إن كل ما نراه بعدما نستيقظ هو الموت، وكل ما نراه خلال النوم هو النوم.(هيراقليطس)
لو نظر الإله في أنفسنا لما أستطاع أن يرى فيها عمن نتحدث.(فيجنشتين)
المقدمة
تريد هذه المقالة البحث في الحكمة الشهيرة “أعرف نفسك” وإلى ماذا يقودنا السعي الحثيث نحو معرفة الذات. وكما هو بين تشترط هذه الحكمة منذ البداية سؤالا يأخذ بنا إلى تخوم هذه الحكمة: ما الذات؟ إننا ندرك بأن تأريخ الفكر البشري بعامة هو محاولة للإجابة عن هذا السؤال، والذي هو في نظري رأس الحكمة، وعنه يتفرع أكثر الأسئلة قسوة: كيف ينبغي لنا أن نعيش؟عن هذه الأسئلة نشأت مدارس وفلسفات كبرى تريد الظفر بإجابة ما تحدد “طبيعة” الذات أو “ماهيتها” ولأن الأمر أو موضوع المقالة في غاية التشعب فلن نبحث عن كل الأجوبة بل سنكتفي بالأبرز تاريخيا، وعليه قمت بتقسيم هذه الإجوبة إلى قسمين أجدها محطات مفصلية غيرت من رؤيتنا للذات(علما بأن هناك فلسفات لن تذكر هنا لضيق المجال وهي تملك أجوبة بديعة تختلف عن المسارات المعتادة وأعني فلسفة لفيناس وماريون الخ) وهي كالتالي :
ثم وجدت نفسي أسير نحو نقطة محددة وهي : الموت إلا أن معنى هذا اللفظ يختلف بين فلسفة وأخرى وهو ما سيظهر في المقالة لاحقا.
في كتاب “التحولات” لأوفيد يذكر حكاية نرسيس بطريقة ساحرة، بل نلمس من هذا النص علاقة معرفة الذات بالموت:
بدأ منذ ولادته أهلا لأن تحبة ربات الماء سمته “نرسيس”
جاءت تسأل “تيريزياس” إن كانت حياته ستمتد في شيخوخة طويلة
فأجابها العراف، شارح القدر قائلا:
نعم إن لم يعرف نفسه.(أوفيد، 2011، ص152)
حسنا يقول العراف إنه لن يموت ما لم يعرف نفسه فهل معرفة الذات ترحال مبكر للعالم السفلي؟
إذن لنعيد السؤال مجددا كي نلج أفق الأجوبة كما سطرها التأريخ: من أنا؟ من أكون؟ لقد تحدد الإنسان مع أفلاطون بوصفه“حيوان عاقل” وهو ما يعني أننا نشترك مع الحيوان في شيء ونختلف في شيء أخر، إذن أنا أكون كائن عاقل، ولكن ماذا يعني ذلك؟ تأثر أفلاطون بالديانة الأورفية والفيثاغورية حيث أعتبر الجسد سجن للنفس ويجب على الكائن أن يتحرر من قبضة المادة كي يعود إلى أصله الإلهي (طبعا هذه الرؤية لا تختزل لدى حضارة بعينها دون أخرى فنحن نعرف بأن فلسفات الشرق قالت بنفس العقيدة)
وفي محاورة “فيدون“: تتبين ماهية الإنسان بكل وضوح، وأكثر من ذلك نلمس علاقة معرفة الذات بالموت، لذلك سوف نعتمدها هنا. وقبل ذلك الذات لدى أفلاطون مركبة من نفس/جسد وهذا الأخير زائل ومتغير بينما النفس هي من تبقى، وعليه عرفت نفسي أولًا بأني مركب من جزء فاني وعرضي وآخر خالد ولا يتبدل، ومن ثم مهمة الإنسان السعي من أجل الظفر بالنفس على حساب الجسد.
