تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١١ سبتمبر ٢٠١٧
كثرة منا هذه الأيام لن تختار العيش في الحاضر، في زمن الخوف، والأزمات المستمرة، والاضطرابات السياسية. لن يعني ذلك أن المستقبل يبدو جيداً، إذ يُحيطه التقدم التكنولوجي الذي يهدد بانتشار البطالة ومخاطر الكوارث المناخية. ولا عجب أن يغري ذلك بعضهم للحنين إلى الماضي، واللوذ الشغوف به.
يبدو شعار الدعم الذاتي “عش حاضرك” للوهلة الأولى وكأنه شعارًا ملهمًا ولكنه لا ينفك يغدو معناه مبهمًا. فماذا يعني أن نعيش في الحاضر؟ إنها لنصيحة سيئة وضرب من الطيش أن تعيش كل يوم وكأنه يومك الأخير دون تفكير أو تخطيط للمستقبل، كتلك الفكرة المُضللة غير المسؤولة، والقائلة أن بإمكان المرء أن يحصن نفسه من خلال الانعزال عن كل شي بخلاف تلك اللحظة التي يحيا بها الآن.
ومن ناحية أخرى، ثمة تفسير آخر لمفهوم العيش في الحاضر مستوحى من فلسفة أرسطو، والذي قد يساعدنا في مواجهة أزمة الحاضر والأزمات الدائمة في الصراع مع الفشل في الحياة. يحمل شعار الدعم الذاتي السالف ذكره وجه نظر ثاقبة يمكن للفلسفة توضيحها.
تكمن الحكمة هنا في التفكير مليًا فيما نفعله في حياتنا، فنحن نمارس أنواعًا شتى من الأنشطة: نقرأ المقالات في الصحف ونتأمل الحياة من حولنا ونشارك في النقاشات والمعارضات ونُعد التقارير ونستمع إلى الموسيقى ونقود السيارة عائدين إلى منازلنا ونحضّر العشاء ونقضي وقتًا مع العائلة والأصدقاء. مع أن هذه الأنشطة اليومية تستغرق وقتًا، إلا أنها تختلف في كيفية ارتباطها باللحظة الراهنة .
يمكننا الاستعانة بالمصطلحات وعلم اللغويات للتفرقة بين نوعين أساسيين من الأنشطة. هناك ما يُسمى بالأنشطة الغائية – (Telic activities) -والغائية كلمة منسوبة إلى كلمة «الغاية» (باليونانية: تيلوس)- وتعني الأنشطة التي لها هدف وغاية عند انتهائها كمثل أن تقرأ هذه المقالة التي بين يديك الآن أو أن تقود السيارة عائدًا إلى المنزل، فما أن تصل إلى هدفك حتى ينتهي النشاط لأن الغرض من فعله قد تحقق. وهذه الأنشطة يمكنك فعلها مرة ثانية وثالثة ولكن تكون في إطار مكرر فقط لأجل الوصول لنفس الغاية في النهاية. ولكن ليست كل الأنشطة كذلك. فبعضها منزهة عن الغاية (أي أنشطة لا غائية) ولا يحدها هدف نهائي. فمهما تأملت في الحياة أو قضيت أوقاتًأ سعيدة مع أسرتك، فلن تستطع أن تنهي ذلك أو تصل إلى غاية محددة منه، ومع أنك عند لحظة ما ستتوقف بالفعل عن ممارسة تلك الأنشطة ثم تعاود ممارستها مرة أخرى، إلا أنه لن يكن هنالك نقطة نهائية معينة.
ميّز ارسطو بالطريقة ذاتها بين نوعين من النشاط أو البراكسيس praxis وهما العمل المستقرّ الذي هو الفعل energeia والعمل المتعدي المبدع الذي لا يعدو أن يكون حركة kinesis، فالأنشطة الحركية غائية وبالتالي غير مكتملة أي ليس لها نهاية. وكما قال أرسطو في كتابه “مابعد الطبيعة”: “إذا كنت تتعلم شيئًا ما، فأنت لا تُعد قد “تعلمت” بل إنك ما مازلت “تتعلم” فإذا كنت مهتمًا بممارسة الأنشطة الغائية مثل كتابة التقارير ما، أو التخطيط للزواج، أو إعداد العشاء، فإن الشعور بالرضا عن انتهاء نشاطك هذا سيكون إما في الماضي أو المستقبل، لأن الأمر إما لم يُنجز بعد أو أنه قد مضى وأنتهت غايته.
