تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٨ أبريل ٢٠١٩
معلومات وسائل التواصل الاجتماعي المضللة السامة جعلت الأشكال التقليدية للفكاهة غريبة وعديمة الجدوى
باريس – في يناير 2015، بعد وقت قصير من وصولي إلى هنا للعيش وتعليم الفلسفة، اغتال الإرهابيون 12 شخصًا، من بينهم أربعة رسامي كاريكاتير، في هجوم على مكاتب صحيفة تشارلي إيبدو الفرنسية الساخرة. لقد جلبت هذه الحادثة إلى السطح وجهة نظري حول الرقابة التي طالما تمسكت بها وبدا أن هذه الحادثة حفّزتها. أنفقت قدرًا كبيرًا من الطاقة في الأسابيع والأشهر التي أعقبته للدفاع عن الحق المطلق للساخرين في الاستمرار في فعل ما أعتبره عملاً مقدسًا، وانتقدتُ العديد من أصدقائي السابقين، الذين وجدوا أنه من المهم في تلك اللحظة التحدث علنًا ضد إثارة المواضيع الحساسة عند المجتمعات المتدينة، لجبنهم الأخلاقي عن مواجهة العنف العدمي.
بعد الاغتيالات حيث قُتِل الجناة سريعًا بدورهم، بدا أن بقية العام صارت بمثابة محاكمة علنية طويلة للسخرية نفسها. في أبريل، عندما منحت منظمة الكتاب PEN صحيفة تشارلي إيبدو جائزة حرية التعبير، أدان تقدميون أمريكيون القرار بشدة، قائلين إنها تُساعد في دعم أجندة إمبريالية أمريكية، وإن مقتل رسامي الكاريكاتير على أيدي الإرهابيين لن يقلل من الإسلاموفوبيا الضمنية التي ستتفاقم بمكافأة مجلة على رسومها الكاريكاتورية المسيئة.
بشكل عام، فإن أكثر التعبيرات السهلة وغير المهتمة لماهية السخرية وكيفية عملها قد أرضت طرفي الجدل. لقد غاب عن الطرفين، بصورة أخص، أن السخرية هي نوع من الفكاهة التي تعمل من خلال انتحال الشخصية: حيث تقلد أصوات الآخرين، وقد تكرر الأشياء التي يقولونها، باستخدام صوت المرء مع عدم التحدث باسمه. ليس من المستغرب أن يساء فهم هذه الحرفة في كثير من الأحيان، لأنه عندما يقوم الساخرون بعملهم بشكل مقنع، عندما يقتربون جدًا من هدفهم، يكون من السهل سماعهم ليس كموجهين للآراء المعبَر عنها في السخرية فحسب، بل أيضًا يُعتبرون من المدافعين عن هذه الآراء. في مثل هذه اللحظات، يحب النقاد أن يصرحوا بأن الساخر “قد تجاوز حدوده”، بينما سيكون من الأصح القول إن الساخر قام بعمله بشكل جيد للغاية.
اليوم، مع التلوث الذي جلبته التقنيات الجديدة إلى نظام المعلومات لدينا، لم يعد هذا التمييز أمرًا سهلاً. وهذه هي المشكلة الحقيقية، مما يشكل خطر السخرية، ليس لأنها تهزأ وتقلل من شأن التقوى الجديرة بالاحترام، وليس لأنها “تقلل من شأن أحد”، ولكن لأنه أصبح من المستحيل فصلها تمامًا عن المعلومات المضللة السامة التي تحدد عصرنا.
لنرى كيف تغيرت الأمور، دعونا نعود إلى أبعد من هجوم صحيفة تشارلي إيبدو. في عام 2002، أعلن مقال ساخر في صحيفة ذا أونيون The Onion أن “الكونجرس يهدد بمغادرة العاصمة ما لم يتم بناء مبنى الكابيتول الجديد”. من الواضح أن الهدف هنا كان الفرق الرياضية المحترفة الفاسدة التي تبتز البلديات الأمريكية بالتهديد بالمغادرة إذا لم تحصل على نصيب أكبر من الضرائب المحلية. ومع ذلك، فقد انطلى هذا الأمر على محرري صحيفة بيجين إيفنينج نيوز Beijing Evening News، فاعتبروا القصة علامة مباشرة على تراجع الديمقراطية الأمريكية. لا زلت أتذكر نفسي وأنا أتبسم ساخرًا عندما اعترفت نفس الصحيفة الصينية بعد فترة وجيزة بأنها خُدعت. ووبخت الصحيفة أن “بعض الصحف الأمريكية الصغيرة كثيرًا ما تلفق أخبارًا شاذة لخداع الناس بملاحظتها، بهدف جني الأموال”.
