تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١٩ أكتوبر ٢٠١٠
من يستطيع أن يشكّ في وجود الإيثار؟
صحيح أن هناك قصصاً كثيرة عن الحقد والجشع، لكننا نرى من حولنا دلائل على وجود أشخاص يضحّون بأنفسهم ويفعلون الخير لغيرهم.
هل تتذكرون قصة ويزلي أوتري (Wesley Autrey)؟ في الثاني من يناير، عام ٢٠٠٧، ألقى السيد أوتري بنفسه على مسار قطار مترو-أنفاق في نيويورك، وكان القطار مندفعاً نحو رجل أصيب بنوبة صرع وسقط على سكة القطار. وبعدها بعدة أشهر، قام بروفسور من جامعة فيرجينيا للتقنية، ليفيو ليبريسكو(Liviu Librescu)، بأن أغلق بجسده بابَ الفصل ليحمي طلابه من طلقات الرصاص التي ثارت من سلاح سينغ هو شو (Seung-Hui Cho) الذي كان في حالة هيجان وقتل في ذلك الحادث ٣٢ طالباً وأستاذاً. وبهذا الصنيع، ضحى ليبريسكو بحياته.
مع ذلك، ما يزال الشك في الإيثار أمراً سهلاً، حتى وإن بدا لنا أن الإيثار أمر بيّن بذاته. لا يمكن إنكار أن الناس، أحياناً، يفعلون الأفعال التي تصب في مصلحة الآخرين، لكن من الواضح أنهم بدورهم يستفيدون من ذلك. وحسْب المرء أن ينال رضا عن ذاته بمساعدته للغير. هذه المحاججة[1] يثيرها دائماً طلاب الفلسفة ويحاججون بها أساتذتهم. وبطبيعة الحال، منطق هذه المحاججة ليس ساذجاً.
النقاشات المعاصرة حول الإيثار تتحول بسهولة إلى ضربٍ من التفسيرات التطورية. “الإيثارية التبادلية” (Reciprocal altruism) و”انتخاب القرابة” (kin selection) أشهر النظريات التطورية لتفسير الإيثار. ترى نظرية الإيثارية التبادلية أن مسار التطور يفضّل تلك الكائنات التي تضحّي بخيراتها للآخرين من أجل أن تحصل – مقابلَ ذلك- على الأفضلية. أما نظرية الانتخاب القرابي – ومعها مفهوم “الجين الأناني” الذي أذاعه ريتشارد دوكينز- فترى أن الفرد الذي يتصرف بشكل إيثاري تجاه الآخرين المشاركين له في الجينات سيكون لديه ميلٌ لإعادة إنتاج تلك الجينات. فالكائنات قد تكون إيثاريةً، لكن الجينات أنانية. إن حبنا لأطفالنا أكثر من حبنا لأنفسنا يدعم، بشكل تلقائي، موقفَ نظرية الانتخاب القرابي.
هاتان النظريتان التطوريتان تشرحان لغز كيفية تطور الكائنات الحية التي تضحي بملاءمتها التناسلية – أي بقدرتها على البقاء والإنسال. لكنهما غير قادرتين على تفسير فهمنا العادي للإيثار. عيب الإيثارية التبادلية واضح: إذا كان الشخص يؤثر الآخرين على نفسه من أجل أن يعود ذلك بالنفع عليه، فإن الرد الطبيعي هو أن هذا الفعل ليس إيثاراً. فالإيثار الخالص، كما نعتقد، يتطلب من الشخص أن يضحّي من أجل الآخرين بدون أي اعتبار للمنافع التي تعود عليه. فعلُ الخير لشخص آخر من أجل ما يحمله من مصلحة لنا ليس هو الإيثار المقصود. أما نظرية الانتخاب القرابي فأحسن حالاً من الأولى لأنها ترى أن الكائنات يمكنها فعلاً أن تضحّي من أجل الغير، لكنها تفشل في إيضاح لماذا نرى أن البعض يضحّي لأشخاص لا يشاركهم في الجينات مثل البروفسور ليبرسكو والسيد أوتري[2].
