تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١ يناير ٢٠١٢
نحن نعيش في الزمن. في أيام مثل هذا اليوم (أي في أول أيام السنة الجديدة)، عندما نجد أنفسنا ننتقل من نهاية سنة تقويمية إلى أخرى دون أي مجهود أو نية، ربما تصبح هذه الملحوظة واضحة بشكل خاص.
حياتنا زمنية. والزمن يسير ومعه تسير حياتنا. إن الزمن الذي ينحلّ في الأشياء والعمليات والأحداث كطريقة لصيرورتها، هو الوسيلة التي تمكّن كل كائن من الوجود والتطوّر. ومع ذلك، فإن الزمن مُهلك أيضًا. وتعني قوته أن كل شيء، بما في ذلك أنفسنا، عابر وموْقُوت ولابد أن يصل إلى نهاية لا رجعة فيها.
حاول الكثير من الفلاسفة إيضاح معنى أن تكون ليس زمنيًا فحسب، بل مدركًا للذات على هذا النحو. كيف يجب أن نفسر واقعة زمانِيـتُنا؟ إحدى الإجابات تتمثل في أن السؤال غير مثير للاهتمام أو حتى أنه مبتذل. إنه ينطوي ببساطة على العيش مع زمن الساعة، وهو نوع الزمن الذي يعتبره العلماء كأمر مسلم به عند دراسة الطبيعة والتي نتتبعها باستمرار باستخدام ساعة اليد والتقويم.
إذن هل مر الزمن؟ هل تكبر؟ هذا يعني فقط أن عددًا معينًا من اللحظات المتجانسة (الثواني والدقائق والساعات وما إلى ذلك) قد خلفت بعضها البعض بأسلوب خطّي: تيك، توك، تيك، توك… انظر الآن في المرآة!
على الأقل منذ دخول ساعة الجيب في القرن السادس عشر والتي جلبت معها قياس الزمن الدقيق إلى الحياة اليومية، وجد الإنسان الحديث نفسه محاط بشكل متزايد في بيئة زمنية قابلة للحساب والقياس. فنحن نقيس وننظم الزمن كما لم نفعل من قبل، ونقلق بشأن عدم “فقدان” الوقت أو “إهداره”، كما لو كان مادة متناهية أو حاوية يجب علينا محاولة حشوها بأكبر عدد ممكن من التجارب الجيدة.
زمن ساعة اليد هو زمن حياتنا الحديثة المزدحمة والمنسقة والمترابطة للغاية. وهو زمن التخطيط والتحكم وتحديد الأهداف وتحقيقها بأكثر الطرق كفاءة. فنحن نتحرك من خلال هذا الزمن بنفس الطريقة التي نقود بها السيارة: نحسب المسافة المقطوعة بينما ننسق حركتنا مع حركة السائقين الآخرين، مرورًا ببيئة قد لا تكون مهمة بشكل خاص، والتي ستكون مرئية في المرآة قريبًا.
لا يمكننا تصور المجتمع الحديث من دون زمن الساعة. مع ظهور الكرونومتر جاءت زيادة هائلة في الانضباط والكفاءة والسرعة الاجتماعية، مما أدى إلى تحويل كل مؤسسة ومسعى بشري. المصنع، المكتب، النقل، الأعمال التجارية وتدفق المعلومات، في الواقع كل ما نقوم به ونرتبط به تقريبًا هو إلى حد ما تتحكم فيه الساعة.
لم يكن الأمر هكذا دائمًا. ففي قرية من القرون الوسطى، لم يبدأ اليوم بصافرة المنبه، ولكن مع تغريد الطيور تدريجيًا ومع الضوء الذي يبدأ بالتسلل ببطء من خلال النوافذ. عندما لعبت مراقبة الدورات الطبيعية دورًا أكبر في وعي الناس بالزمانية، كان التغير “أكثر ليونة” وأقل دقة في الحساب، ومرتبط ارتباطًا وثيقًا بإحساس بإيقاع أكثر مرونة وأوسع نطاقًا. وعلى الأرجح يمكن لسكان قرية من القرون الوسطى مقارنة زمن ما تحت القمر مع رؤية للأبدية أو “زمن أسمى” حيث يسمح للروح بالمشاركة في مرتبة أسمى من الوجود.
