تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٣٠ أكتوبر ٢٠١٩
الافتقار إلى الخيال الأخلاقي يمكن أن يجعل الأفعال الأخلاقية العميقة تبدو وكأنها جرائم.
كتب د.مارتن لوثر كينغ جونيور “رسالة من سجن برمنجهام” ردًّا على مجموعة من رجال الدين “البيض المعتدلين” الذين ادعوا أنهم يدعمون حركة الحقوق المدنية – لكنهم وصفوا نشاط دكتور كينغ في ذات الوقت بأنه “يفتقر إلى الحكمة وأنه في غير محله”. لم يكن نشطاء الحقوق المدنية، في نظر هؤلاء المعتدلين، خصومًا شجعانًا لمجتمعٍ ظالمٍ بفظاعة، لكن “محرضين خارجيين” متمردين على القانون يهددون هدوء الوضع الراهن؛ وهكذا، فقد أدانوا هؤلاء النشطاء، بدلاً من الثناء عليهم، وألقوا اللوم عليهم في اندلاع العنف بسبب مقاومتهم لقوانين جيم كرو بدلاً من لوم القوانين نفسها.
قدم الدكتور كينغ، في ردّه على دعوات المعتدلين للتغيير البطيء والتدريجي، ادعاءً استفزازيًا: إذ ناقش أن هؤلاء المعتدلين البيض يشكلون تهديدًا محتملاً أكبر من أعضاء كو كلوكس كلان (KKK منظمة عنصرية غربية). إذ كان “سوء النية” من دعاة الفصل العنصري المتطرفين أمرٌ مكشوف على الملأ ويمكن بالتالي مكافحته، بينما كان “الفهم الضحل من ذوي النوايا الحسنة” يهدّد بإضعاف حركة الحقوق المدنية عبر قبول وضع قائم لا يُطاق؛ وربما كان الاعتدال في مواجهة الظلم، في رأي كينغ، يشكّل مشكلة أسوأ من الظلم نفسه.
نجد أنفسنا، الآن بعد نصف قرن من ذلك الأمر، في أزمة مماثلة محليًا وعالميًا، ربما أكثر انقسامًا من أي وقتٍ مضى. إذ يواجه أولئك الذين يكافحون انعدام المساواة، والتمييز على أساس الجنس، والعنصرية، وكراهية الأجانب معارضةً رجعية راسخة ومشجعة على نحوٍ متزايد. ويكمن بين الطرفين المعادِل الحالي لـ “الأبيض المعتدل” في زمن الدكتور كينغ. وهؤلاء المعتدلون، بسلطتهم السياسية الضخمة وتوقهم إلى وضعٍ راهن مفقود، يمثلون بالمثل تهديدًا للتقدّم أكثر من المتطرّفين.
لا يُعتبرَ المعتدل في وقتنا الحالي بشكل عام، كما كان في الماضي، ضحية المظالم المعاصرة. صحيحٌ أن العديد من المعتدلين يعترفون بوجود هذه المظالم، إلا أن راحتهم النسبية تتيح لهم رفاهية إنكار خطورة هذه المظالم. فقد ظهرت في الولايات المتحدة سيلٌ من السياسات والحركات التي تعِد بالمساعدة في التخفيف من هذه المشكلات – مثل الرعاية الطبية للجميع، وإلغاء ديون الطلاب، وإلغاء قوانين الهجرة والجمارك، والصفقة الخضراء الجديدة، وحركة حياة السود مهمة (Black Lives Matter) وحركة أنا أيضًا (#MeToo). ولكن المعتدلين اليوم، كما كان الحال في زمن الدكتور كينغ، يتشدقون فقط بالأهداف العامة لهذه السياسات والحركات بينما يدينون أيضًا جموحها. إذ يبدو هذا الجموح، بالنسبة لهم، فيما يتعلق باحتمالية إطاحته بوضعهم الراهن المريح، تهديدًا أكبر من الظلم الذي يهدف إلى معالجته.
