د. معجب الزهراني
سأبدأ هذه المقالة بطرفة فلسفية تليق بمقام نيتشه الذي كان يحب السخرية من كل شيء ومن كل أحد ويعدها ” حكمة العالم ” . الطرفة تدور حول مقولة ” الحقيقة ” التي طالما بحث عنها الفلاسفة واختلفوا حولها . فقديما اعتقد أفلاطون وجماعة المثاليين معه أن الحقائق الكبرى كلها توجد في السماء، وذهب أرسطو إلى أنها في كامنة في منطق الطبيعة متجاية في منطق العقل . وبمجرد أن أكد ديكارت في عصر النهضة أن الحقيقة في الرأس حيث يعمل الفكر، جاء روسو وجماعة الرومانسيين في القرن الثامن عشر ليعلنوا أن القلب هو الموطن الحقيقي لها. وفي القرن التاسع عشر قال ماركس أنها في البطن فرد عليه فرويد أنها في أسفل البطن، ووفي مواضع الرغبة تحديدا . وحاول أنشتاين أن يحل المعضلة فقال إن الحقيقة نسبية دائما من منظور العلم الفيزيائي الدقيق. أما صاحبنا نيتشه فقد ختم المشهد إذ أكد أن الحقيقة غير موجودة أصلا، و” كل الحقائق الكبرى السائدة هي مجرد أوهام نسي الناس أنها كانت كذلك ” !.
هذه الطرفة قد تروى بصيغ متنوعة ، كالحكاية الشعبية تماما ، لكنها مضمونها العام يظل ثابتا وذا هو المهم. فالبحث عن الحقيقة قديم متصل لدى هذا الكائن الذي سمى نفسه ” حيوان عاقل ناطق “. والذين يبحثون عن تجلياتها في الطبيعة لترجمتها نظريا في اللغة هم الحكماء من المفكرين والعلماء الذين يحبون المعرفة بقدر ما يحب الشخص العادي الاستغراق في شؤون حياته اليومية البسيطة المألوفة. لكن الحقيقة تظل كلمة حمالة أوجه ، ولذا ما إن يصيح أحدهم ” وجدتها ” حتى يسمع أصواتا أخرى تشكك في الأمر، وكأن الانشغال الدائم بالبحث عن الشيء ذاته يؤدي إلى تشتته أو حتى إلى فقده بكل بساطة. وإذا كان هناك ما يميز الفكر في العصر الحديث ، وفي مجمل خطاباته ، فهو هذه المفارقة الكبرى التي تتمثل في الوعي بكثرة الحقائق التي يسميها أو يكتشفها أو يختلقها الباحثون يوميا في كل المجالات ، والوعي أيضا ، وفي اللحظة ذاتها ، بأن كل الحقائق سريعا ما تبدو قليلة هشة أمام مجهولات العالم والكون . إنه إذن عصر القلق والشك بامتياز. ولعل نيتشه من أهم الفلاسفة الذين أدركوا هذه المعضلة وأصروا على تأملها والتآلف معها لأن حسمها لم يعد ممكنا لا من قبل الفكر الفلسفي ولا من قبل العلوم الدقيقة التي كلما اجترحت معجزة جديدة أدركت حدها ومحدوديتها. وحين يوصف بأنه فيلسوف عدمي لا تستغرق الصفة من الذات والخطاب سوى ما يطل على السطح من المعنى . فهذا المفكر التراجيدي الكبير ينتمي لسلالة غريبة نسبيا عن السياق الغربي، سلالة تحتفي بحرية الفكر ولا تثق كثيرا في عقل الكائن البشري بمجرد أن يدعي القدرة على إدراك الحقيقة والتعبير عنها بدقة ووضوح ، قولا أو كتابة. فالشك عنده ليس مرحلة فكرية أو خطوة منهاجية تفضي إلى الحقيقة، كما عند ديوجين أو ديكارت ، بل هو مبدأ أصلي متصل يفترض أن يحترم ويؤنسن بمعنى ما . ومن يشك ويتشاءم ليس عدميا أو يائسا بالضرورة ، لأنه قد يكون الأقرب إلى الواقع والأكثر قدرة على تفهم التباسات البشر، و لن يفاجأ أبدا بحماقاتهم حين يفتك أحدهم بالآخر باسم مباديء الحق والخير والعدل ذاتها . نعم، لم يكن نيتشه فيلسوفا أكاديميا محترفا بالمعنى السائد من قبله ومن بعده ، ومع ذلك ، وربما بفضله ،” تمكن من هدم عمارة الفكر الغربي العريق بهزة كتف ” كما قال عنه تلميذه ونظيره الفرنسي الأهم ميشيل فوكو . وهنا أيضا تنتفي مقولة العدمية من وجه آخر لأنه باشر هدم الفكر المعتبر ، أو المهيمن ، من أجل التأسيس للغة فلسفية جديدة مختلفة تخصه بقدر ما تفتح الخطاب على أفق كان غائبا أو مغيبا في السابق. ففي كل نصوصه سنجد المفاهيم والمصطلحات والمقولات تتوارى خلف شبكة كثيفة من الاستعارات والتشبيهات والكنايات أي أننا أمام لغة مجازية تحتفي بالصور المبتكرة الخلاقة ، وهذه هي لغة الشعر بامتياز . ثم إن التراكيب الإنشائية – النحوية عنده تنزع دائما إلى الاختزال والتكثيف كي تستقل كل عبارة بقوامها البلاغي ودلالاتها الفكرية الخاصة. هنا تحديدا نطل على مرجعات بعيدة متنوعة لهذه اللغة الشعريه التي تترجم عن العواطف والمشاعر فيما