تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
يساعد الشطرنج على الإجابة عن السؤال البشري الخالد: “ماذا يجب أن أفعل بعد ذلك؟”
ربما تكون قد أدركت بالفعل بأنّ حقنا الذي لا يجوز التصرف فيه في السعي وراء السعادة هو هزيمة ذاتية. فقد تكون السعادة معنا في لحظتنا الآنية، تنتظر بفارغ الصبر اعترافنا بالامتنان لوجودها، لكن لا يوجد شيء أقل احتمالاً من أن يجعلنا سعداء من محاولة السعي وراء ذلك. نحن على حق، في هذا المقال، في أن نرغب في السعادة؛ الأمر فحسب هو أن هذه المحاولة الجامحة في مطاردتها تدفع ما يبدو أننا نريده بعيدًا عنا.
لكن من المحتمل أن تكون المعضلة أعمق من ذلك. إذ يلاحظ الكاتب أوليفر بركمان أنه بالنسبة لحضارة مهووسة للغاية على تحقيق السعادة، فإننا بشكلٍ ملحوظ سيئون في ذلك. ويبدو لي أننا قد نريد في الواقع شيئًا مختلفًا تمامًا عن السعادة ولا نعرف ماهيته. هذا، على الأقل، ما علمني إياه الشطرنج – الذي كنت ألعبه منذ أن كنت صبيًا، حتى وصلت إلى مستوى أستاذ دولي كبير.
إذا دخلت في حدث الشطرنج النموذجي الخاص بك ونظرت في أرجاء الغرفة فسترى بشرًا، معظمهم من الذكور، يجلسون في أوضاع منثنية، مفتونين بمعارك القفص الهندسي التي وقعوا فيها. قد نبدو للعالم الخارجي مستغرقين وحتى مبهرين لكن من الواضح أننا لا نشعر بالراحة. إذ ندخل في هذه الحالة بمحض إرادتنا في ظل توتر تنافسي هائل وأدرينالين مرتفع لساعات أحيانًا، ولعقود أحيانًا أخرى.
قد يتخيل المرء أننا نتحمل هذا الضغط الفكري التنافسي كثمنٍ ضروري للنصر الذي ربما يكون جزءًا من السعادة. لكننا من المحتمل أن نخسر بنفس القدر، وهو الأمر الذي يكون دائمًا أكثر إيلامًا من متعة الفوز؛ لذلك إذا كنا نسعى لتحقيق السعادة، سواء من حيث الخطوات العملية أو الوصول إلى النتيجة، فإن الشطرنج لا يبدو وسيلة جيدة لفعل ذلك.
تبدأ في التساؤل كيف تمكنت لعبة الشطرنج من الاستمرار كشاهدٍ صامت لما لا يقلّ عن 1500 عام من تاريخ البشرية؟ كانت الحكمة التقليدية هي مقدمة اللعبة الحديثة التي ازدهرت في شمال الهند في وقت ما بين عامي 531 و 579، في حين أن هناك بعض التواريخ البديلة لهذه البداية. ثمّ تطورت اللعبة من خلال التأثيرات الفارسية والعربية والأوروبية، مع تغييرات طفيفة في أسماء القطع وكيفية تحركها حتى حوالي عام 1640، عندما تأسست قاعدة التبييت واستقرت النسخة الحديثة من الشطرنج في توازنها النهائي. انتشر الشطرنج منذ ذلك الحين، وعلى مدار 400 عام تقريبًا، في جميع أنحاء العالم وأصبح جزءًا لا يتجزأ من الحضارة.
إن الجمع بين التراث العالمي والعمق الخادع والصدى الإستراتيجي والسحر الجمالي يجعل الشطرنج أكثر من مجرد لعبة. أعتقد، في الحقيقة، أن لعبة الشطرنج تحاكي الشروط اللازمة من أجل حياة ذات معنى. إذ تصبح الحياة ذات مغزى أكبر سواء من خلال العمل أو الحب أو الفن، عندما نتحمل المسؤولية عن شيء ما أو شخصٍ ما. فالمسؤولية ليست دائما ممتعة أو حتى إيجابية، لكنها هادفة. إنها تضيف أهمية واتجاهًا للحياة وتساعد في الإجابة عن السؤال البشري الدائم: “ماذا ينبغي أن أفعل؟”. تُعرَّف حياتنا بشكلٍ أعمق بالسر المعروف لموتنا الحتمي، وذلك رغم أنها تتميز بالعديد من الأشياء. ويحاكي الشطرنج معنى الحياة لأنه مواجهة طقسية مع الموت المُقنَّع، حيث نشعر بمسؤولية البقاء على قيد الحياة لحركة واحدة في كل مرة.
