضيفينا سيعتبرونه مسيئًا، و ينبغي لنا ألَّا نفعل أشياء أخرى مساوية قد تسيء إلى مضيفينا. بينما إذا كنا نتناول الطعام في شيان بالصين، يجب أن نمضغ الأكل بصوت مسموع؛ لأنَّ ذلك يُعَدُّ علامة على أننا مستمتعين بالطعام، وسيعُدُّ مضيفونا الأمر مسيئًا إذا لم نفعل ذلك، وينبغي لنا ألَّا نفعل أشياء أخرى مساوية تسيء إلى مضيفينا.
ولكن إذا كانت النسبية متسقة في حالة الآداب، فلماذا لا يمكننا الادعاء بأنَّ الأخلاق نسبية بالطريقة نفسها؟
والسبب أنَّ نسبيتنا حول الآداب لا تستغني في الواقع عن جميع الحقائق الأخلاقية المطلقة. ولكننا نكون نسبيين بشأن الآداب بالمعنى الذي يتعلق بمجموعة محدودة من القضايا (مثل آداب المائدة والتحية)؛ فإننا نأخذ القاعدة المطلقة الصحيحة لتكون هكذا: ” يجب علينا ألَّا نفعل أشياء أخرى مساوية للأفعال التي تسيء إلى مضيفينا”.
هذه القاعدة مطلقة وتنطبق على الجميع وفي جميع الأوقات. وتأتي نكهتها النسبية من حقيقة أنَّ هذه المجموعة المحدودة من السلوكيات -كآداب المائدة والتحية، لا إساءة معاملة الأطفال مثلًا من أجل المتعة- تدعو إلى تغيير سلوك المرء بما يتفق مع الأعراف المحلية.
أو لِنَقُلْ: تعتمد نسبية الآداب على وجود معايير أخلاقية مطلقة، فإذا كانت الآداب لا تستغني عن الحقائق الأخلاقية المطلقة، فلا يمكن للمرء أن يأمل في استخدامها نموذجًا للنسبية الأخلاقية.
لنفترض، ونأخذ هذه النقطة على أية حال، ونعترف بأنه يجب أن تكون هناك بعض الحقائق الأخلاقية المطلقة. لماذا لا يمكن أن يكونوا جميعًا مثل الحقائق التي تنطوي عليها الآداب؟ لماذا لا يمكنهم جميعًا القول بأنَّ أيَّ سؤال ذي صلة أخلاقية يجب علينا القيام به، يعتمد على ماهية الأعراف المحلية؟
تكمن المشكلة في هذا النهج بأنه بمجرد أن نعترف بوجود بعض الحقائق الأخلاقية المطلقة، يصعب أن نرى لماذا ينبغي لنا ألَّا نعتقد أنَّ هناك كثير منها بقدر ما يبدو ويبرره الحس والتفكير السليم. سنكون الآن -بعد التخلي عن محضية الأحكام الأخلاقية المطلقة والشاملة- في مجال محاولة معرفة الحقائق الأخلاقية المطلقة الموجودة. وسنحتاج للقيام بذلك إلى توظيف مزيجنا المعتاد من الحجة والحدس والتجربة. وما تخبرنا به الحجة والحدس والتجربة أنه إذا كان وجوب التهامنا للمكرونة بصوت مسموع يعتمد على الأعراف المحلية، فإننا لن نعتمد عليها حول ما إذا كان ينبغي لنا إساءة معاملة الأطفال من أجل المتعة.
يحتاج الشخص الذي قد يكون نسبيًّا حول الأخلاق إلى أن يقرر ما إذا كانت وجهة نظره تمنح وجود بعض الحقائق المطلقة، أو ما إذا كانت نسبية محضة خالية من أي التزام بالمطلقات. ولقد جادلت بأنَّ الموقف الأخير هو مجرد عدمية، بينما يقودنا الموقف الأول مباشرة للخروج من النسبية والعودة إلى البحث عن مطلقات أخلاقية.