إن المشكلة التي كان يواجهها الدكتور كينغ كما فهم – وهي التي نواجهها الآن مرة أخرى – هي مشكلة الخيال الأخلاقي. فقد يكون لدى المعتدلين “النوايا الحسنة” التي تقودهم إلى الاعتراف بالظلم، لكن اعتدالهم ذاته يشير إلى “فهم سطحيّ” يخلو من فهم آلام أولئك الذين يعانون حاليًا. الظلم، من وجهة نظر هؤلاء المعتدلين شأنٌ أجنبي ومشكلة مجردة يجب علاجها؛ وبالتالي فإن استجابتهم تفتقر إلى الإلحاح الذي قد يجلبه التفهّم الحقيقي؛ وتعلّم هؤلاء كيفية توسيع عالمهم الأخلاقي – أي تعلّم كيفية تحويل الخصوم إلى حلفاء – مشكلة ملحّة كما كانت دائمًا.
تناول سورين كيركجارد، منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، هذه المسألة تحديدًا. إذ بذل في عمله “خوف ورعدة” قصارى جهده لمدح إبراهيم الإنجيلي لاستعداده الواضح للتضحية بابنه إسحاق (وفق الرواية الإنجيلية). صحيحٌ أن مدح كيركجارد لإبراهيم قد أدى إلى عددٍ غير قليل من التفسيرات الخاطئة، نظرًا لمدى الفداحة التي يبدو عليها الأمر، إلا أنه لم يقترح أننا أيضًا يجب أن نكون مستعدين لارتكاب مثل هذا العمل الفظيع بالتأكيد. استخدم كيركجارد هذه القصة على العكس من ذلك، كما تساعد “رسالة من سجن برمنغهام” للدكتور كينغ في تجلية الأمر، ليوضح كيف يمكن غالبًا أن تظهر الأفعال الأخلاقية العميقة على أنها أعظم الجرائم لأولئك الذين لديهم خيال أخلاقي محدود، كما لو كنا مستعدين للتضحية بأعز ما لدينا.
نحن عادةً ما نصدر أحكامًا من وجهة نظر الأخلاق التقليدية التي نشأنا عليها، كما فهم كيركجارد، لكن هذه الأخلاق مرتبطة دائمًا بالمجتمع المُحدَّد الذي نعيش فيه. إن التزامنا بأخلاقيتنا الاجتماعية الخاصة غالبًا ما يكون التزامًا غير أصلي، رغم أن كيركجارد قد أدرك أن أخلاقياتنا هذه قد تحتوي على قدرٍ من الحقيقة وربما حتى قدر كبير منها. وهذا يعني أننا غالبًا ما نتصرف بشكل أخلاقي لأننا دُمِجنا اجتماعيًا في رؤية أخلاقية مُعيَّنة للعالم وليس لأن لدينا أي التزامات أخلاقية أساسية أعمق.
يعني ذلك أنه قد تكون هناك أفعال أخلاقية تقع خارج أفقنا الأخلاقي. ولكن نظرًا لأن كل منا قد تربى على الإيمان بسيادة واقعنا الأخلاقي – فإن كل منا يعتقد أن قيمنا هي القيم الحقيقية – فإنّ مجرد الإيحاء بأن الواقع الأخلاقي يقع خارج أفقنا يهدد بتقويض نظرتنا للعالم. لذلك، في حين أنه من السهل القول “إن إبراهيم مجرم”، لأن هذا حكم يمكننا إصداره من منظورنا الأخلاقي للعالم، فمن الأصعب قبول احتمال أنه قد لا يكون كذلك – لأن هذا يتطلب أن نقبل أن نظرتنا للعالم قد تكون قاصرة؛ وبالتالي، حتى أصغر هذه التجاوزات يهدد سلامة عالمنا؛ وهو ما يجعلنا نميل إلى استحضار أكثر الردود قسوة تجاه هذا الفعل.