عندما نسأل عما إذا كان البشر إيثاريين، فإننا نريد أن نعرف دوافعهم ومقاصدهم. الإيثارية البيولوجية تشرح كيف يتطور السلوك غير الأناني، لكن – كما يقترح فرانس دي فال (Frans de Waal) في مقال له في “ذا ستون” يوم الأحد- هذه الإيثارية البيولوجية لا تفسر أي شيء يتعلق ببواعث ونوايا أصحاب الفعل الإيثاري، وهكذا فلا فرق بيننا وبين الطيور والخفافيش والنحل الذي يمكنه يتصرف إيثارياً.
بصرف النظر عن النظريات التطورية، فهذه الحقيقة تساعدنا في إيضاح قوة ورواج الفكرة السائدة بأن كل فعل إيثاري هو أناني، أي أن الناس يرون أن ما نفعله من إيثار ليس إلا رغبة منا في توقع ما يعود به من خير علينا. وجاذبية هذه الفكرة السائدة – أي التفسير الأناني للإيثار- لها مصدران، سيكيولوجي ومنطقي. لننظر أولاً في المصدر السيكيولوجي: من أسباب رفض الناس لوجود الإيثار أنهم عندما يتعمقون في دواخلهم فإنهم يشكّون في نزاهة بواعثهم الخاصة. فنحن نعلم أنه، حتى عندما نتصرف بشكل غير أناني، فإن هناك بواعثَ أخرى تطلّ برأسها دائماً، مثلاً: توقعَ الحصول على خدمة في المستقبل، أو تحسينَ السمعة، أو مجردَ الشعور بالرضا عن الذات بسبب التصرف بشكل غير أناني. وكما لاحظ كانط وبعده فرويد، فإن البواعث الحقيقية للناس تكون مضمرةً وغير واضحة ولاسيما لنا نحن أصحاب هذه البواعث. إننا، حتى ولو اعتقدنا أن فعلَنا هو لخير الآخرين فقط، فإن هذا قد لا يكون هو السبب الحقيقي. (وقد لا يكون هناك “سبب حقيقي واحد” وإنما أسباب متنوعة لأفعالنا). وهكذا فالجاذبية السيكيولوجية لنظرية التفسير الأناني لأفعال البشر تستطيع فقط أن تفسر جزئياً شك بعض الناس في بواعث أفعالهم. هناك، بكل حال، سبب أقل إغراء: إنكار إمكانية الفعل الإيثاري الخالص يمكن أن يقدم تبريراً مريحاً لأفعالنا الأنانية. إذا كان “الجميع يفعلون ذلك” أو إذا كان عليهم التصرف بشكل أناني، فليس علينا إذن أن نشعر بالذنب عندما نسعى من أجل مصلحتنا الخاصة، بل ليس علينا السعي لتغيير ذلك.
أما المصدر المنطقي لجاذبية النظرية الأنانية فمختلف: الفكرة قوية لدرجة أنه يستحيل رفضها: فمهما حاول الفرد أن يظهر بشكل إيثاري فإنه من الممكن فهم دوافعه في ضوء الأنانية. مثلاً، لو عدنا لمثال السيد أوتري، فإن الألم أو الذنب الذي سوف يشعر به لو لم يساعد الشخص الذي علق في سكة القطار يستوجب عليه أن يغامر ويضحي بذاته. وكمثال آخر، فالطبيب الذي يتخلى عن رغد العيش ويسافر من أجل معالجة مرضى الإيدز في مناطق بعيدة من العالم لم يفعل سوى ما يريده ويرغب فيه، وبالتالي فهو يحصل على رضا نتيجة لهذا الصنيع الذي يظهر وكأنه تضحية ذاتية. وهكذا فالإيثار – حسب هذا المصدر السيكيولوجي- ليس إلا فعلاً بارعاً من أفعال المنفعة الشخصية.
