تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢ أكتوبر ٢٠١٧
عانى الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مِل في خريف عام ١٨٢٦ من انهيار عصبي، وهو ما سماه “أزمة” في “تاريخه العقلي”.
وقع مِل منذ أن كان بعمر الخامسة عشر تحت تأثير السحر الفكري لصديق والده المقرب جيرمي بنثام. كان بنثام مناصرًا لمبدأ المنفعة، وهي الفكرة القائلة بأن جميع أفعال البشر ينبغي أن تستهدف التشجيع على السعادة القصوى لدى أكبر عدد من البشر. وقد كرّس مِل كثيرًا من طاقاته في سن الشباب للنهوض بهذا المبدأ: عبر تأسيس المجتمع النفعي (وهي مجموعة هامشية عددها يقل عن عشرة أعضاء)، ونشر مقالات عن الآراء الرائجة، و تحرير مخطوطات بنثام المُرهِقة.
تدعو النفعية، كما اعتقد مِل، إلى إصلاحات اجتماعية متنوعة: وهي تحسين العلاقات بين الجنسين، وأجور العمل، والحماية القصوى لحرية التعبير، وتوسيع جوهري للناخبين البريطانيين (بما يشمل منح النساء حق الاقتراع).
كانت هناك الكثير من الأعمال التي ينبغي إنجازها، لكن كان مِل معتادًا على العمل الشاق. فقد جعله والده، حين كان طفلاً، في نظام تعليمي منزلي شديد الانضباط؛ فقرأ، بين سني الثامنة والثانية عشر، أعمال كلاً من هيرودوت، وهوميروس، وزينوفون، وست محاورات أفلاطون (باليونانية)، وفيرجل وأوفيد (باللاتينية)؛ وواصل القراءة بكثافة متزايدة، بجانب تعلمه للفيزياء والكيمياء وعلم الفك والرياضيات بالتزامن مع تعليمه لشقيقاته الأصغر. لم يكن يُسمح له بالإجازات “خشية انقطاع عادة العمل واكتساب لذة الكسل”.
ليس من المستغرب أن أحد التفسيرات المقبولة الأكثر شيوعًا لانهيار مِل العصبي في عمر العشرين هو الإرهاق النفسي المتراكم، إلا أن مِل نفسه فهم ذلك بصورة مختلفة، فقد كتب في سيرته الذاتية:
“كنت في حالة عصبية باهتة، مثلما يتعرض له الجميع بين الفينة والأخرى، لا أتمكن من الشعور بالمتعة ولا الإثارة الممتعة؛ كانت إحدى هذه الحالات المزاجية السارة تنقلب إلى حالة من الخواء أو اللامبالاة… وفي هذا الإطار الذهني خطر ببالي أن أسأل نفسي مباشرةً ‘فلتفترض أنك حققت كل أهداف حياتك؛ وأن كل التغيرات في الآراء والمؤسسات التي تتطلع إليها يُمكن أن تتحقق بالكامل في هذه اللحظة: فهل سيشكِّل ذلك متعة وسعادة بالغة لك؟’ يجيبني بوضوح وعيي الذاتي الذي يتعذر كبحه: ‘كلا!’ وهنا غاص قلبي بداخلي، فقد سقط الأساس برمته الذي بُنيت عليه حياتي، لقد كان يبنغي أن أجد سعادتي بأسرها في الملاحقة المستمرة لهذه الغاية. إنها الغاية التي فقدت سحرها، وكيف سأولي أي اهتمام بالمعاني مرة أخرى؟ بدوت وكأنني لا أجد ما أعيش لأجله”.
أُصيب مِل بفترة اكتئاب لمدة ستة أشهر في أعقاب هذه الحادثة. ثمة ما هو فكاهي في انهيار مِل الداخلي؛ إذ بدا وكأنه أمضى سنوات وهو ينشد الإبحار، ليدرك فجأة بمجرد صعوده المركب أنه يكره القوارب.
هُنالك أيضًا رابط غريب في الأمر. فنحن جميعًا في وقتٍ من الأوقات فقدنا الإيمان بأحد المشاريع الذي كنا نتمسك به بقوة، ونعيش سياسيًا في عهد الاضطرابات، ويبدو أن الإيمان بالمُثُل القديمة يتلاشى ليخلق من بعده خواءً. لعلنا نتعلم شيئًا عن أنفسنا وعن لحظتنا السياسية حين نُمعِّن النظر في أزمة مِل الإيمانية.
لماذا لم يكن مِل ليرغب في تحقيق أهداف حياته؟
لم يكن السبب هو اعتقاده أن أهدافه خاطئة، فهو لم يتخل عن مذهب النفعية رغم تعديله اللاحق لمذهب بنثام بأساليب ماهرة. يخبرنا مِل، بدلاً من ذلك، أن أزمته تولدت من الاهتمام بإذا ما كانت السعادة ممكنة حقًا في العالم المثالي الذي سعى إلى تحقيقه، عالم بلا معاناة، أم لا:
“كان السؤال إذا ما كان بمقدور المصلحين بالمجتمع والحكومة أن ينجحوا في أهدافهم، وإذا ما كان كل أفراد المجتمع أحرار وفي حالة من الراحة الجسدية والتمتع بالحياة وعدم التقيد بالمعاناة والحرمان، فهل حينئذٍ ستختفي الملذات”.