إذن بات الأمر واضحا منذ البداية فالذات هي نفس وجسد ومن أجل بلوغ معرفة الذات عليك أن تتدرب على نفي الجسد وكل ما هو محسوس ومن ثم تلج ملكوت الرب.
ولما كانت النفس ثابتة لا تتبدل فهذا ما يجعل منها خالدة لا تفنى، وهنا نلمس أمرًا في غاية الأهمية أي أن الفيلسوف الأفلاطوني لا يهاب الموت لأنه قد مات سلفًا ويعني ذلك أنه قتل كل ما ينتمي للحس وراح مسافرا نحو الخلود” والواقع أنه يخفى على الآخرين فيما يبدو أن أولئك الذين يحدث ويتعلقون في الفلسفة على الوجه الصحيح لا يزاولون من جانبهم نشاط آخر إلا أن يموتوا وأن يكونوا بالفعل في حالة الموتى“.(أفلاطون،2001،122)
لما كان الموت ليس إلا إنفصال النفس عن الجسد، والفيلسوف ليس إلا ذلك الفرد الذي يقهر جسده وحواسه ومن ثم يصبح ميتا قبل الموت، فكيف بمن كان ميتا أن يخاف من الموت لحظة وقوعه؟ إذن الذات قد تحددت هنا بأنها نفس وجسد وبأنها عاقلة، ومعرفة النفس هنا تعني ضبط الذات وإقتصاد الرغبة، فأن تعرف نفسك أفلاطونيا ذلك يعني أنك تموت.
وسوف يكون الأمر في غاية الوضوح عندما يصدر لنا “بوئثيوس” كتابه (عزاء الفلسفة)
فهذا الذي حكم عليه بالموت يجزع ويخاف حتى تهبط عليه ربة الفلسفة وتشخصه بأنه واقع في “النسيان”
فالمعرفة لدى أفلاطون هي تذكر موطن الروح السابق قبل أن تسجن داخل الجسد، لذلك كل ما قامت به ربة الفلسفة لبوئثيوس هو تذكيره بذاته وقادته نحو “معرفة نفسه“.
ومن ثم تتبين لنا المحاججة الأفلاطونية بشيء من الوضوح: أليس الموت إنفصال النفس عن الجسد؟ ومن ثم فالمعرفة هي الوجه الآخر للموت أو هي الموت بعينه، فالمعرفة الافلاطونية تقوم على إنكار الحس وكل ما يتصل بالجسد،إذن هي موت، ومعرفة الذات تعني أن تموت قبل الموت، وكأننا نموت أكثر من مرة! وهل أختلف الأمر مع الديكارتية؟ لقد بدأ ديكارت كما هو مشهور من الشك بكل شيء، ولما كانت كل المعارف تأتي من الحواس، والحواس تخدع إذن يجب عدم الإطمئنان إليها،وحتى أكثر الأشياء يقينية كجلوسي الآن كاتبا هذه السطور ليس على درجة عالية من اليقين فما يدريني أن هذا ليس حلما؟ وحتى أكثر المعارف يقينا فقد زودت بها من طرف إله، وماذا لو كان هناك شيطان ماكر يضللني في هذا العالم؟ إذن لابد من الشك في كل شيء أو كل ما يمكن أن يوضع تحت مجهر الشك، ومن ثم يخرج ديكارت بالنتيجية المبدئية وهي أن الذي يشك “موجود” أي له وجود وهنا ينتقل السؤال: ما طبيعة هذا الوجود؟ بصياغة تنسجم مع مقالتنا: من أنا؟ لدى ديكارت أنا كائن يفكر أي ماهيتي التفكير وليس الحس أو التغذية أو الإمتداد إلخ،
ومن ثم تبين بأن الأنا هنا تجتر البنية الأفلاطونية من جهة أن النفس متميزة عن الجسد بشكل مطلق، مما يعني أن “أناك” أو “أنا” أكون كائن يفكر، أي أنا أموت كي أكون.