استحالة دحض نظرية التفسير الأناني للإيثار تبدو بمثابة ميزة لهذه النظرية، لكن هذا، كما يعرف فلاسفة العلم، يعد عيباً شنيعاً[3]. النظرية التي تدّعي أنها تخبرنا عن العالَم، كما تفعل النظرية الأنانية، يجب أن تكون قابلة للتكذيب. لا أقول إنها كاذبة، لكن المراد أنها تقبل الفحص وبالتالي قد تتعرّض للتكذيب. إذا كان واقعُ الحال مطابقاً للنظرية الأنانية[4]، فإنها لن تخبرنا بأي شيء مميّز عن كيف تحدث الأشياء.
هناك سبب آخر لجاذبية النظرية الأنانية لاحظه القس جوزيف بتلر (Bishop Joseph Butler) في القرن الثامن عشر، وهو يتعلق بغموض مفاهيم الرغبة وإشباع الرغبة. إذا كان الناس يحوزون على بواعث إيثارية، فإنهم بالتالي سوف يتصرفون لصالح الآخرين دونما توقع منفعة خاصة تعود عليهم. بعبارة أخرى، إنهم يرغبون أو يريدون الخيرَ للآخرين لا لشيء إلا لأجل الخير ذاته، وليس لأجل منفعة تعود عليهم. من هنا كان واضحاً أن البروفسور ليبرسكو رغب في إنقاذ تلاميذه من الموت، وبناء على هذا تصرف (حقق رغبته). وهكذا فإن رغبته تم إشباعها. لكنه هو ذاته لم يكن “راضياً” (لم يُشْبَع) لأنه مات أثناء تحقيق هذه الرغبة. وفي ضوء هذه الحقيقة، أي حقيقة إشباع المرء لرغبته، لا يمكننا استنتاج أن لذلك أثراً (طيباً) على حالته العقلية أو على تحسين حياته. مع ذلك، فإن رغباتنا عندما تُشبَع فإننا في الحالات المألوفة نشعر بالرضا؛ فنشعر بشعور طيب عندما نقوم بعمل طيب. لكن هذا لا يعني أننا نفعل الخير فقط من أجل بريق المنفعة الشخصية، التي يراها البعض (كالاقتصاديين مثلا) على أنها الحافز الحقيقي لأفعالنا. وبالفعل، فإننا، كما يرى فرانس دي فال، إذا لم نرغب في فعل الخير للآخرين من أجل الخير ذاته، فإننا لن نشعر أساساً بلذة ما نجنيه من بريق المنفعة الشخصية[5].
يخبرنا الحس المشترك أن بعض الناس أكثر ميلاً للإيثار من غيرهم. أما النظرية الأنانية فتدعي أن هذا الفرق مجرد وهمٍ. ففي أعماق كل شخص، هناك باعث أناني يملي علينا أفعالنا. لكن ما تنص عليه هذه النظرية يعارض ما نلاحظه في الواقع المعيش وكذلك يعارض إيماننا الراسخ بقدرتنا على “تقييم” الأفعال الأخلاقية. في الوقت عينه، يمكننا أن نلاحظ أن الناس الكرماء – مثلا- لا يخسرون أو يربحون أقل أو أكثر مما قد يخسره أو يربحه الناس الأنانيون. فالشخص الإيثاري يمكن أن يكون راضياً أكثر من الشخص الأناني. فـ”ليس صحيحاً أن الأشخاص الطيبين يخسرون دائماً”[6]. لكن هذا لا يعني أنهم – أي الطيبين من أصحاب الإيثار- يربحون دائماً. الفكرة هي أن الإيثارية التي يجب أن نشجّع عليها، والتي نظل معها أقوياء، هي التي تقدم إشباعاً لأولئك الذين يمارسونها. فالدراسات التي أجريت على “المنقذين” (المتطوعين أو عمال الإنقاذ مثلا) تظهر أن هؤلاء لا يعتبرون أفعالهم الجليلة في إنقاذ الناس أمراً جللاً، إنهم فقط يشعرون أنهم يؤدون واجبهم اليومي لأن فعلهم جزء من هويتهم ومن طبيعتهم. وهذا يصدق على كثير من الأفعال العادية والأقل بطولية كمن يعمل في مطعم أو يتطوع لإطعام الحيوانات الأليفة في الملاجئ أو من يساعد الغرباء أو من يكون لطيفا مع الجيران. فهؤلاء الناس الذين يتصرفون بهذا الشكل الجيد يعتقدون أن من واجبهم مساعدة الآخرين. لكنهم أيضاً يساعدون الناس لكي يحققوا هويتهم ويؤكدوا حقيقتهم الطيبة ولكي يروا العالم الذين يعيشون فيه أفضل. وكما تحاجج الأستاذة نيرا بادوَر (Neera Badhwar) فإن هويتهم مرتبطة بالقيم التي يؤمنون بها، وهكذا يجمعون في هويتهم معاً بين المصلحة الذاتية والإيثار. العلاقة بين فعل الخير والشعور بالرضا الذاتي ليست بالضرورة حتمية – فالحتمية تؤدي بنا مرة أخرى إلى أنانية فارغة لا يمكن دحضها- ولكنها مع ذلك ليست مجرد علاقة عَرَضِية.
