موت الفلسفة وسؤال الموت
عبدالله المطيري
أخبرني أحد الأصدقاء ونحن نتناول وجبة العشاء أن الفلسفة قد ماتت. لم يكن هذا هو التوقيت المناسب لنقل خبر الموت. ولكن يبدو أنه لم يعد خبرا يجهله أحد إلا أنا ربما. حقيقة لم أكن أعرف أن الفلسفة ماتت واستغربت كيف فاتت عليّ واقعة موتها. ولكن الموت عجيب ومذهل ولم يكن يوما موضوعا للمعرفة الإنسانية. كان الموت ولا يزال خارجيا يأتي من بعيد. قد يكون هنا شيء من العزاء يبرر شيئا من جهلي بموت الفلسفة.
الآن كل شيء سيختلف، ربما. يبدو أن الوقت قد فات لتأبين الفلسفة فكلام الصديق يشير إلى أنها ماتت منذ عقود بعد أن قتلها العلم. الآن فقط أنتبه إلى أن الفلسفة ماتت مقتولة. يبدو من كلام الصديق أن ذلك القتل كان طبيعيا. أقصد أنه أمر يشبه التهام الأسد للغزال. الفلسفة الغزال التي ركضت طويلها ولكنها يبدو لم تعد تجد في الوجود متسعا لها. ركضت حتى اللحظة الأخيرة، ماتت وقلبها ينبض بأسرع ما يمكن. يبدو أنني بدأت فعلا في كتابة نعي للفلسفة ولكن هذا مبكر جدا. للتو فقط علمت أن الفلسفة ماتت ولا يجوز لي أن أكتب عنها مباشرة. الموت فراغ يقف بين الإنسان والكلام. يبدو أنني لم أعد أدرك معنى أن تموت الأشياء. هذه الفلسفة بين يدي كنت أعتقد كل هذه السنوات أنها حيّة فيني وأنا حيّ فيها. كنت أعتقد أنني أتنفسها وتتنفسني… هل نتنفس الموتى؟
ما هذا المكان الذي أنا فيه.. قاعة محاضرات الفلسفة.. هل هو بيت للتحنيط أم مقبرة … قد يفسّر هذا الهدوء العميق في هذا المكان .. وربما يفسّر كذلك زيارة الناس في فترات محددة من الشهر.. يأتون لساعة أو ساعتين ثم يرحلون .. ربما هذا هو السبب كذلك لقلق شايع الوقيان ومغادرته السريعة للمكان فهو يخاف من الموت ولا يحب المقابر.
ولكن ما معنى أن تموت الفلسفة؟ ربما معناه أن لم يعد هناك أحد يتفلسف. ولكن الناس يتفلسفون. رأيت عدد ليس بالقليل من الناس يتفلسفون. ربما أن الفلسفة لم تعد تلد الحقيقة وبالتالي فهي ميتة. لا أعتقد لو كان كذلك لقالوا أن الفلسفة أصبحت عقيمة. ليس على العقيم أن يموت. ربما أن المقصود أن الفلسفة لم تعد مرتبطة بالحياة الواقعية ولا فائدة منها. هذا موقف محزن فلماذا نعتقد أن الكائنات التي لا نرى لها فائدة ميتة أو يجب أن تموت.
دعونا نتوقف للحظة. حين أخبرني صديقي أن الفلسفة ماتت لم تكن ملامحه تشير إلى حالة من الحزن بقدر ما كانت تشير إلى شيء من الحرج مني فقط. هل كان يخبرني أنني ميت كذلك؟ أو على الأقل أن اهتمامي بالفلسفة اهتمام بكائن ميت؟ الاهتمام بالموتى عمل عظيم. قلة من الناس يستطيعون إليه سبيلا. غالبنا يتعامل مع الموتى عن بعد رغم أنهم يعيشون معنا بطريقة أخرى. بل يمكنني القول أن بعض الموتى يحضرون أكثر بعد موتهم. حين يخفّ حضورهم المباشر يحضرون كغياب. صدقوني ليس هناك ما يوازي تأثير حضور الغياب.
هذا ملفت جدا فالواقع أن الفلسفة كانت غائبة دائما. الفلسفة دائما هناك كأمنية وكحلم وشغف يمشي أمامنا ولا نستطيع أن نتقدم عليه. الفلسفة لكي لا يغضب علينا صديقي هي الميت الذي يقيم في المستقبل ربما. إذا كانت الفلسفة قد ماتت، فأين قبرها؟ كأنني أسمع صوت صديقي وهو ينادي من مكان بعيد: الكتب. الكتب هي مقابر الفلسفة. عدد كبير من القبور حولي الآن. ولكن أليست كل الكتب قبور؟ الحقيقة أنه كان في يد صاحبي تلك الليلة كتاب قديم أو قبر قديم. هل للقبور تاريخ؟ هل يموت القبر؟ علاقة الناس بالقبور وربما بالكتب مدهشة. حين تشارف أرواحنا على الفراغ نلجأ للقبور والكتب. حين نزور الكتب ونقرأ القبور نتحلى بكثير من الأدب والتواضع. حتى أصواتنا تصبح أكثر رحمة. في حضرة القبور والكتب، نهدأ ونستكين وكأننا في حضرة سموّ ما. سموّ الغياب الذي يحضر في كل شيء.