إذن ماذا عن كل هذا؟ هذا الاستعباد لحياتنا وربطها بزمن الساعة؟ على الرغم من اعتمادنا المتزايد على القياس الميكانيكي للزمن لتنظيم حياتنا، يجد الكثير منا بأن جزءًا منا يقاومه. نجده يحاصرنا وربما نجده صارمًا للغاية بشكل لا يناسب حالاتنا الطبيعية وإننا نتوق للهيكل الأكثر مرونة من قرية تنتمي للقرون الوسطى (بالطبع، مع الاحتفاظ بوسائل الراحة الحديثة والتقدم في الطبي).
ما الذي يكمن وراء هذه المقاومة؟ إن إطار الزمن الحديث يجلب شكلين من عدم الرضا. أولاً، إنه يفاقم ويكثف إحساسنا بسرعة الزوال. إذا فُهم الزمان على أنه تتابع من اللحظات المنفصلة، سنقول بدقيق العبارة أن تجربتنا ستكون تجربة خسارة دائمة: كل لحظة، وكل وحدة زمنية هي مجرد انتقال مما لم يكن بعد إلى ما لن يكون مرة أخرى أبدًا، وهذا الانتقال بنفسه لن يدوم، ولكن سيكون ببساطة حدّ بين المستقبل والحاضر. يقول الفيلسوف شوبنهاور في الزمن أن “كل لحظة هي فقط بقدر ما محقت والدها (وهو اللحظة السابقة)، ومرة أخرى تمحق ذاتها بنفس السرعة. الماضي والمستقبل (…) فارغان وغير حقيقين مثل أي حلم؛ ولكن الحاضر ليس سوى الحد بين الاثنين وليس له امتداد ولا مدة”.
استجابة لهذا الشعور بالزوال، يلقي شوبنهاور بيأس مفهوم خلاصي للجمال، بصفته قادر على تعليق إدراكنا الزمني الطبيعي. يدعي أن التجربة الجمالية تسحبنا إلى ما هو متجاوز لخضوعنا الطبيعي للتعاقب الزمني. ويمكن أن يكون غروب الشمس أو الرباعية الوترية لبيتهوفين ساحرتان لدرجة أننا نجد أنفسنا تائهين في الجوهر الثابت الذي تقدمانه لنا. مهما كانت مزايا هذا الرأي، فإنه يعدُ فقط بالراحة المؤقتة. وعندما ينتهي فعل التسامى من منظور المراقب، حينها سنعود بالضرورة إلى الحياة اليومية.
يخلق الإطار الحديث للزمن أيضًا مشكلة المعنى الوجودي. “الآن” الذي ينتمي لزمن الساعة هو عرضي. إنه محايد فيما يتعلق بنوع المعنى التاريخي الراسخ والذي يعتقد المؤرخون والمنظرون الاجتماعيون أنه مهم في مجتمعات ما قبل الحداثة. لماذا أنا موجود الآن؟ ماذا علي أن أفعل بنفسي في عالم يبدو أنه محروم من المعنى العميق للجماعة؟ انطلاقا من فكرة أن ما كان مقضيّا كان صحيحًا وبفعل سلطة مقدسة، وربما هو أمر ألهي، يتجه ال الإنسان المعاصر إلى المستقبل مستغن عن إرثه التاريخي. اللحظة هناك تنتظر من يغتنمها. ونحن رواد الأعمال والمستهلكون في المجتمع السائل وسريع الحركة، ننظر إلى الأمام وليس إلى الوراء، إلى الجديد بدلًا من القديم، وبينما تفتح مساحة شاسعة من الابتكار والتغيير المحتمل، حينها يبدو أننا فقدنا الإحساس بالمعنى الذي لا يرقى إليه الشك والذي يبدو أن أولئك الذين سبقونا كانوا يمتلكونه بوفرة.
