تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
مثل أي طفل يعيش في إنجلترا، كنت أُشاهد الكثير من برامج التلفاز. لم يكن هناك أي كتب في منزلنا، ولا حتى الكتاب المقدّس. لذا كان التلفاز مهم للغاية، لقد كان في الواقع حاضرًا في كل شيء. بالتأكيد، كان أغلب ما كان يقدمه بلا قيمة. لكن في عام ١٩٧٣، بثت قناة البي بي سي سلسلة وثائقية استثنائية بعنوان “ارتقاء الانسان” “The Ascent of Man”، قدّمها دكتور جاكوب بورونوفسكي Jacob Bronowski في حلقات بلغت مدتها 13 ساعة. وكانت كل حلقة ما أسماه “مقالة” وتضمنت بعض المواقع الغريبة والمفصّلة، لكن تقديم الحلقات لم يكن استعراضيًا على الإطلاق وتكوَّن في أغلبه من حديث دكتور برونوفسكي المباشر والمتعمد للكاميرا.
دكتور برونوفسكي (الذي كان دائمًا ما يُشار إليه باسم “دكتور” ولا أستطيع أن أفكر في أي اسم آخر مألوف أكثر من ذلك) سيكون هذا العام قد توفى منذ أربعين عامًا في عمر صغير نسبيًا، في عمر السادسة والستين. كان عالم رياضيات بريطاني وُلد في بولندا وكتب عددًا من الكتب المرموقة في العلوم، لكنه كان على نحوٍ متساوٍ على معرفة وثيقة بعالم الأدب؛ وقد كتب شعره الخاص، كما كتب كتابًا عن الشاعر ويليام بليك.
كان رجلاً نحيلاً وحيويًا ومحبوبًا. ولأن الفترة التي ظهر فيها كانت في بداية السبعينيات من القرن الماضي، فقد كانت بعض اختياراته للأزياء مهووسة بالألوان الباستيلية، خاصةً جواربه، مع أنه كان في بعض المناسبات يضع سترة سباق رياضية مصنوعة من الجلد. كان عادةً ما يبتسم حين يتحدث، ليس بدافع الخيلاء ولا لأنه كان يعيش في كاليفورنيا (التي بالمناسبة كان يعيش فيها ويعمل في معهد سولك في سان دييغو) ولكن بدافع الفرح الخالص والشَرِه عند شرحه لما كان يعتقد بأهميته. ومع ذلك كان هناك تواضع صادق في تصرفاته التي جعلته محبوبًا تمامًا.
عمد ” ارتقاء الانسان” (الذي لا يمكن إنكار أنه يُعتبر الآن متحيّزًا جنسيًا— إذ يزخر بالرجال العظماء، ولكن على ما يبدو أنه يحتوي على قلة قليلة من النساء العظيمات) إلى عكس عنوان كتاب داروين الصادر عام ١٨٧١. إذ لم يكن تفسيرًا للتطور البيولوجي البشري، ولكن للتطور الثقافي — منذ أصول حياة الإنسان في الوادي المتصدع مرورًا بالتحولات من مجتمعات الصيادين والحاصدين، وحتى البداوة ومن ثم الاستقرار والحضارة، من الزراعة والتعدين إلى سقوط الامبراطوريات ونهوضها: آشور و مصر و روما.
قدم برونوفسكي كل شيء بحيوية بالغة ولكن بعمق لم يضحي مطلقًا بالوضوح ولم يكن متعالٍ بأي شكلٍ من الأشكال. كان أسلوب البرنامج صارمًا ولكن متساهلاً، مرحًا ولكن دقيقًا، وكان دائمًا ضروريًا ومنكشفًا واستكشافيًا. أتذكر بشكلٍ محدد البرامج المتعلقة بمحاكمة غاليليو، وتردد داروين في نشره لنظرية التطور، والعواقب المشوشة لنظرية آينشتاين عن النسبية. كان بعض هذه البرامج يصعب أن يفهمها طفل يبلغ من عمره ثلاثة عشر عامًا، لكني أتذكر انجذابي التام لها.
كان “ارتقاء الانسان“ مكفولاً بالإبداع العلمي. لكن لم يكن الدكتور برونوفسكي مختزلاً مطلقًا في التزامه بالعلم، على العكس من العديد من المقلدين المعاصرين له الأكثر فصاحة وتألقًا. لطالما ارتبط النشاط العلمي بالإبداع الفني؛ من وجهة نظر برونوفسكي، كان العلم والفن نهريْن طويليْن متجاوريْن، يتدفقان من مصدرٍ مشترك: وهو الخيال البشري. كان كلٍ من نيوتن وشكسبير، وداروين وكولريدج، وآينشتاين وبراك أوجه مرتبطة للعقل البشري، إذ شكَّلوا الأفضل والأنبل فيما يتعلق بالمغامرة البشرية.