اليوم لم تعد منشورات مثل ذا أونيون هي المسؤولة عن انتشار السخرية. كما أنها ليست الرعاية الملطفة لليبراليين التي يقدمها ستيفن كولبير والآخرون الذين يتحدثون في وقت متأخر من الليل، ولا برنامج “ساترداي نايت لايف”، الذي دخل الآن عقده الخامس من الملل. إنها بالأحرى ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي، التي تأتي غالبًا من مصادر غامضة أو مجهولة. ومع المقارنة تبدو جميع مصادر الدعابة الأخرى، بما في ذلك الكوميديين المحترفين، غريبة وعديمة الجدوى.
في أوائل عام 2018، قدم حساب في تويتر يعرف باسم PixelatedBoat ما زعم أنه مقتطف من كتاب عن ترامب كتبه مايكل وولف مؤخرًا بعنوان “Fire and Fury” يقول فيه إنه بعد وصوله إلى البيت الأبيض، اشتكى الرئيس الجديد من أن خيارات القنوات هناك لا تشمل ما أسماه “قناة الغوريلا”. لذلك بدأ الموظفون في نقل برامج الغوريلا الوثائقية من برج مؤقت خارج نافذته، لكنه اشتكى من أنها كانت مملة، وأن الغوريلات لم تكن تتقاتل بما فيه الكفاية. لذا قاموا بتحرير الأفلام الوثائقية وصولاً إلى مشاهد القتال، وعند هذه النقطة تم استرضاء الرئيس الذي جلس على ركبتيه أمام التلفزيون من الصباح حتى الليل.
كانت هذه سخرية ممتازة: قابلة للتصديق بمقدار كافٍ للترفيه، وكأنها حقيقة. لقد صدقتها بنفسي لمدة خمس دقائق، وغضبتُ عندما أدركت أنها كانت كذبة. وتذكرتُ أولئك المسئولين في بكين، وكيف كانت ردة فعلهم سيئة أيضًا عندما شعروا بالخديعة، وأدركت أنهم كانوا على حق.
كان من المفترض أن تصبح قناة الغوريلا مناوشة صغيرة في الحرب الثقافية الأمريكية التي لا تنتهي أبدًا. واتهم بعض اليمينيين حساب PixelatedBoat بأنه قد زاد في الكمية الإجمالية للمعلومات المضللة المتدفقة، وبالتالي لم يكن فعله أقل من مشكلة الأخبار الكاذبة والتحريفات والأباطيل التي أدين اليمين لنشرها في الفترة التي سبقت انتخاب ترامب. أولئك الذين وجهوا هذه التهمة كانوا على حق أيضًا.
طوال فترة محاكمة السخرية في عام 2015، قاومتُ فكرة أن هجاء شخص ما، هو دعاية لشخص آخر. وأصررت على أن السخرية كانت كلامًا يبدو أن له صيغه النحوية الخاصة به، حيث يختلف عن التصريح، مثلما أن التصريح يختلف عن الاستفهام، وبالتالي فهو يخضع لقواعده الخاصة. غير أنني في هذا الحكم، كنت أفكر في الغالب في وسائل الإعلام المطبوعة، مثل صحيفة تشارلي إيبدو التي أعلنت عمليًا عن طبيعتها الساخرة، كنوع من التبري من المسؤولية.
ومع ذلك، بحلول العام التالي، بدأت في ملاحظة الطريقة التي تطمس بها وسائل الإعلام الجديدة الخط الفاصل بين السخرية والدعاية. وأصبحت شخصيات من اليمين المتطرف تعترف الآن بسعادة أن نجاحاتها في الحرب الإعلامية النفسية تعتمد بدقة على عدم قدرة مستهلكي وسائل الإعلام على التمييز بين الصادق والكاذب، وبين العرض الساخر لصلبان النازيين والعرض النزيه.
