تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
لا يمكنها أن تثبت وجود الجنة أو النار، لكن يمكنها أن تعطينا الأمل
“هل وقفت عند أبواب الهلاك؟ أو نظرت من خلال بوابات الموت؟ هل وصلت إلى حافة الكون؟” في العهد القديم، يطرح الصوت القادم من العاصفة هذه الأسئلة على أيوب. والجواب الضمني هو لا، إذ يبدو أن كل ذلك امتيازات إلهية. بالنسبة للبشر، فإن الجنة عبارة عن مجتمع مُسوَّر، لا يمكننا عادةً حتى استراق النظر إليه. وهذا سبب (من بين عدة أسباب) إثارة تجارب الاقتراب من الموت الرهبة لدينا. فكأنما تمنحنا هذه التجارب نظرة ربانية لما يكمن حقًا خلف هذا الكون، وكأنها تأخذنا إلى حافة الكون.
صحيحٌ أن مصطلح “تجربة الاقتراب من الموت” ليس مصطلحًا علميًا دقيقًا، إلا أن أغلبنا لديه فهم مُتفَق عليه حول ما يعنيه هذا المصطلح. من الواضح أن “تجربة الاقتراب من الموت” تحدث في “سياق الاقتراب من الموت”، أي الحالة التي تكون حياة المرء فيها في خطر. ويتفق أغلب الذين درسوا أو ناقشوا هذه التجارب على أنه لكي نعتبر التجربة تجربة اقتراب من الموت، فيجب أن تحدث بينما لا يكون الفرد واعيًا في حالة يقظة، ويجب أن يتوفر فيها عددًا كبيرًا من هذه السمات: أن يعيش المرء تجربة “الخروج من الجسد” التي يشعر فيها وكأنه يطفو فوق جسده المادي ويستطيع أن يراه وأن يرى ما يحيط به؛ و أن يحدث له نوع من إعادة تقييم الحياة؛ وأن يتلقى إرشادًا من أحبة متوفين أو من شخصيات دينية موقَّرة للتوجه نحو حيز محميٍ بالحراسة (نور في الظلام، أو نطاق مُسوَّر أو مُسيَّج، أو الجانب الآخر من أحد الأنهار). ذكر الكثير من الأشخاص الذين مروا بتجربة الاقتراب من الموت بأنهم قد تحوَّلوا تحولاً عميقًا، فأصبحوا أقل قلقًا من الموت، وأكثر روحانية، وأكثر “اجتماعية” (بما يشمل الاهتمام أكثر بالمبادئ الأخلاقية).
تكرر الحديث عن هذه الأنواع من التجارب عبر التاريخ وعبر الثقافات. فقد وصف أفلاطون واحدة من هذه التجارب في “الجمهورية” ألا وهي “أسطورة عير”. وتعتمد هذه التجارب اعتمادًا جزئيًا على تفاصيل حالة حياة الفرد ودينه وثقافته، لكن هناك عناصر مشتركة أيضًا. على سبيل المثال، قد تختلف الشخصيات الدينية، بحيث يرى المسيحي شخصيات مسيحية، ويرى البوذي شخصيات بوذية، وقد تظهر آلهة هندوسية من الذكور والإناث في تجربة الاقتراب من الموت لدى أحد الهندوسيين، وهكذا. ولكن على مستوى أعمق، ثمة إرشادات من شخصيات موقرة، رحلة يقودها مرشدون موثوقون من المعروف إلى المجهول. وقد تكون هذه الرحلة هي الأكثر رعبًا، من الحياة إلى الموت. ويكون لهذا الإرشاد المحب في رحلتنا الأخيرة، أو المرحلة الأخيرة من رحلتنا، صدى عميق.
في الأدب الشعبي، دائمًا تقريبًا ما تُفسَّر تجارب الاقتراب من الموت باعتبارها “خارقة للطبيعة”. إذ يتم تأويلها على أنها تُظهر أو (“تبرهن”) على أن العقل ليس مثل الدماغ وأن بإمكانه الاستمرار بعد توقف الدماغ عن العمل، وأيضًا أن العقل لديه اتصال من نوع ما مع عالم “سماوي” أو غير مادي. وتعلن عناوين بعض الكتب المشهورة حول تجارب الاقتراب من الموت عن أن “الجنة حقيقة” أو أن لدينا “دليل على وجود الجنة”. ويزعم الأطباء وعلماء الأعصاب الذين يكتبون عن هذه القضايا أن تجارب الاقتراب من الموت تقدم “دليلاً على الحياة الآخرة” وعن وجود “الوعي فيما بعد الحياة”. فهم يعتبرون هذه التجارب بمثابة تذاكر ذهاب وإياب إلى “المكان الأكمل”، أي الرحلة إلى ما بعد الحياة.
يصر مؤيدو التفسير الخارق للطبيعة لتجارب الاقتراب من الموت على أنها “حقيقية”. حتى إن كتاب “إثبات الجنة” لجراح الأعصاب إيبان ألكسندر يتضمن فصلاً بعنوان “الواقعية الفائقة. لا أنكر أن الناس – كثيرًا من الناس – قد مروا حقًا بتجارب الاقتراب من الموت كما أبلغوا عنها. إذ وقعت لهم هذه التجارب بالفعل تمامًا كما يحلم الناس في الواقع. لذا فإن تجارب الاقتراب من الموت حقيقية بمعنى كونها “أصيلة”، فهي تحدث بالفعل. ولا ينبغي لأحد أن ينكر ذلك، فإنكار ذلك يعني عدم احترام الغالبية العظمى من أولئك الذين أبلغوا بصدق عن حدوثها.