تحتوي الفلسفة الحديثة وخاصة القارية منها على الكثير من المحاولات لتشخيص هذا الوضع وعلاجه. بعضهم يأمَّل – شوبنهاور من بينهم – أن تتمكن الفلسفة من تحديد طرق قد نهرب بها من الإطار الحديث للزمان كُلّية. وحاول آخرون مثل هايدغر إظهار أن زمن الساعة ليس شيءً جوهري كما نعتقد في كثير من الأحيان. بالإضافة إلى الزمن الموضوعي للساعة، يجادل بعضهم بأن هناك طابع زمني وجداني خاص بالتجربة الإنسانية التي على الرغم من تجاهلها في كثير من الأحيان، إلا أنها تستحق أن تستكشف وتُحلل. إذا كان الأمر كذلك، فليس من الواضح لماذا يجب أن يكون زمان الساعة دائما هو النمط المفضل عندنا للتأويل الذاتي الزمني. ربما علينا أن ندرك التوتر في الإنسان بين الحاجة لزمن الساعة وتلك الزمانيات الأخرى، وبين الساعة أو التقويم والحياة كما نعيشها.
لعدة أسباب تبدو فكرة الهرب غير واعدة. إذ كيف يمكننا الفرار من زمن الساعة؟ إلى أين سنذهب؟ إذا كان الجواب هو مجتمع ما قبل الحداثة أو مجتمع لا حداثي حيث يعيش الناس بسعادة من دون ساعات، إذن فمن المؤكد أننا لا نستطيع تصور ذلك كخطة للمجتمع ككل. لا يزال هناك قلّة من هذه المجتمعات إن كان هناك أية منها، والتغييرات الضرورية لهذا التحول لن تكون مقبولة على ضوء اهتمامنا في التمتع بنعم الحضارة الصناعية والمنظمة تنظيمًا متقن. إذا كانت الإجابة تتوقف على نوع من النجاة الفردية – ربما، كما هو الحال عند شوبنهاور، الفرار إلى عالم الجوهر المحض الأبدي – إذن ينبغي على المرء إثبات أن شيئًا كهذا ممكن بالفعل. هل من المنطقي تصور تجربة بلا زمن؟ ربما لا. فالتجربة زمانية بالضرورة. وهل يمكن أن يكون هناك ملاذًا زائف من زمن الساعة؟ ربما. يتبادر إلى أذهاننا إدمان الهيروين وألعاب الفيديو.
وبالتالي نعود إلى البديل الأول – البديل الذي ينطوي على إعادة التفكير في الزمانية. نعم، هناك زمن الساعة، ولكن بالإضافة إلى ذلك هناك أزمنة أخرى وأقل انضباطًا. لا شك بأن هناك أزمنة للجسد والطبيعة والنفس. وعلى الأقل تتبع هذه بعض الإيقاعات المعينة البيولوجية والكوزمولوجية والنفسية، وغالبًا ما تنطوي على أنماط متصورة من الولادة أو الخلق، والنمو، والاضمحلال، والتجديد. مع ذلك، وبنفس القدر من الأهمية، فإن الطريقة التي نأوِّلَ بها أنفسنا وعلاقتنا مع الآخرين تتشكل بعمق من خلال أشكالها الزمانية. فنحن ببساطة لا نعيش في “الآن” المتقلبة لشوبنهاور. بدلاً من ذلك، ننظر إلى حياة الإنسان كمفاوضات مستمرة ومعقدة للغاية من الالتزامات والذكريات القائمة مع المطالب والتوقعات المستقبلية.
أعاد صديقي السيارة التي استعارها بالأمس. أفهم فعله هذا وأؤُّله بالنظر إليه كوفاء بالوعد. والفكرة المعقولة التي أصنعها من هذا التأويل مبنية على الذاكرة التي لدي عن الوعد وكذلك على معرفتي بالمنوال الذي تخلق به الوعود التزامات تقيّد مخططات الناس وأفعالهم المستقبلية. هناك تفاعل بين التذكر والتوقعات، وبين المعتقدات والاستدلالات وكلها تفتح وتفترض مسبقًا فضاء زماني.