الآن فقط تذكرت… كان خالد الحسن يخبرني باستمرار أن الفلسفة ماتت. قالها بطرق مختلفة. كان متألما على خلاف صديقي الأول. كنت فقط أناديه ليجلس بجانبي. كنت أطلب منه شيء من الوقت في حضرة الموت. كأنني أقول أن موت الفلسفة لن يغيّر من الأمر شيئا. فالفلسفة لم تكن واقعا حيّا في يوم من الأيام. لا يزال أفلاطون يمشي أمامنا في كثير من القضايا رغم أنه قد مات منذ ألفين وأربعمئة سنة.
الآن فقط تذكرت أن الفلسفة في جوهرها عزاء. هل تذكرون كتاب عزاءات الفلسفة؟ إذا كانت الفلسفة هي من تعطينا العزاء فمن الميّت هنا ومن الحيّ؟ من أين يأتينا العزاء؟ في العزاء نقترب من الموتى ونفكّر فيهم أكثر. هم العزاء وهم الموتى. في الفلسفة عزاء لأنها دائما صوت آخر، صوت مختلف. صوت لنا غاب عنّا. ليس في العزاء تعويض بل هو إعادة اتصال بالفقد. الفلسفة العزاء اتصال جديد وربما ولادة جديدة مع الفقد، مع الزمن ومع الغياب ومع الحضور.
حين أخبرنا الصديق عن موت الفلسفة كان يزيد بدر معنا. لم يكن يزيد متفاجئا أيضا. كان يضحك فهل تصالح مع الموت أم أن الموت أصبح يضحكه؟ ربما كان يزيد يضحك علينا لا على موت الفلسفة. أذكر أننا بدأنا نخطط لشراء سيارة نقل الموتى لنقل ضيوف الفلسفة عليها. يتطلب الأمر كذلك زيّا موحدا يتناسب مع الموت. عاشت الفلسفة رعيان شبابها في اليونان وبالتالي فلا بد أن تكون طقوس عزائها مستوحاة من هناك. أحدنا يكون الحانوتي والآخر يقود السيارة. سيكون عملا هادئا فلا ضجيج في مشاهد الغسل والتكفين. هل يستمع ناقلوا الموتى للموسيقى في طريقهم للمقبرة؟ لا أعلم. ربما يستمعون للصمت في خشوع وربما يتحدثون قليلا عن الميّت ثم يعودون لحياتهم الطبيعية. الحياة الطبيعية هنا ليست خلوا من الموت ولكنها جوار له.
أعلن ستيفن هوكنج أن الفلسفة ميتة في الصفحة الأولى من كتابه التصميم العظيم. ما معنى أن يكون خبر الموت في الصفحة الأولى؟ لا بد أن يكون هو الحدث الأهم في الحكاية. بعد ان استعرض هوكنج عددا من الأسئلة الجوهرية عن الكون والحياة قال أن هذه الأسئلة كانت مهمة الفلسفة ولكن الفلسفة ميتة. لا يقول هوكنج أن الفلسفة ماتت بل يقول أنها ميتة أصلا. لماذا؟ “لأن الفلاسفة لم يتابعوا التطورات الحديثة في العلم خصوصا الفيزياء. العلماء هم من يحملون شعلة الاكتشافات في رحلتنا الحالية من أجل المعرفة” . الفلاسفة هم من قتلوا الفلسفة وليس العلماء كما يقول صحابي. والعلماء هم الفلاسفة الجدد، هم ورثة الفلسفة. هل هذا يعني أن الفلسفة ستعود للحياة؟ توفي هوكنج قبل ثلاث سنوات تقريبا ولا أعلم من قرأ كتابه هذا أكثر الفيزيائيون أم الفلاسة؟ وهل هو علم أم فلسفة؟
لا يبدو لي أن قضية موت الفلسفة هي قضية مع الفلسفة بقدر ما هي قضية مع الموت. ربما أنها تستدعي مراجعة علاقتنا مع الموت أكثر من استدعاء علاقتنا مع الفلسفة. ماذا يعني أن يموت شيء ما؟ ماذا يعني أن يغيب بدون أن نترقّب عودته؟ هل يفتح هذا الحال فرصة للقاء مختلف؟ هذه المرة بلا عبئ التوقعات.