إن النشاطات الغائية قابلة للنفاد والانتهاء، بل إنها تسعى نحو نهايتها، وبالتالي فهي تعبر عن عدم الألفة والاستمرارية والفناء الذاتي، ونحن حين نركز انتباهنا على هذه النشاطات ونتابع ممارستها فإننا نهدف بذلك إلى إتمامها والتخلص منها.
أما الأنشطة اللاغائية، وحين نعطي تعريفا لهذه الأنشطة قد نؤكد على كونها غير قابلة للفناء أو النفاد، بل إنها في الواقع لا تسعى إلى هدف نهائي. لكننا نستطيع أيضاً أن نؤكد كما أرسطو على كونها مدركة بالكامل في الحاضر: “فإن المرء في الوقت ذاته يكون قد مارس الفعل ويمارسه أي “يفعل” الفعل “وفعله” أي مثلا “يرى” “ورأى” “يفهم” و”فهم” “يفكر” و “فكر” “. وما من أمر يمكنك فعله من أجل ممارسة نشاط لا غائي باستثناء ما تفعله الآن. إن كان ما تهتم به ينعكس على حياتك، وما تقضيه من وقت مع العائلة أو الأصدقاء هو ما تفعله الآن به، فإن ما من مسار معين تسلكه كي تصل إلى نهاية أو غاية فأنت بالفعل تمارس النشاط أو الفعل في الوقت الحاضر فقط .
ما معنى أن تعيش في الحاضر إذن، وماذا نجني من وراء ذلك؟
أن تعيش في الحاضر يعني أن تقدّر قيمة الأنشطة اللاغائية مثل المشي، والاستماع للموسيقى، وقضاء الوقت مع العائلة أو الأصدقاء. لكي تنخرط في هذه الأنشطة عليك ألا تعزلها عن حياتك، فقيمتها ليست مرتهنة بالمستقبل أو مستودعة في الماضي، وإنما مدركة الآن وهنا. أن تهتم بمخاض ما تقوم به، لا المشروعات التي تنوي إتمامها.
من السهل إساءة فهم هذه النصيحة، فأن تعيش في الحاضر لا يعني أن تنكر قيمة الغائية وأن تصنع فارقاً في العالم، ولا أن نتجنب ما يماثلها من أنشطة، فإساءة الفهم هذه خطأ شنيع. لكن إن كان للمشروعات قيمة لدينا فإن حياتنا تصبح مستهلكة وتسعى إلى عزل منابع المعنى. أن تعيش في الحاضر يعني أن ترفض الاستثمار المغالي في المشاريع والإنجازات والنتائج التي لا ترى أية قيمة أصيلة في سيرورتنا.
أن تعيش في الحاضر لا يعني أن تتجنب العمل الشاق والكفاح، فبجانب مشروعات عملك التي تستحوذ عليك، أو حياتك المهنية، أو النشاطات الغائية الهامة بالنسبة لك، هنالك الأنشطة اللاغائية التي تجعلك تحتج على الظلم وتقوم بعملك. أن تثمّن سيرورتك لا يعني أن تهجر عملك والتزامك المهني، لهذا فإن العيش في الحاضر ليس استلاباً للمسؤولية الأخلاقية، وليس وصفة جاهزة للانعزال.
أن تركز على النشاط الغائي يعني أن تركز ملياً على بُعد وهشاشة أهدافنا: توفير الرعاية الصحية للجميع، ووقف سياسة استعلاء البيض على غيرهم، وتقليل الاحتباس الحراري لدرجتين مئويتين. إذا كانت النتائج هامة فكذلك هي السلوكيات التي ترمي إليها. إن الغرض من الاحتجاجات السياسية في أمريكا هو تغيير العالم، وسيرورة ذلك هامة هي الأخرى. وإن قيمة الوقوف في صف الحق، وكذلك الإضراب عن الظلم، والمسير في الشوارع، لهي أمور لا تُفنى لأن آثارها ذات قيمة، ولا تلغى أهميتها حين فشلها. إننا نحتج على الظلم لأننا لا نجد وسيلة أخرى لإحداث التغيير، ولكي نجعل الحاضر يعدنا بشيء ما، بغض النظر عما يحمله المستقبل.
الكاتب: كيران سيتيا أستاذ جامعي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومؤلف كتاب “منتصف العمر: مرشد فلسفي”.
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
The Problem of Living in the Present
Kieran Setiya
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”