ينبغي عدم الخلط بين الإيثاريين والأشخاص الذين يضحّون بشكل تلقائي بمصالحهم الذاتية من أجل الآخرين. نحن معجبون بما فعله بول روسيساباجينا (Paul Rusesabagina)، مدير الفندق الذي أنقذ ما يربو على الألف شخص من التوتسي والهوتو إبان مذبحة راوندا ١٩٩٤. ونحن معجبون أيضاً بموظفي الصحة الذين تخلّوا عن طيب العيش من أجل معالجة المرضى في أمكان خطرة في شتى أنحاء العالم. لكننا لا نُعجَب بالناس الذين ينبطحون ويجعلون الآخرين يسيرون فوق ظهورهم؛ لأن ما يفعلونه ليس إيثاراً بل نقص في احترام الذات.
الإيثارية إذن ممكنة، كما أنها واقعية، رغم أن الإيثار في حالة الناس الأصحاء قد يختلط بضرب من السعي نحو تحقيق رفاهية الشخص الإيثاري. وهذا مهم لإدراك كيفية تشجيع الإيثارية في العالم. وقد كان أرسطو محقاً في كتابه (الأخلاق إلى نيقوماخوس) عندما قال إن علينا تربية النشء وتعليمهم على تحمل الملذات وكذلك الآلام الناجمة عن أفعالهم.
[1] أي أن صاحب الإيثار ينال رضا ذاتياً وهذا دليل على أن الإيثار ذو منبع ذاتوي أو أناني.
[2] إشارة إلى أن ليبرسكو، وهو يهودي روماني الأصل، وأوتري، وهو عامل بناء أسود، ضحيا من أجل أناس ليسوا من العرق نفسه.
[3] إشارة إلى مبدأ عدم القابلية للتكذيب أو الدحض عند فيلسوف العلم كارل بوبر.
[4] أي إذا كانت هذه النظرية تفسر كل شيء.
[5] المراد أننا لو لم نرغب في مساعدة الناس لأجل المساعدة، فلن نشعر بالرضا الذاتي. وهذه الفكرة تحاول أن تقر بوجود الإيثار في عمق الرضا الذاتي والمنفعة الشخصية بحيث لا يكون بينهما تعارض.
[6] Nice guys don’t always finish last. هناك عبارة ذائعة تقول nice guys always finish last وتعني في المجمل أن الطيبين لا يحققون ما يريدون. وما تريد الكاتبة قوله هو أن الطيبين كأصحاب الإيثار قد يربحون أكثر من غير الطيبين كالأنانيين في بعض الحالات.
الكاتبة: أستاذة الفلسفة في جامعة جورج تاون. تعمل على كتاب حول مفهوم الإحسان.
المترجم: فيلسوف، عضو جمعية الفلسفة السعودية، من مؤلفاته: ١- الفلسفة بين الفن والأيدلوجيا، ٢- قراءات في الخطاب الفلسفي، ٣- الوجود والوعي، ٤- الهرمنيوطيقا (ترجمة).
?Is Pure Altruism Possible
Judith Lichtenberg
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”