هذه اللعبة عبارة عن حرب متصاعدة، ويضطر لاعبو الشطرنج إلى القتل فيها، لكن الفكرة القتالية بالشطرنج تتيح لنا تجربة التحرر الجمالي في ذات الوقت. فكل معركة هي قصة فريدة من نوعها حيث يسعى بطلان إلى تدمير بعضهما البعض، لكن المنطق الأساسي للعبة يبدو جميلاً وصحيحًا؛ وكلما زادت حدة المعركة زاد شعورنا بالقوة والحرية.
فهل هذه سعادة؟ ليست كذلك في أي تعريف تقليدي! يصف بول دولان – الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد – السعادة في أحد أكثر التعريفات المعاصرة وضوحًا بأنها: “الشعور بالمتعة والهدف بمرور الوقت”. ويجسد هذا الكثير من الأشياء المهمة في الحياة، لكن البشر معقدون للغاية، ولا يهدأون، وسوداويون، ومؤذيون ومعتدون دائمًا على أن يشعروا بالراحة بالهدف وحده. ويوضّح كاتب المقالات والمحلل النفسي آدم فيليبس الأمر جيدًا عندما يقول: “إنّ السعادة جيدة كأثر جانبي، لكنها مطلب قاسٍ”.
لا أعتقد أن الشطرنج أكثر من مسار إلى السعادة كطقسٍ نحرر فيه بعضنا البعض من الضغط بأن نكون سعداء.
إنه لمن دواعي الارتياح أن ندرك أن السعادة ليست أهم شيء في الحياة؛ ولكن ما الذي نسعى إليه إذن؟ أفضل تخمين لي – ولا يسعني إلا أن أخمّن – هو أننا نبحث عن الفرح.
الفرح غامض لأننا نرغب فيه كمتعة ولكن لا يمكننا العثور عليه دون ألم. الهدية الأكثر رقة واستمرارية التي قدمها لي الشطرنج هي الوعي بأنه يمكننا أن نشعر بالامتنان للحياة بغض النظر عن السعادة التي تقدمها في أي لحظة. الخسارة مؤلمة لكنها ذات مغزى عميق. والمنافسة ليست ذات قيمة نهائية، لكننا غالبًا ما نكون مفعمين بالحيوية أكثر في تلك المجالات التي يكون فيها الفوز والخسارة منطقيًا.
يعيدنا الشطرنج إلى الأسئلة السرمدية الواردة في أي موقف في الحياة: ما الذي يحدث هنا؟ ما الذي أحاول فعله؟ ما هي خطوتي التالية؟ فنحن عندما نلعب الشطرنج نعيش في الأسئلة المهمة التي لا يمكننا التأكد من الإجابة عليها بشكلٍ صحيح. تثير اللعبة الفرح، بهذا المعنى، كما حدده سي إس لويس في سيرته الذاتية: “رغبة غير مشبعة، التي هي نفسها مرغوبة أكثر من أي إشباعٍ آخر”.
هذا النوع من الفرح هو في صميم تجربة الشطرنج، إذ يتميز الشطرنج به بالشعور بالرغبة المستمرة في جو من الجمال الفكري والمقاومة التنافسية والأخطاء التي لا مفر منها. يقترح لويس أن أي شخص اختبر فرحًا من هذا النوع سيرغب فيه مرةً أخرى، ويشك في أن يرغب أي شخص قد شعر بهذا الإحساس أن يقايضه بجميع الملذات في العالم، وهذا صحيح بالتأكيد بالنسبة للعديد من لاعبي الشطرنج.
يضيف لويس أن الفرح ليس بمقدورنا، وقد يكون على حق. لكن يجعلني ذلك أتساءل عما إذا كان قد لعب الشطرنج من قبل!
الكاتب: جوناثان روسون (@Jonathan_Rowson) أستاذ دولي كبير في الشطرنج، وهو مدير Perspectiva ومؤلف الكتاب المرتقب (The Moves That Matter: A Chess Grandmaster on the Game of Life)، الذي اقتُبِس منه هذا المقال.
المترجمة: أستاذة النقد والأدب المُشارك، وباحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة.
We Don’t Actually Want to Be Happy
Jonathan Rowson
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”