لا شيء من هذا يعني إنكار وجود قضايا شاقة لا يسهل فيها معرفة الإجابة الصحيحة عن السؤال الأخلاقي. وذلك مجرد تأكيد على أنه لا يبدو أنَّ هناك بديلًا صالحًا لما يتطلبه التفكير في الإجابة عن سؤال أخلاقي مُلحٍّ عندما نكون في حالة من اللبس حوله، فإننا نكون أيضًا في حالة من الارتباك حول الإجابة الصحيحة مطلقًا.
١ دائمًا ما يكون الاستدلال على موقف فلسفي دقيق لشخص ما -لا سيما غير الفيلسوف- أمرًا صعبًا؛ لأنَّ الناس يميلون إلى إعطاء صيغ غير ما يعدونه الرأي نفسه. فيش، على سبيل المثال بعد إدلائه بوجهة نظره، وهي أنه ” لا يمكن أن تكون هناك معايير مستقلة لتحديد أيّ من التفسيرات المتنافسة المختلفة للحدث هو التفسير الحقيقي” الذي يبدو نسبيًّا بشكل مناسب، وينتهي به الأمر إلى الادعاء بأنَّ كل ما يقصده هو الدفاع عن “ممارسة وضع ذاتك في مكان الخصم؛ لكي تفهم بعض الشيء لماذا قد يرغب آخر في فعل أمر مماثل”. رغم هذا الأخير، فإنه مجرد توصية بالفهم التعاطفي، وهو لا ريب مشورة جيدة ومتسقة تمامًا مع تأييد المطلقات الأخلاقية.
وهناك وجهة نظر أخرى يتم الخلط بينها وبين النسبية الأخلاقية أحيانًا، وهي الرأي القائل بأنَّ الشيء الصحيح الذي يجب القيام به يمكن أن يعتمد على الظروف. ليس هناك شك في أنَّ الشيء الصحيح الذي يجب القيام به يمكن أن يعتمد على الظروف، ولو من وجهة نظر مطلقة. فإذا كان يجب عليك مساعدة شخص محتاج، قد يتوقف على ظروفك وظروفه وما إلى ذلك. وما يجعل وجهة النظر نسبية هو تمسكها بأنَّ الشيء الصحيح الذي يجب القيام به لا يعتمد على الظروف فقط، بل وعلى ما يعتبره الشخص (أو مجتمعه) الشيء الصحيح الذي يجب القيام به، وعلى قانونه الأخلاقي أيضًا.
وأنا هنا مهتم فقط بأولئك الذي يرغبون في إنكار وجود أي حقائق مطلقة بهذا المعنى. إذا لم تكن هذه هي وجهة نظرك، فأنت لست هدفًا لهذه المناقشة خاصة.
٢ قد يعتقد بعض الفلاسفة أنه يمكنهم التهرب من هذه المشكلة عن طريق الإدلاء بأنَّ محمول الحقيقة نسبي بدلًا من القول: “إنها محمول أخلاقي نسبي. ولكنه -كما أوضحت- بأنَّ مشكلة فقدان المحتوى المعياري يتكرر في هذا الإطار.
*Salem مدينة تقع على الساحل الشمالي لماساتشوستش فوق بوسطن. تشتهر بمحاكمات الساحرات عام ١٦٩٢م التي ُعدم فيها كثير من السكان المحليين بزعم ممارستهم السحر.
* المادية الإقصائية هي موقف مادي في فلسفة العقل. ادعاؤها الأساسي أنَّ فهم الناس للعقل المبني على الحس المشترك (أو علم النفس الشعبي) خاطئ، وأنَّ فئات معينة من الحالات العقلية التي يؤمن بها أكثر الناس غير موجودة.
الكاتب: أستاذ فلسفة في جامعة نيويورك. من مؤلفاته “الخوف من المعرفة: ضد النسبية والبنائية” و “المحتوى والتبرير: أوراق فلسفية” و شارك في تحرير “مقالات جديدة حول البديهي A Priori” جميعها نُشرت في دار نشر جامعة أكسفورد.
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
The Maze of Moral Relativism
Paul Boghossian
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط