تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
في كل مرة نتحدث فيها عن السعادة، نحن أيضّا نتحدث عن شيءٍ آخر وهو الفضيلة. فقد لا نعلم ما تدل عليه السعادة ذاتها، لكننا نعلم كيف أُثيرت مسألة السعادة تاريخيًا—إقامة نموذج لحياة فاضلة. يجدر بنا، مع تسرّعنا لجعل السعادة هدفنا الأسمى لأنفسنا وللمجتمع ككل، تذكّر تاريخ هذا المفهوم الذي يبهرنا غناه، ويحبطنا تناقضه، مما قد يساعدنا على فهم زمننا والقيم الأخلاقية التي نؤمن بها اليوم فهمًا أفضل.
يُقدّم المؤرخ دارين م. مكماهون في كتابه “السعادة: تاريخ” وصفًا لكيفية التعبير عن هذه الفكرة وتبنيها على مر الزمن، بالعودة إلى ولادة الحضارة الغربية في اليونان القديمة، كما تفعل الكثير من الروايات.
كان أرسطو، وهو من أوائل من أولوا هذه المسألة عناية خاصة، يعتبر السعادة أن تكون شخصا خيّرًا. فالحياة السعيدة، التي كان يسميها اليونانيون “يودايمونيا”، كانت حياة مُعاشة بشكلٍ أخلاقيّ يقودها العقل ومُكرّسة لترسيخ فضائل المرء. ربط الأبقوريون، بعد فترة وجيزة، السعادة بالمتعة. فكانوا يُحاججون بأن الحياة الجيّدة يجب أن تُكرّس لأي شيء يجلب السعادة؛ ومع ذلك فإنهم لم يكونوا متعيون، و كانوا يعظون بأنظمة صارمة للرغبة. قال إبيقور نفسه أنه من أجل أن يصبح سعيدًا، لم يكن ليحتاج أكثر من كعكة شعير وبعض الماء.
لم يمنح الرواقيون أي مرتبة عالية للمتعة، مجادلين بأن المرء لديه القدرة على أن يكون سعيدًا مهما كانت ظروف الحياة شاقة ومؤلمة؛ بعد ذلك بوقتِ طويل، فإن المسيحية التي بُشِّر بها ومورِسَت خلال العصور الوسطى، تجنبت المتعة تمامًا واعتبرت الألم طريقًا أكثر فائدة إن لم يكن من أجل حياة سعيدة، فمن أجل حياة تؤدي إلى نوعٍ من الاجتماع الإلهي في الحياة الآخرة. هذه الحالة المرغوبة لا يمكن بلوغها في الحياة على الأرض، ولكن في الجنة فقط، كهدية من الله.
لكن عصر النهضة قد جلب السعادة من الجنة إلى الأرض مرة أخرى. لم يكن حتى عصر التنوير أن أصبحت السعادة حقًا — شيئًا تمكن كل شخص من السعي إليه وبلوغه. عندما كتب توماس جيفرسون في إعلان الاستقلال أن السعي وراء السعادة حقٌ لا يجوز التصرف فيه، لم يكن ينوي فحسب أن يقول أنه على المرء أن يسعى وراء المتعة، لكن يجب أن يكون له أيضًا الحق في اكتساب الممتلكات وامتلاكها.
ما نقدّره اليوم في الغرب الثري، له نكهته المميزة.
فنحن الآن مطالبون بالسعي وراء الاتحاد مع أنفسنا، على عكس رسالة المسيحية التي بموجبها أن نتخلى عن أنفسنا لتحقيق الاجتماع الإلهي. إذ نحتاج إلى التعبير عن أنفسنا الداخلية الحقيقية، والتواصل مع مشاعرنا العميقة، واتباع المسار الذي حددناه بأنفسنا، لكي نكون سعداء في وقت نقدّر فيه الأصالة والنرجسية.
نحن أيضًا بعيدون عن الأبيقوريين الذين اشتهروا بالتردد في ممارسة النشاط البدني. إذ نسعى اليوم وراء السعادة من خلال تبجيلنا لأجسادنا وبناءها عبر الجري لمسافات طويلة، والتمارين القاسية في معسكرات التدريب، وترايثلون الرجل الحديدي، وتأرجحات كيتل بيل.
يُفترَض أن نجد السعادة من خلال العمل والإنتاج على عكس اليونانيين المتوجسين من العمل في العصور القديمة. فنحن مطالبون برعاية قيمتنا السوقية، وإدارة أنفسنا كمؤسسات، والعيش وفقاً لأخلاقيات ريادة الأعمال. وعندما لا تكون هناك خطيئة أكبر من كونك عاطلاً عن العمل ولا يكون هناك رذيلة أكثر احتقارًا من الكسل، فإن السعادة لا تأتي إلا لأولئك الذين يعملون بجد، و يتمتعون بالسلوك الصحيح، ويكافحون من أجل تحسين الذات.