ومع ذلك، فإن هناك معنى آخر لكلمة “حقيقي” ألا وهو “دقيق”. هل تقدم تجارب الاقتراب من الموت، التي تُفسَّر تفسيرًا حرفيًا، تصورات دقيقة للواقع الخارجي؟ هذا سؤال مختلف بصورة بارزة. ومن الأهمية بمكان ألا ننزلق من “الحقيقي” بالمعنى الأول إلى “الحقيقي” بالمعنى الثاني، ولكن هذا بالضبط هو ما يفعله العديد ممَن يؤمنون بالبُعد الخارق للطبيعة، إن تجارب الاقتراب من الموت تحدث حقًا، لكن لا يمكننا أن نستنتج من ذلك أنها تصور بدقة إرشادات الأحباء الموتى صوب عالم غير مادي.
السؤال الأهم هو: هل تقدم تجارب الاقتراب من الموت دليلاً على الجنة؟ أو النار؟ لا أعتقد ذلك. لا تبدو أي من الحجج مقنعة، فقد اختلطت الأحلام الواضحة الحيوية بالهلوسات. هناك تجارب عميقة و تحوليّة حدثت نتيجة لتناول المواد المخدرة، وكل هذه التجارب تقدم محتوياتها على أنها “واقعية فائقة”. فهذه سمة معروفة لأي تجربة روحية، وتجارب الاقتراب من الموت، هي نوع من التجارب الروحية. لدى الناس في جميع أنحاء العالم إيمان صادق ويقيني تمامًا بأديانهم، لكن لا يُستخلَص من هذا الإخلاص واليقين أن المعتقدات الدينية صحيحة، أو أنها مُفسَّرة حرفيًا. فكيف تكون كل هذه المعتقدات الدينية صحيحة في ظل اختلافاتها الجذرية؟ وكذلك الأمر مع تجارب الاقتراب من الموت.
إن الحجج المؤيدة للتفسيرات الخارقة للطبيعة لتجارب الاقتراب من الموت تعد إشكالية بشكلٍ صارخ. وأكثر المؤيدين المعروفين لفكرة أن هذه التجارب تبرهن على وجود حياة آخرة هم من الأطباء. من بين هؤلاء إيبان ألكسندر جراح الأعصاب، وطبيب القلب بيم فان لوميل، وطبيب الأورام جيفري لونغ. ومن المهم أن نؤكد على أن استنتاجاتهم ليست استنتاجات طبية بل فلسفية. ففكرة إمكانية انفصال العقل عن الجسد بحيث يكون لديه اتصال بعالم سماوي ليست بوضوح استنتاجات طبية، وليس للأطباء أي سلطة خاصة في هذا الموضوع. في النهاية، هم أطباء وليسوا ميتافيزيقيين. أثق بطبيبي في شرح تحليل الدم الخاص بي، لكن ليس له أن يخبرني أن روحي قد غادرت جسدي عندما كنت تحت تأثير التخدير العام. من اللافت للنظر أن تجد أطباء يستخدمون مثل هذه الجرعات المثلية من المنطق؛ يبدو أنهم محاصرون في نوع من الرؤية النفقية.
سيكون من المرغوب فيه أن يكون لديك تفسير معقول أكثر لتجارب الاقتراب من الموت، بحيث تكون هذه التجارب حقيقية بكلا المعنيين، أي إنها تحدث حقًا، وإنها دقيقة. أقترح أن نفسر تجارب الاقتراب من الموت على أنها بشكلٍ أساسي وفي المقام الأول تتعلق برحلتنا من الحياة إلى الموت – ونحن نحتضر. إذ تصف أغلب تجارب الاقتراب من الموت رحلة نحو عالم مُتخيَّل خاضع للحراسة، لكنها لا تصف ممرًا ناجحًا إليه. تمامًا كما هو الحال في الأدبيات التي تتعلق بالخلود، مثل “ملحمة جلجامش” القديمة أو “أسطورة تانتالوس” أو البحث الخيالي عن ينبوع الشباب، حيث نقترب كثيرًا من الهدف، لكننا في النهاية لا نصل إليه تمامًا. كذلك في تجارب الاقتراب من الموت نصل مباشرةً إلى البوابات، لكننا لا نعبرها، ونصل مباشرةً إلى حافة الكون، لكننا نتوقف عند هذا الحد.
لا تُظهِر تجارب الاقتراب من الموت أن هناك حياة بعد الموت، لكنها تُظهر أنه من الممكن أن تموت ميتةً حسنة وأنت محاط برفقة محبة. إذ يمكن أن نموت بمفردنا في مستشفيات معقمة وباردة (مما يعني أن هناك تجارب اقتراب من الموت سلبية)؛ أو يمكن أن نموت في مكان أكثر إنسانية، محاطين بأحبائنا. وبالتالي، فإن تجارب الاقتراب من الموت حقيقية في كلا المعنيين: إنها تحدث بالفعل، وتصور هذه الاحتمالات بدقة. هذه التجارب مهمة لأنها تذكرنا بإمكانية الموت بصورة حسنة. لا يتعين علينا قبول أي من الرأيين المتطرفين: رأي مَن يقول إن هذه التجارب لا تحدث حقًا، أو رأي مَن يقول إنها تثبت وجود الجنة. فهي توجهنا إلى شيء عميق وجميل عن الموت. إنها تعطينا أملاً حقيقيًا، وليس كاذبًا، في مواجهة الجزء التالي من رحلتنا، أيًا كان ما سيجلبه.
الكاتب: جون مارتن فيشر أستاذ الفلسفة في جامعة كاليفورنيا، ريفرسايد؛ ومؤلف كتاب “تجارب الاقتراب من الموت: فهم رؤى الحياة الأخرى” وكتاب “الموت، والخلود، ومعنى الحياة.”
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
?Are “Near-Death Experiences” Real
John Martin Fischer
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”