هي تستحضر الفكر وتعلنه مشعا وملتبسا في الوقت ذاته . فأسلوب الشذرات المكثفة و اللمع الخاطفة سنجده ظاهرة بارزة في أساليب القول والكتابة الخاصة ببعض الشعراء المتصوفة الذين يؤمنون بمبدأ ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ” ، وعند حكماء الهند والصين وفارس ، ولدى شعراء الهايكو في جزر الشمس المشرقة (اليابان ) . وليس غريبا أن يتخذ نيتشه شخصية ” زرادشت ” قناعا وقرينا لواحد من أهم كتبه التي مارس من خلالها لعبة الهدم الساخرة المرحة للعقلانية الغربية القديمة والحديثة، وقبل جاك دريدا بعقود ، ونعني كتابه الشهير( هكذا تكلم زرادشت ). هناك وهم آخر شاع عن هذا المفكر ويتعلق بعدائه للدين وإعلانه ” موت الإله ” . فالحقيقة أن نيتشه كان خصما عنيدا للمسيحية الكنسية الطغيانية التي تنكرت لمبادئي المسيحية الأولى ، وادعى ممثلوها حق تمثيل الحقيقة المقدسة دون غيرهم ، وبرروا مختلف أشكال الاستعمار منذ فتح أمريكا إلى فتك أمريكا بعالم اليوم . وإذن فالأمر يتعلق بلعبة دنيوية بشرية تستعمل ، وتستغل ، مشاعر التدين الشعبي لخدمة فئات وطبقات متنفذة لم تكن تؤمن في الواقع بغير مصالحها الخاصة. بل إن كتاباته عن الحروب الصليبية كانت مبادرة شجاعة لكشف جذور هذه اللعبة المتصلة، اما المسيح ذاته فقد مثل عنده شخصية تراجيدية ظل يجلها طوال حياته. ولعل الخلاصة الأهم التي توصل إليها هذا المفكر القلق المشائم المريض جسدا ونفسا أن مبدأ القوة هو الذي يتحكم في التاريخ ويوجه البشر، وكل ما يقال بعد ذلك وهم أو مكر وتمويه. ودعوته إلى الإنسان المتعالي – السوبرمان- هي دعوة إلى ذلك الكائن الذي يسمو بقوة الروح الخلاق لا بقوة البدن والسلاح ، وبالتالي فليس للفكرة ، أو الأطروحة ، علاقة بحماقات النزعة القومية الفاشية التي انتشرت في ألمانيا وأدت إلى سقوطها المروع مرتين متتاليتين في أقل من عقدين . وأقوى دليل على وجاهة ما نذهب إليه أن نيتشه كان يواصل تنمية أطروحة هيجلية مفادها أن مظاهر الضعف في أخلاقيات الأفراد وسلوكهم ليست سوى أثر كئيب لهيمنة لغات التسلط والقمع التي عاناها البشر منذ القدم ولا تزال تحول شعوبا كاملة إلى عبيد مستلبي العقل والإرادة . وأظن هيدجر كان يعود إلى الأطروحة ذاتها ، وإن بطريقته مختلفة طبعا ، حينما ذهب إلى أن اللغة ، التي هي بيت الكائن ومسكنه، كانت في الأصل لغة خيال وفكر وشعر في الوقت ذاته، والفصل بينهما يفقد الكينونة جزءا جوهريا من معناها الوجودي والتاريخي (وقد اتهم هو الآخر بتبرير النازية والتنظير لها كنيتشة من قبل كما نعلم !) . كل هذا يعني أن نيتشه مثل حقبة فلسفية جديدة مختلفة تتسع مرجعياتها لتشمل عالما طالما أقصاه وأهمله الفكر الغربي المتمركز حول ذاته وثقافته ، وهنا تكمن أهميته بالنسبة للمفكرين من خارج هذا السياق وأنساقه الثقافية.
بقيت في النفس حكاية لا تقل طرافة عن تلك الحكاية الأستهلالية ، وأنتهي بها لأنها قد تصلح مدخلا لبحث فلسفي مهم لا يزال ينتظر من ينجزه كما سيلاحظ . ففي أواسط الثمانينات كنت أقابل المفكر المصري المعروف عبدالرحمن بدوي في المكتبة الوطنية بباريس كل يوم تقريبا. ونظرا لكونه بخيلا بماله ، وسخيا بالعلم والفكر كل السخاء فقد كنا نفوز بما نشتهي من الوقت معه بمجر دعوته على قهوة أو طعام بسيط في المقهى المقابل للمكتبة . وكنت أحرص على اللقاء به لأن كتابه السيري بعنوان ” الحور والنور ” كان ضمن المتن السردي الذي اشتغل عليه في أطروحتي للدكتوراه عن صورة الغرب في الرواية العربية الحديثة . وذات يوم تشعب بنا الحديث فقلت له إنني أجد علاقة تشاكل قوية فيما بين أسلوب نيتشه وأسلوب مفكرنا المنسي عبدالله القصيمي ، وفيما بعد “هذه هي الأغلال” تحديدا . بناء عليه كنت أتساءل إن كان هذا المثقف قد اطلع على نيتشه وتأثر به وهو القادم من قلب جزيرة العرب، ولم يدرس في الغرب، ولم يكن يتقن لغات أجنبية فيما أعلم .. فماذا قال لي ذلك العلامة؟. لقد قال ما معناه إنه لم يكن يترجم شيئا لنيتشه إلا وكان القصيمي أول من يقرؤه ويعيده إليه ويناقشه فيه بكل جدية وعمق . ولم يزد لأنني لم أكن لأطلب المزيد !.