هذه بعض القيم الأخلاقية التي يبدو أنها تكمن وراء السعادة اليوم: كن حقيقيًا، كن قويًا، كن منتجًا — والأهم من ذلك، لا تعتمد على أشخاص آخرين لتحقيق هذه الأهداف، لأن مصيرك، بالطبع، بين يديك.
هذه رسالة شائعة، وقد كانت كذلك لبعض الوقت. وهي تُغرَس في عقل العاطلين عن العمل والفقراء الذين انساقوا إلى الاعتقاد بأن مصائبهم هي أعراض لسلوكياتهم المتدنية، وعدم قدرتهم على تولي زمام حياتهم. إنهم كما قد يدعي جيب بوش[1] لا يعملون بما فيه الكفاية.
يصبح السلوك كل شيء وتصبح الظروف عرضية، عندما تُعاد صياغة السعادة كخيار فردي. عمل مارتن سيليجمان (مؤسس علم النفس الإيجابي) بجهد من أجل نشر هذه الرسالة، مشيرًا إلى دراسات تقترح أن ضحايا حوادث السيارات، بشكلٍ عام، ليسوا أقل تعاسة من الفائزين باليانصيب ولا أكثر تعاسة منهم.
حتى لو وجدنا هذه الأفكار مثيرة للاهتمام أو ملهمة، فإنها لا تشكّل أساسًا مفيدًا بشكلٍ خاص عندما نسعى إلى جعل السعادة هدف السياسة. فإذا كنا جميعًا سعداء بنفس القدر، بغض النظر عن ظروفنا، فإن ذلك من شأنه أن يمد السياسيين مثل السيد بوش بعذرٍ ملائم للتوقف عن النظر في القضايا الهيكلية مثل عدم المساواة الطبقية والاجتماعية والاقتصادية أو الفقر.
قد تغرينا رؤية اهتمام رئيس الوزراء البريطاني المحافظ ديفيد كاميرون المفاجئ بالسعادة في هذا الضوء. عندما قرر قبل بضع سنوات إطلاق ما يُسمى بمؤشر السعادة، فعل ذلك في ذروة التقشف، عندما كان الإنفاق العام مُخفَّضًا، وكانت “الظروف” تزداد سوءًا بالنسبة لكثير من الناس، لا سيما أولئك الذين يعتمدون على الإعانات. وقد استُلهِم هذا الاستطلاع، بالمصادفة، من السيد سيليجمان، مما أدى إلى ترديد الشعار “الظروف لا تحدث فرقًا”.
عند الدفاع عن السعادة والتحدث عنها باستمرار، كما يحدث اليوم، فإن أفضل ما يمكن أن نأمله هو أن تُثير قضايا عالمية أخرى — مثل المساواة والعدالة والحقيقة والأخلاق، التي نحتاج بشدة إلى مناقشتها. أسوأ ما يمكن أن يحدث – وهذا لسوء الحظ ما يجري بالفعل—هو أن تصبح السعادة حصان طروادة تُستخدَم لتطبيع عدم المساواة والقمع. قد يتم إرسال الفقراء بعد ذلك إلى دورات تدريبية حول السعادة لتحسين سلوكياتهم، أو قد يُعيَّن لهم مدربون للحياة الشخصية، كما اقترح بول رايان ذات مرة في خطته الغريبة لمكافحة الفقر.
قال جيب بوش في خطاب ألقاه في ديترويت في فبراير مقدّمًا خطته لمعالجة عدم المساواة في الدخل: “نعتقد أن لكل أمريكي في كل مجتمع الحق في السعي وراء السعادة. لكل أمريكي الحق في النهوض”.
فلنحذر. عندما يقترح السياسيون أن تكون السعادة هي الهدف النهائي للمجتمع، يجب أن نتذكر أنهم على الأرجح لا يتحدثون عن السعادة مطلقًا، بل عن الأيدلوجيا: أجنداتهم السياسية المقنّعة.
[1] حاكم ولاية فلوريدا (١٩٩٩-٢٠٠٧)
الكاتب: كارل سيدرستروم أستاذ مساعد في الدراسات التنظيمية بجامعة ستوكهولم. شارك في تأليف “متلازمة العافية” مع أندريه سبايسر، و”رجل ميت يعمل” مع بيتر فليمنج.
المترجمة: باحثة دكتوراه في الأدب. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
The Dangers of Happiness
Carl Cederstrom
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”