في رواية هرمان هسة ” نرسيس وغولدموند” يسرد لنا المؤلف ملحمة بطولية تحت عنوان البحث عن الذات، أو بصيغة السؤال: كيف السبيل إلى معرفة الذات؟ ومن أنا في نهاية المطاف؟ تبدأ هذه الرواية بوصف دير يعتزل فيه الرهبان، وفيه يأتي الناس كتلاميذ أو آباء وما إلى ذلك، نرسيس هو ذلك الشاب الحاذق الذي يعرف بواطن النفس وخفايها، وليس من المستغرب أن يأخذ المؤلف هذا الإسم لبعده الرمزي كما تمثل في الأساطير اليونانية، فنرسيس رمز رؤية الذات لذاتها عبر وساطة الآخر أيا كان ذلك المعنى الذي نعطيه لهذا اللفظ الجليل“الآخر” وقبل أن أكمل في عرض هذه اللوحة الفنية لهسة أريد أن أقتبس عبارة لبرديائف تشير إلى هذا المعنى بدقة: “والنرجسية أعمق تأصلا في الأنا الأصلية مما يعتقد الناس عادة فالأنا تبحث عن انعكاسها في مرآة أو في الماء حتى تؤكد وجودها في أنا أخرى“.(نيقولاي برديائف،2018،106)
إذن نرسيس هذا الشاب العبقري سوف يحمل مهمة “تعريف الآخر بذاته” لذلك يأتي لهذا الدير الشاب “غولدموند” تحت وصاية أبيه الغامض، إلا أن نرسيس يخبره بداية بأنهم على طرفي نقيض وليس محل :غولدموند” هنا،
ما يهم أن غولدموند يقرر الهروب من الدير وينفض عن ذاته حلم الرهبنة، وهنا يبدأ الترحال بحثا عن الذات المفقودة، وما يهمني رأسا هنا أن هذه الرحلة ستعلن حربا بين مدرستين أو طريقتين للإجابة عن سؤال كيف لنا أن نعيش، هل نحن أرواح تاهت في طينة الجسد؟ أم أننا جسد ولحم يتصل مع هذا العالم من حيث هو لحم ولحمة؟ الروح أم الجسد؟ بعد أن يعيش غولدموند حياة اللذة في تشرده الدائم يقف متسائلا لا بصوته بل بأصواتنا نحن ” عند النظر من عل من وجهة نظر الله فهل يعتبر هذا النظام والأخلاقيات المنسقين، هذا التخلي عن العالم وعن المتع الحسية، هذا الإنسحاب المتحفظ من الدم والوجل إلى الصلاة والفلسفة أفضل؟“(هسة،2017،352)
إذا ماذا علينا أن نختار الإنسحاب أم التقدم؟ الجسد أم الروح؟ هذا القلق والصراع بين المعسكرين كما لو أنك ترى آلهة الألولمب تتعارك بين السماء والأرض، بين أفروديت وبرومثيوس.
إذن من نحن بالنسبة لإبيقور؟ كما هو معلوم بأن الأبيقورية كالرواقية تقيم تداخلا بين نظام الكون الكلي والذوات الفردية(كوسموس) لذلك تبدأ الفلسفة الأبيقورية من تحديد ماهية الطبيعة ومن ثم تتقدم من أجل الإجابة عن سؤال : من نحن؟ العالم لدى أبيقور مكون من ذرات لامتناهية وخلاء، ومبدأ المعرفة أو مصدرها الأول والأخير “الحس” في هذا النظام المادي لا يوجد محل للروح لذلك ليس الإنسان إلا جسد وغايته القصوى من أجل حياة سعيدة تحقيق اللذة. إذن أنا أكون مجموع ذرات وسط كون فسيح بل متعدد الأكوان وليس هناك كون واحد فقط لدى الأبيقورية، وعليه تعرف ذاتك“نفسك” من خلال تحقيق اللذة والإبتعاد عن الألم، ومن هنا وضع أبيقور في رسالته إلى(مينيسي) جملة من القواعد التي تحقق الغبطة ومنها نحاكي الآلهة في غبطتها وسعادتها الخالدة، وهي كالتالي:
بذلك يتبين بأن هناك شكل آخر للأجابة عن سؤال: من أنا؟
ولا يهمني هنا الدخول في تعقيدات مفهوم اللذة لدى أبيقور بقدر ما أنوي تسجيل هذه المحطة الضرورية التي غيرت طريق الإجابة عن سؤال :من أنا؟ والتي أصبح الموت فيها لا يعني الذوبان في النفس والروح أو المطلق بل الموت فقدان متناهي في عالم المادة حيث لا تجد “الأنا” مسكنا أخيرا تركن إليه كما في الأفلاطونية، وهذا هو الشكل الآخر من الموت.