حتى الأشكال المباشرة للوعي تنطوي على مثل هذا التفاعل. نرى الزهور المتفتحة كمظاهر للربيع ونموضعها زمانيًا من خلال استحضار السلسلة المرتبطة بالتغيرات الحولية في الطبيعة من الشتاء إلى الربيع والصيف، وكل هذا يحدث بينما نرى العملية الكلية من حيث مفاهيم مثل التَّجدُّد أو الحياة أو مرور خاطِف للجميل. فنحن نستدعي بعض الاستنتاجات للتأثير على التجربة التي نعيشها مثل تحويل مجرد سلسلة تعاقب الأحداث إلى معنى وشكل.
بهذه الطرق، يبني البشر حياتهم حول السرديات. كما ترغب بعض السرديات في الميل إلى البقاء في مقدمة التزامات المرء وتوجهاته. تشمل هذه أشياء مثل تصورنا الذاتي وعلاقاتنا مع الآخرين. ونادرًا ما نتفكّر في أشياء مثل كيفية تنظيم يومنا. يمكنني تقديم وصف لكيفية تنظيم يومي، ولكن هذا عادة ما يكون لطفل أو شخص لديه معرفة ضئيلة بثقافتي. على النقيض من ذلك، تميل القصص عن علاقاتنا دائمًا إلى أن تكون مسائل للتفكّر والتأمل والمراجعة.
معظم سردياتنا تتشكل اجتماعيًا. أن تصبح مصرفي استثماري أمر ممكن لأن مثل هذه المهن موجودة في مجتمعنا، ولأن هناك طرقًا مشكّلة اجتماعيًا للحصول على هذا المنصب. يمتلك المصرفي الاستثماري سردية ويتعرف عليه بها: فهي إلى حد كبير تحدد هوية هذا الشخص.
ومع ذلك، فإن بعض السرديات عميقة وشخصية، تستند إلى التجربة والالتزامات التي يتعهد بها الأفراد بشكل مستقل عن توقعات المجتمع. هذه هي أنواع السرديات التي يستخدمها الروائيون غالبًا. وهي تلك التي لا تشير فقط إلى ما وراء التسلسل لمجرد زمن الساعة، ولكن لديها القدرة على فتح مناطق وآفاق جديدة للنمو البشري والأصالة. الانقطاع هو الأساس هنا: اللحظة الحاملة خارج التدفق المنتظم للزمن عندما تحدث بعض الأحداث غير المتوقعة ولكنها واعدة أو شاقة بشكل فردي.
نحن بحاجة إلى هذه اللحظات، وينبغي أن نكون منتبهين لها. إنها اللحظات التي تظهر فيها إمكانيات جديدة. تميل السرديات التي تؤطر مثل هذه الأشكال من التعرض للمفاجئ وغير المتوقع إلى الحياد عن البُنى المعيارية والسببية “هذا بسبب ذلك”. سيكون لها فجواتها وإنكساراتها، مما يوضح كيف نصل حقًا تجربة شيء ما بدلاً من مجرد “التحرك من خلاله”. الوقوع في الحب هو أحد هذه السياقات السردية. في حين يمكننا معرفة متى يحدث لنا ذلك، فإن المشاركة التي يتطلبها مفتوحة، تعهُّدية ومحفوفة بالمخاطر وربما مغيّرة للحياة وأحيانًا مخيبة للآمال بعمق.
تجارب مثل هذه تنسف التكرار الفارغ لزمن الساعة القياسي وتوفر لمحات لنوع مختلف ومثير للاهتمام للغاية من الزمانية التي لديها القدرة على استثمار حياتنا بمعنى وإمكانية وإثارة أعظم على الإطلاق مما يمكن أن توفره حياةٌ مقاسة فقط على الشبكة.
الكاتب: أستاذ في الفلسفة في جامعة تمبل. كتابه الأحدث “الفلسفة والزمن من كانط إلى النظرية النقدية” الذي نشرته جامعة كامبريدج.
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
On Modern Time
Espen Hammer
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”