في أغلب حلقات السلسلة الوثائقية، كان شرح دكتور برونوفسكي للتطور البشري متفائلاً بشدة. وبعد ذلك، في الحلقة الحادية عشر بعنوان “المعرفة أم اليقين” تغير الجو العام ليصبح أكثر تجهمًا. اسمحوا لي أن أحاول سرد ما علق في ذاكرتي طوال هذه السنوات.
بدأ الدكتور برونوفسكي البرنامج بهذه الكلمات: “أحد أهداف العلوم الفيزيائية هو تقديم صورة واقعية عن العالم المادي. وأحد إنجازات الفيزياء في القرن العشرين كان إيضاح أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه.” من وجهة نظر دكتور برونوفسكي، لم تكن هناك معرفة مُطلقة وأي أحد يزعم بوجودها—سواء كان عالمًا أو سياسيًا أو متديّنًا—فإنه يفتح الباب على مأساة. فكل المعلومات العلمية غير كاملة وعلينا معاملتها بتواضع، و كان هذا في رأيه هو حال البشر.
هذا هو حال ما يمكننا معرفته، لكنه أيضًا بالضرورة درسًا أخلاقيًا. إنه درس القرن العشرين من الفن التكعيبي فصاعدًا، لكنه أيضًا درس في فيزياء الكم. كل ما يمكننا فعله هو التعمق أكثر وأكثر في مقاربات أفضل لواقع لطالما كان مراوغًا. يبدو أن الهدف نحو تحقيق فهم كامل يتراجع كلما اقتربنا منه.
يُصرّ الدكتور برونوفسكي على أنه ليس هناك رؤية من خلال عين الرب، وأن الأشخاص الذي يزعمون وجود تلك الرؤية وامتلاكهم لها، ليسوا مخطئين فحسب بل إنهم مؤذيين أخلاقيًا. إذ ترتبط الأخطاء ارتباطًا وثيقًا بالبحث عن المعرفة البشرية التي لا تتطلب حسابات رياضية فحسب، بل تتطلب بصيرة وتفسير وحكم شخصي نتحمل مسؤوليته. كان التشديد على المسؤولية الأخلاقية تجاه المعرفة أمرًا أساسيًا في جميع أعمال دكتور برونوفسكي. إذ يستلزم اكتساب المعرفة مسؤولية تجاه صدق ما نحن عليه كمخلوقات أخلاقية.
مقال الدكتور برونوفسكي الحادي عشر أخذه إلى مدينة جامعة غوتينغن القديمة في ألمانيا ليفسّر أصل مبدأ فيرنر هايزنبرغ لعدم اليقين في البيئة البالغة البراعة التي عاش بها الفيزيائي ماكس بورن في عشرينات القرن الماضي. أصرّ الدكتور برونوفسكي على أن مبدأ عدم اليقين كان تسمية خاطئة لأنه يعطي انطباعًا أننا نكون دائمًا غير متيقنين في داخل العلم (وخارجه). ولكن هذا ليس صحيحًا؛ فالمعرفة دقيقة، لكن هذه الدقّة تقتصر على حدٍ معيّن من تحمّل عدم اليقين. يرى هايزنبيرغ أن الإلكترون هو جسيم لا يحمل سوى معلومات محدودة؛ وسرعته وموضعه محدوديْن بتحمّل كم ماكس بلانك ، وهو العنصر الأوليّ للمادة.
كان دكتور برونوفسكي يرى أن مبدأ عدم اليقين يجب أن يُسمى بناءً على ذلك بمبدأ التقبّل. فالبحث عن المعرفة يعني تقبّل عدم اليقين. ولمبدأ هايزنبرغ عاقبة تتمثل في عدم إمكانية وصف أي أحداث فيزيائية في النهاية بيقينٍ مطلق أو “انعدام تقبّل”، إن صح التعبير. فكلما عرفنا أكثر، أصبحنا أقل يقينًا.
في عالم الحياة اليومية، لا نتقبّل فحسب عدم الدقّة المُطلقة بلا مبالاة كئيبة، بل نوظّف باستمرار عدم الدقّة المطلقة هذه في علاقاتنا مع الأشخاص الآخرين. إذ تتطلب علاقاتنا مع الآخرين أيضًا مبدأ التقبّل. فنحن نُقابل الآخرين عبر منطقة غامضة من المفاوضات والمقاربات؛ مثل الاستماع والمحادثات المتبادلة والتفاعل الاجتماعي.
من وجهة نظر الدكتور برونوفسكي، فإن العاقبة الأخلاقية للمعرفة هي أننا يجب ألا نبني على الإطلاق أحكامنا على الآخرين على أساس معنى مطلق وإلهي لليقين. فكل المعرفة وكل المعلومات التي تنتقل بين البشر لا يمكن أن يتم تبادلها إلا في حدود ما يمكننا أن نطلق عليه “التصرف بتقبّل”، سواء في العلوم، أو الأدب، أو السياسة أو الدين. كما يعبّر عن هذه الفكرة ببلاغة بقوله “المعرفة الإنسانية أمر شخصي ومسؤول، مغامرة لا تنتهي على حافة عدم اليقين.”