وهو ما سيصبح جليا مع سبينوزا.لكن قبل أن أنتقل لسبينوزا لنرى غولدموند وهو يعي الفرق بين الموت في اللاتناهي والموت المتناهي حيث يصفه هسة” تخلص من الكفاح القلق الذي طبع أيامه، وانسحب قلبه وعقله من العزلة الخطرة لحرفته،وأضحيا على صلة قرابة مع نظام أرقى مع يقين حرر قلبه، وقاده وكأنه طفل إلى مملكة الرب”.(338)
عند الحديث عن سبينوزا نتذكر مباشرة تلك القرابة التاريخية بين فلسفته وبقية الفلسفات العملية من أبيقورية ورواقية، وغالبا ما يبحث عن التقليد الذي يتصل به سبينوزا إن كان رواقيا أو أبيقوريا، وأكثر الآراء وجاهة أنه قام بعملية تأليف بين الأبيقورية والرواقية، وعلى وجه التحديد حتى لا يكون حديثنا مجرد إجترار نقول بأنه أتفق مع الأبيقورية في أن الإنسان مركب من لذة وألم، أما ما أخذه عن الرواقية فهو بلا شك الإستكانة للقدر والإستسلام لصروف الدهر وتقلباته، وعلى كلا ليس هنا مجال بحث هذه المسألة لذلك نكتفي بهذه الإشارة.
حتى نستطيع الإجابة عن سؤالنا: من نحن؟من أنا؟ من خلال الهدي الإسبينوزي علينا أن نبدأ كما بدا سبينوزا ذاته في الباب الثالث من كتابه الإتيقيا”إن معظم من كتبوا عن الانفعالات وعن سلوك الإنسان في الحياة يبدو كأنهم يعالجون أمورا خارجة عن الطبيعة، لا أمورا تسير وفقا لقوانين الطبيعة العامة،بل يبدو أنهم يتصورون الإنسان في الطبيعة كما لو كان دولة داخل دولة”.(سبينوزا،2009،145) إذن “أنا” جزء من الطبيعة وليس شيئا آخر متفوق مثلا على الطبيعة أو متعاليا عليها، ويعني ذلك أيضا أنه لابد أن نعرف “ماهية الطبيعة” حتى نعرف الإنسان جيدا، لذلك ليس من الغريب أن يبدأ سبينوزا كتابه بالبحث عن “الله أو الطبيعة” ولأن القصد من هذا المقال هو الإجابة عن سؤال : من أنا؟ وكيف أعرف نفسي بنفسي، سوف نقتصر هنا على مفهوم الإنسان عند سبينوزا ومنه سوف يتبين بقية النسق الفلسفي لهذا الفيلسوف كونه في غاية الترابط والإحكام.