كتب كيركجارد ما يُعتبر عمومًا أخلاقياته “المتبلورة” في كتاب يحمل العنوان المناسب “أعمال الحب” وذلك بعد عدة سنوات من كتابته لكتاب “خوف ورعدة”. الحب في رأي كيركجارد على عكس الأشكال المختلفة للأخلاق الاجتماعية التي تعتمد على امتثالنا لها، هو التعبير الأعمق عن ذاتنا الأصلية؛ فعندما نتعلم أن نحب، فإن ما نحبه هو نفس الذات في الآخرين؛ وعندما نتصرف بدافع الحب، فإننا لا نتحرك بدافع الإخلاص لمجموعة مُعيَّنة من القيم الاجتماعية، ولكن برابطة أصيلة توحد جميع الأفراد على أساس إنسانيتنا المشتركة.
يدرك كيركجارد، في كتابه السابق “خوف ورعدة” أن الحب هو تجاوزي بالضرورة. فالفرد المحب يكون مدفوعًا بإحساس الحب الذي اكتشفه في نفسه، وذلك تجنبًا للدافع الأخلاقي التقليدي للتوافق الاجتماعي. وقد يبدو هذا الفرد طيِّعًا للأعراف الاجتماعية عندما تكون متطلبات الحب متوافقة معها؛ لكن عندما يتعارض الحب مع ما يمليه المجتمع، يُرفَع الحجاب وينكشف الدافع الأخلاقي البديل. وكما كتب فريدريك نيتشه بعد بضعة عقود: “كل ما يُفعَل من الحب يحدث دائمًا فيما هو أبعد من الخير والشر.” إنّ وجود الحب ذاته يشكل تهديدًا وجوديًا لأولئك الذين تظل أفعالهم محكومة بالالتزام بالمعايير الاجتماعية.
بدا أن المعتدلين البيض، بالنسبة لمعظم من كان في زمن الستينيات في أمريكا، يتصرفون بشكل أخلاقي. لكنهم كانوا، من وجهة نظر الدكتور كينغ، يخونون إخوانهم من البشر باختيار طاعة الأعراف الاجتماعية فوق أعلى شكل من أشكال العدالة التي تسترشد بالحب. لو تمكن هؤلاء المعتدلون فحسب من العثور على الحب الذي من شأنه أن يربطهم بشكلٍ أصيل بإخوانهم من البشر، فستُكشَف لهم تلك “التأوهات العميقة والتلهفات المتقدة للعرق المضطهد”. سيدرك هؤلاء المعتدلون سابقًا الآن ضرورة كسر “القوانين الظالمة” “بحب” مع توسع عالمهم الأخلاقي للغاية، وبدلاً من الدفاع عن الوضع الراهن.
أراد كيركجارد أيضًا، في مواجهة الطبيعة المتجاوزة للحب، أن يدرك قراؤه أن لدينا خيار. إذ قد يقودنا خوفنا من التجاوز، من ناحية، إلى التمسك أكثر بالوضع الراهن، وإيجاد الراحة التي يوفرها التوافق. لكن قد نجد، من ناحية أخرى، الشجاعة للامتناع عن الحكم، لأن الواقع ليس دائمًا كما يبدو. وإذا وجدنا هذه الشجاعة، فقد نجد أيضًا طريقة لتوسيع خيالنا الأخلاقي حتى نرى روابط الحب العميقة التي غالبًا ما توحد أولئك الذين يقاتلون من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
يجب علينا، لكي يحدث ذلك، أن نقفز إلى ما وراء الحدود الضيقة لعالمنا على أمل غامض بأن شيئًا آخر يكمن وراءه؛ وبينما يمكننا تسمية هذه القفزة بالعديد من الأسماء، فإن اسمها الحقيقي، بالنسبة لكيركجارد كان الإيمان.
الكاتب: جيمي أروسي زميل باحث أول في مكتبة Hong Kierkegaard في كلية سانت أولاف ومؤلف كتاب “الذات الديالكتيكية:كيركجارد، وماركس، وصنع الموضوع الحديث.”
المترجمة: أستاذة النقد والأدب المُشارك، وباحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة.
Are You a Moderate? Think Again
Jamie Aroosi
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”