لا يمكن أن تحدث العلاقات بين الإنسان والطبيعة، والإنسان وإنسانٍ آخر إلا في حدود تصرف مُعيَّن من التقبّل. وعلى العكس من ذلك، فإن الإصرار على اليقين يؤدي حتمًا إلى الغطرسة والدوغمائية المبنيّتيْن على الجهل.
عند هذه النقطة، وفي الدقائق الأخيرة للبرنامج، يتحوّل المشهد تحولاً مفاجئًا إلى معسكر أوشڤيتز، الذي قُتل فيه العديد من أفراد عائلة برونوفسكي.
إنها، ولا ريب أنك تتفق معي، للحظة مؤثرة وغير اعتيادية. حين يغمس برونوفسكي يديه في الماء الكدر لبركة الماء التي احتوت على رُفات أفراد عائلته وأفراد عوائل لا حصر لها. كلهم كانوا ضحايا لذات الكره: كره الإنسان للإنسان الآخر. على النقيض من هذا، يقول—قبل أن تبدأ الكاميرا بالتصوير البطيء الحزين—”يجب علينا أن نلامس الناس.”
إن التصرف بتقبّل يعارض مبدأ اليقين الوحشي المستوطن في الفاشيّة، ومن المحزن أنه لم يستوطن في الفاشيّة فحسب بل في جميع الأوجه المتعددة للأصوليّة. عندما نعتقد أننا نمتلك اليقين، وعندما نطمح إلى الحصول على معرفة الآلهة، فإن أوشڤيتز يُمكن أن يحدث ويمكن أن يكرر نفسه. يمكن الجدال بأنه قد كرر نفسه في الإبادات اليقينية بالعقود المنصرمة.
إن السعي وراء المعرفة العلمية فعل شخصي كاستخدام فرشاة الرسم أو ككتابة قصيدةٍ ما، فهذه الأفعال جميعها بشرية بشكلٍ عميق. إذا تم تعريف الحال البشري من خلال محدوديته، فهذه إذن واقعة مجيدة لأنها محدودية أخلاقية متأصلة في الإيمان بقوة الخيال، وبإحساسنا بالمسؤولية وبتقبلنا للاعصمة التي نمتلكها. يجب علينا أن نعترف دائمًا بأننا يمكن أن نكون على خطأ؛ وعندما ننسى ذلك، فإننا ننسى أنفسنا وعندها يمكن أن يحدث الأسوأ.
في عام ١٩٤٥، قبل ما يقرب من ثلاثة عقود من وثائقي ارتقاء الانسان، زار برونوفسكي — الذي كان صديقًا مقربًا للفيزيائي الهنغاري ليو زيلارد، الأب المتردد للقنبلة النووية—ناجازاكي للمساعدة في تقييم الدمار هناك. وقد اقنعته هذه الزيارة بأن يوقف عمله في أبحاث الجيش البريطاني الذي كان قد انخرط به على نحوٍ متوسع خلال الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الوقت فصاعدًا، ركّز على العلاقات بين العلم والقيم الإنسانية. عندما قال أحدهم لزيلارد في رفقة برونوفسكي أن تفجيري هيروشيما وناجازاكي كانا مأساة علمية، رد زيلارد بصرامة بأن ذلك خاطئ: لقد كانا مأساة إنسانية.
كان هذا هو الدرس الذي قدمه برونوفسكي قبل حوالي أربعين عامًا لطفل يبلغ من العمر ثلاثة عشر عامًا. ولأنني رجل تقليدي قليلاً، فقد كافئت نفسي في عيد الميلاد الماضي بمجموعة أقراص DVD فاخرة للسلسلة الوثائقية “ارتقاء الإنسان”. أشاهدها حاليًا مع ابني الذي يبلغ عشرة أعوام. يجب أن اعترف أن هذه المجموعة لا تُنافس في الواقع لعبة كاندي كرش Candy Crush وألعاب الفيديو الأخرى المتنوعة خاصته، لكنه يُبدي بعض الاهتمام بها، أو على الأقل فإنه يتقبّل حماسي. وبالطبع فإن البدء في تعلم هذا التقبّل هو كل ما في الأمر.
الكاتب: سايمون كريتشلي هو أستاذ هانس جوناس للفلسفة في المدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في مدينة نيويورك ومؤلف العديد من الكتب، التي تتضمن “إيمان غير المؤمنين”، ومع جاميسون وبستر “ابق أيها الوهم! عقيدة الضيعة” وهو وسيط هذه السلسلة.
المترجمة: باحثة دكتوراه في الأدب. عضوة في جمعية الفلسفة، ونشرت لها الجمعية عدة ترجمات.
The Dangers of Certainty: A Lesson from Auschwitz
Simon Critchley
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”