لدى سبينوزا نحن كائنات تروم إلى المحافظة على البقاء ونسعى حثيثا إلى كل شيء يزيد من إنفعال اللذة لدينا ويبعد عنا الحزن، وعليه فالإنسان لدى سبينوزا يتحرك أو هو مدفوع بثلاثة إنفعالات فقط ومنها يستنبط سبينوزا بقية الإنفعالات وهي كالتالي:
وعليه فالإنسان جزء من هذه الطبيعة يسير وفق قوانيها ليس إلا، فهو ينزع نحو مصلحته الخاصة، ومن ثم تكون “الأنا” لدى سبينوزا مجرد رغبة تحاول بكل طاقتها المحافظة على وجودها، ولكن كيف “أعرف نفسي” حسب سبينوزا؟
هناك من يجهل ذاته وهم من يعرفون ولا تتشكل لديهم رؤية واضحة ومتميزة عن نظام الأشياء وترابطها، لذلك العارف بنفسه هو من يتأمل وبعلة تامة يتصور نظام الطبيعية الكلي وأنه جزء منه لا أكثر ولا أقل، ولكن الحكيم والشخص العادي يسقطون تحت نير عبودية الإنفعالات وهنا يأتي السؤال: كيف أتخلص من عبودية الإنفعالات؟ للتخلص من هذه الإنفعالات وولوج ملكوت الحرية (علينا أن نحذر بأن مفهوم الحرية لدى سبينوا مختلف عن بقية المذاهب الأخرى) فقط علينا أن نفهم ووجه الطرافة هنا أن سبينوزا يخبرنا بشكل أو بآخر بأنه من أجل الخلاص عليك أن -تعرف نفسك-” فإننا سنحدد علاج الإنفعالات -ذلك الذي يختبره الجميع إلا أنهم لا يعيرونه العناية الكافية ولا يدركونه بوضوح- من خلال معرفة النفس لا غير، وسنستنبط من ذلك كل ما يتعلق بسعادتها”.(سبينوزا،2009،317)
نلاحظ في هذا النص مسألتين: أولا أن العلاج يكمن رأسا بالفهم وثانيا أن الطريق إلى الفهم يتتطلب معرفة للذات، بذلك ندرك بأن معرفة النفس لنفسها يعني الحرية والقضاء على عبودية الإنفعالات، ويحق لنا أن نطرح هذا السؤال: كيف يخلصنا الفهم من العبودية؟ أو ماذا نستخلص من هذا الفهم العميق لقوانين الطبيعة؟ سنشير إلى ذلك على شكل نقاط كالتالي:
نبلغ هنا إلى أصل ما أردنا من هذه المقالة وأعني الموت، فالنسق السبينوزي يمدنا بخيارين، إما الموت على الطريقة الأفلاطونية كما ذكر آنفا أو ذلك الموت المرعب حيث لا تجد “النفس” لها أرض ولا وطن. بقترح سبينوزا من أجل الخيار الأول مفهوم “الحب العقلي لله” فأن تعرف نظام الطبيعة بكل أناقته وتدرك بأنه ثابت لا يتغير فذاك كفيل بأن يخلصك من عبودية الإنفعالات، إننا حسب سبينوزا نرزح تحت وطأة علل قوية تؤثر علينا ومن ثم وجب أن تكون هناك علة أقوى من كل العلل تقضي على هذه العبودية، وهذه العلة هي الله أو الطبيعة، فالحب لدى سبينوزا ” لذة مصحوبة بعلة خارجية” لذلك محبة الله عقليا تحقق للنفس غبطتها الدائمة،بمعنى يقترب مما نسعى إليه منذ بداية المقالة: محبة الله هي موت الذات والتسليم المطلق لقانون الطبيعة، فأن تعرف نفسك يعني أنك تموت بالضرورة. ولكن ماذا لو سلم الإنسان بأنه لا وجود لما هو مطلق وأزلي وثابت مع إقراره بأنه كائن حكم عليه بالرغبة وإنفعالي اللذة والألم؟ إنه كما هو واضح لن يجد غير الموت العدمي وهو وجه كئيب لابد من إنكشافه ما أن تضع قدميك على أرض الوغى حيث يقاتل الجميع تحت رايه”معرفة الذات”.