في الوقت نفسه، كان الذكاء الاصطناعي ينتج بشكل متزايد نصوصًا وصورًا، سواء أكانت سياسية بشكل علني أم لا، إلا أنها ساهمت في الشعور العام بأنه لا يمكننا معرفة الغايات التي يتم من أجلها إنتاج المحتوى الإعلامي. على سبيل المثال، هناك حسابات على فيسبوك لا تفعل شيئًا سوى عرض صور المشاهير مع تسميات مكتوبة بالخطأ، لتخلط بينهم وبين مشاهير آخرين: يخلطون بين بيتي وايت والملكة إليزابيث، وصامويل جاكسون مع كوفي عنان. هل هذه سخرية؟ لا أحد قال هذا. ربما أن من وضع هذه الصور هو الكمبيوتر، ولا يمكن تمييز نوايا الآلات التي ليس لها نوايا، إلا أن تأثيرها التراكمي، على أي حال، هو ما جعل مستهلكي وسائل الإعلام أقل يقينًا من فهمهم للواقع.
تختبئ في الظلال القاتمة وراء هذه الظواهر الجديدة الغريبة، مواقع إباحية بها وجوه مشاهير مركبة على أجساد آخرين، وهناك، أو سيحدث قريبًا، صور مزيفة للسياسيين الذين يقبلون نوعًا آخر من الكسب غير المشروع. وهناك تحريفات على مستوى من الشدة والإثبات، لم يكن من الممكن أن نتخيلها في عام 2002، وكلها يتم إنشاؤها، في النهاية، بهدف لفت الانتباه وكسب المال.
باختصار، لقد جعلتني السنوات القليلة الماضية أرى أن طبيعة ومدى السخرية ليسا سؤالاً بسيطًا كما كنت أتخيل سابقًا. أنا الآن على استعداد للموافقة على أن بعض أنواع التعبير التي قد يقال بأنها سخرية يجب أن تُحظر بالفعل. أقول هذا، ليس من خلال خطة أو اقتراح حول مكان أو كيفية تطبيق هذا الحظر، وإنما أقرّ بشيء لم أفهمه تمامًا حتى جربته بشكل مباشر – وأن أكثر القيم أو المُثُل العزيزة والثابتة يمكن أن تتغير عندما يتغير العالم الذي تشكلت فيه تلك القيم لأول مرة.
أكره أن أضطر لقول هذا، وأشعر أنه مع كونه اعتراف ستحتمه الأزمنة المتغيرة، إلا أنه لا يمكن أن يأتي في وقت أسوأ. جنون 2015 لم يهدأ. ففي مقال مذهل في صحيفة الإندبندنت البريطانية في فبراير، حاول شون أوغرادي Sean O’Grady تأجيج الفتوى التي دامت عقودًا ضد سلمان رشدي بسبب مقالته الساخرة عن حياة محمد في “آيات شيطانية”، فكتب: “يجب حظر كتاب رشدي الطفولي السخيف بموجب قانون مكافحة الكراهية اليوم. إنه ليس بأفضل من الكتابة العنصرية على الجدران وفي محطات الحافلات”. يعترف أوغرادي بفخر أنه لم يقرأ الكتاب مطلقًا، وفي هذا هو تمامًا مثل آية الله الخميني من قبله.
هل اعترافي المتأخر بالحاجة إلى تنظيم السخرية هو اكتشاف غير مقصود لقضية مشتركة مع أمثال أوغرادي؟ أنا بالتأكيد لا آمل ذلك. أوغرادي ينتمي إلى ما يبدو أنه نوع شائع بشكل متزايد من الجبناء الأخلاقيين، ومن خداع الاستبداديين، وهو الأخ الروحي لقتلة تشارلي إيبدو، بينما أحاول فقط الرد على التهديدات الحقيقية للتكنولوجيات التي لم يتم تصورها حتى الآن. أقول لنفسي إن “الآيات الشيطانية” أدب، حيث اللعب الحر للخيال هو قاعدة اللعبة وحق الخالق غير القابل للمصادرة. أما تويتر فهو شيء آخر.
لكن الحقيقة هي أنني لست متأكدًا على الإطلاق من هذا التمييز. الحقيقة هي أن طبيعة السخرية ونطاقها المناسب لا يزالان يمثلان مشكلة هائلة، مشكلة لن يكون من السهل حلها في المستقبل السياسي والتكنولوجي الذي نراه وشيكًا.
الكاتب: أستاذ في تاريخ وفلسفة العلوم في جامعة باريس ٧ دينيس ديدرو، ومؤلف كتاب “اللاعقلانية: تاريخ الجانب المظلم من العقل”.
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
The End of Satire
Justin E.H. Smith
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”