إتيقيا العبور أو كيف نموت أكثر من مرة:
لقد ظفرنا إلى الآن بشكلين من أشكال الموت: الموت اللامتناهي والموت المتناهي أو الموت الإلهي والموت العدمي، وكان طريقنا في ذلك هو إبراز فلسفتين أو رؤتين للذات البشرية أطلقنا على الأولى الأفلاطونية والثانية الأبيقورية( هنا الأسماء تؤخذ كفاهيم لا أعلام) ولم يكن إختيارنا هذا ضربا من التعسف فكاتب هذه السطور يعي بأن هناك طرق أخرى سعت من أجل الإجابة على هذه الأسئلة المطروحة وهو ما سوف نمر سريعا على ذكرها بعد قليل. ولكن قبل ذلك أريد أن أقول بأن هاتين الرؤيتين قديمة قدم الإنسان ولا أدل على ذلك من العودة إلى نص يعود إلى 4000 آلاف سنة وأعني ملحمة جلجامش، فهذا الطاغية الذي يبحث عن الخلود عبثا يجد في نهاية المطاف بأن الفانين لا خلود لهم إلا من خلال السيرة الحسنة التي تبقى بعد رحيلهم، ولك أن تنظر معي إلى حديث صاحبة الحانة بعد أن رأت جلجامش يبكي فقدان صديقه انكيدو:
فيا صاحبة الحانة وأنا أنظر إلى وجهك،
أيكون في وسعي ألا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟
فاجابت صاحبة الحانة جلجامش قائلة له:
إلى أين تسعى يا جلجامش
إن الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة العظام البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة
أما أنت يا جلجامش فليكن كرشك مملوءا على الدوام
وكن فرحا مبتهجا مساء
واقم الأفراح في كل من أيامك
وارقص والعب مساء نهار
واجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل رأسك واستحم في الماء
ودلل الصغير الذي يمسك بيدك
وافرح الزوجة التي بين أحضانك (جلجامش،160،2009)
إن الصراع الذي نراه في ملحمة جلجامش وكذلك حرب طروادة في “الإلياذة” ليس إلا تجسيدا لهذه المعركة بين ما هو حسي وما هو عقلي أو بين الجسد والروح، لذلك لم يكن عبثا أن أحدد مبدئيا هاتين الرؤيتين في هذه المقالة.
إن إتيقيا العبور لا تريد الفناء في اللاتناهي ومن ثم قهر الجسد وشهواته، ولا تريد أيضا أن تقول بأن الإنسان ما هو إلا إرادة قوة يجري خلف السلطة فحسب، العبور يعني “الإنتقال” من مكان إلى آخر، ونحن نقول “عابر سبيل” أو “حب عابر” أو “الزمان العابر” إذن ثمة تحرك من إلى مما يعني عدم الثبات في نقطة محددة، فعلاقتي مع ” الآخر” علاقة عابرة ليس إلا، ولا تعني هذه العبارة أي حكم أخلاقي كأن نأخذ ما نشاء ونمضي، إنما القصد هو العبور المدفوع بالحيرة، الأمر أشبه بالتنقل دون معرفة تحت أي سماء أكون وفوق أي أرض، ولهذا المعنى قرابة مع أسلوب لدى الرهبنة المسيحية وأعني الراهب السائح الذي يهاجر إلى الهجرة! إذن ما هي إتيقيا العبور؟ ما أخلاقيات العبور؟ حين نلتقي بهذا الآخر العابر فنحن ملزمين بتحديد موقف ما حتى يدخل الآخر في أفقي، لذلك فالعبور يعني التنقل من فرع إلى فرع دون الثبات على أرض ما، وهنا أتذكر ما قاله فوكو بأن الإنسان ليس معقد لأنه كذلك بل لأننا نلج إليه من علوم كثيرة. العبور إذن هو ضرب من الموت المتكرر، أي اللاهوية مع المحافظة على شكل عابر للهوية. وهنا نلمس موتا متناهيا وهو أمر لطالما نظر إليه بأنه أمر فظيع ولا يحتمل، وأن اللاتناهي هو “المثال” الذي يسعى إليه الإنسان، وهذه المسلمة ليست دقيقة بل قلة هم الذين تأملوا فيها. إن التناهي الذي يدفع كل شيء نحو “العبور” هو سر جمال هذا العالم، وهذا المعنى يعبر عنه الإمبراطور الروماني ماركوس” شيء آخر عليك أن تلحظه:أنه حتى النواتج العرضية لما يتم وفقا للطبيعة لا يخلو من فتنة وجاذبية.حين يخبز رغيف على سبيل المثال فلا بد أن تحدث تشققات هنا وهناك ضد ما يقصده الخباز على أن هذه التشققات غير المتعمدة تجذب العين بطريقة ما وتثير الشهية”.(ماركوس أوريليوس،56،2010)
فالتناهي إذن والنص الذي يعبر كالطيف على ظهر الأرض ينبت نبتة الجمال الخالدة، ومن الطريف أن نقتبس هذا الحوار الذي جاء في مسرحية”برومثيوس مغلولا” لإسخولوس حيث إيو التي حكمت عليها هيرا بأن تكون بقرة وبرومثيوس الآلهة الذي خرق قانون زيوس أي بشكل واضح حوار بين الفانين والخالدين:
إيو: أي مكسب لي إذن في أن أحيا؟ ولماذا أتأخر إذن عن الإلقاء بنفسي من فوق هذه الصخرة الوعرة؟ لو سقطت على الأرض لتخلصت من كل آلامي.إن الموت دفعة واحدة أفضل من معاناة الآلام والبؤس في كل يوم.
برومثيوس: ستتعذبين إذن كثيرا إذا تحملت محنتي، إن المصير لا يسمح لي بالموت، والموت وحده هو الذي يستطيع أن يخلصني من مصائبي لكن لا تتجلى لي أية نهاية لنفسي قبل أن يسقط زيوس من سلطانه المطلق.(اسخولوس،1996،204)
إذن من أنا؟ ومن أكون؟ وهل لي نفس خالدة أم أنني مجرد ذرات مادية مصيرها الفناء والعدم؟ هل اللاتناهي الغاية القصوى من العيش؟ماذا عن التناهي هل حكم علينا به وأن مصيرنا الموت بلا عودة؟ هل ثمت عبور آخر غير العبور الدنيوي؟ وهل الذات مكتفية بذاتها كي تعرف نفسها؟ أم أنها بحاجة إلى الآخر؟ وهل هذه الآخرية أو الغيرية ثابتة؟ أم أنها متحركة ومن ثم هي عابرة؟ وهل لابد من الإجابة أصلا؟ قد تكون أناي كما وصفها داروين تشترك مع بقية السلالات الحيوانية؟ أم تراني كائنا مثاليا؟ هل وضعتكم بين إما أو؟ إما الموت الروحي؟ أو الموت العدمي؟ تبقى هذه الأسئلة معلقة في الهواء.
المراجع:
أوفيد(2011) التحولات،ترجمة أدونيس،دار التكوين.سوريا
أفلاطون(2001)محاورة فيدون، ترجمة عزت قرني،دار قباء.القاهرة
هسة،هرمان (2017)نرسيس وغولدموند،ترجمة أسامة منزلجي،مسكلياني.تونس
سبينوزا،باروخ(2009)علم الأخلاق،ترجمة جلال الدين سعيد، المنظمة العربية للترجمة.بيروت
جلجامش(2009)جلجامش،ترجمة طه باقر،الوراق.لندن
أوريليوس،ماركوس(2010)التأملات،ترجمة عادل مصطفى،رؤية.القاهرة
اسخولوس(1996)برومثيوس مغلولا،ترجمة عبدالرحمن بدوي،المؤسسة العربية للدراسات والنشر.بيروت