لم يكن مِل واضحًا على الإطلاق في مسار تفكيره هنا. لكن نستطيع التخمين، أحد الاحتمالات هو قلقه أننا إذا ما حققنا عالمًا اجتماعيًا مثاليًا، فسنعتبره أمرًا مُسلَّمًا به، أو سنصبح ” مُدلَّلين”. إنها حكاية مألوفة ينال الطفل فيها كل ما يُريده فينتهي به المطاف إلى عدم الرضا أبدًا والرغبة في المزيد دائمًا (يُسمَّى علماء النفس ذلك الأمر بآلة المشي التلذذية). ولعل مِل اعتقد أن الأمر نفسه ينطبق على البالغين، حيث أن مواجهة درجة من “المعاناة والحرمان” في الحياة أمر جوهري للسعادة، لأن ذلك يمنحنا تذكيرًا حيًا بمدى حظنا السعيد حين تستقيم الأمور.
أم هل كان مِل قلقًا أننا قد نشعر بالضجر فحسب في عالمٍ مثالي ليس فيه ما نكافح لأجله؟ أو كما صاغ ذلك بشكلٍ ملهم الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور في القرن التاسع عشر: “تتأرجح الحياة للأمام والخلف مثل رقاص الساعة بين الألم والضجر”. عندما لا تستنزفنا الرغبة بإنجاز شيء ما (كالأكل، المأوى، الرفقة، الثروة، المسيرة المهنية، المكانة، الإصلاح الاجتماعي، إلخ) فإن الضجر يُعذبنا.
نظرة شوبنهاور نحو الحياة نظرة تشاؤمية على نحو مُثير، وبالتأكيد هي مسلية أيضًا. فثمة دليل على أن مِل كان في مزاج شوبنهوري عام 1826 (رغم أنه بالتأكيد لم يكن قد قرأه بعد). كتب مِل أنه أثناء أزمته كان “مُعذبًا بشكلٍ جدي من فكرة استنفاد التركيبات الموسيقية” وهو القلق الذي قال عنه أنه كان خاصية اتسَّمت بها “النغمة العامة” لعقله في ذلك الوقت.
يشرح مِل بقوله “لا يتشكل الجواب الموسيقي سوى من خمس نغمات واثنتين من نصف النغمة”. ليس هنالك سوى عدد محدود من التركيبات النغمية الممكنة، بحسب قوانين الرياضيات؛ فمالذي سيحدث للموسيقى (وبالتأكيد المُلحنين) عندما لا يسعهم اكتشاف مزيدٍ من التركيبات الأخرى؟ وكيف ستبدو الحياة حين ينتهي العمل في الإصلاح الاجتماعي؟ مالذي سيستهلكنا وقتها؟ كيف سنهرب من الضجر؟ فهذه أفكار خانقة.
ستُواصَل كتابة الموسيقى، بطريقةٍ ما،؛ ولن “ينتهي” على الإطلاق في الواقع العمل على تحسين الحياة الإنسانية والأوضاع الاجتماعية. يسهل، رغم ذلك، التعاطف مع قلق مِل، فبعضنا يُفضل أن يُعاني أو يبحث عن المثالية بدلاً من الحصول عليها. ويبدو أن التقاعد يعمل بهذه الطريقة عند كثيرٍ من الناس: كأنه هدف له وجهة لكن صوب واقعٍ مُشوّش.
ثمة أمر غريب، أيضًا، على نحوٍ مُربك فيما يتعلق بالعالم “المثالي”. إن جزءًا من الوضع الإنساني مفهوم بصورة اعتيادية بوجود فجوةٍ ما بين وضع العالم كما هو والعالم كما يجب أن يكون من منظورنا، بين ما نملكه وما نريده، بين مَن نكونه ومَن نرغب أن نكونه. نحاول تضييق هذه الفجوة بيد أن بقائها المستمر هو جزء من الحياة كما نعهدها، بل إننا حتى نتقبل ذلك ضمن حدودٍ معينة.
يميل أبطالنا المفضَّلون، في الأفلام والأدب على سبيل المثال، إلى أن يكون بهم عيب أو خلل بصورةٍ ما. في فيلم ” إدوارد ذو اليدين المقصيتين Edward Scissorhands” نشجع الوحش والمراهق المُحبط، لا سكان الضواحي المثاليين بصورة بغيضة. ويُفضل كثيرون، فيما يتعلق بالموسيقى، الموسيقى “البشرية” ذات اللحن أو الأداء المليء بالروح لكن الناقص، على الموسيقى التي لا تشوبها شائبة من الناحية الفنية. لقد زرعت موسيقى الروك بالتأكيد، في نماذجها الأولى على الأقل، هذا النوع من الروح.
هل سأم مِل الذي اعترف بكونه شيء يشبه “آلة التفكير” خلال سنوات مراهقته، من الكمال الآلي؟ لعله كان منرعجًا من الوحشية المُتخيلة لعالمٍ خالٍ من المعاناة أو الحرمان، ومن احتمالية أن يفقد السحر الرومانسي للفشل والضعف الإنساني.
لقد استغرق مِل سنتين كي يعثر على درب يخرجه هذه الأزمة. ولم يحدث ذلك إلا بعد شروعه في القراءة، لا في الفلسفة، بل في شعر وليام ووردزوورث حيث اقتنع بالكامل أنه قد خرج من هذه الأزمة.
ماذا كان في شعر ووردزوورث الرومانسي، الشاعري للغاية (والسوداوي كثيرًا) والمتوحد بنمط من السيرة الذاتية والحافل بالصور الإنجليزية الريفية، وكان له هذا التأثير الشافي العميق على مِل؟ يفسر ذلك مِل بقوله:
” الذي جعل من قصائد ووردزوورث علاجًا لحالتي العقلية، هو كونها لا تعبر عن الجمال الخارجي المحض وإنما حالات المشاعر والفكر الذي يصطبغ بالشعور أثناء تأثره الجمال. فقد بدت قصائده وكأنها ثقافة المشاعر التي كنت أبحث عنها. قد كنت معها أمتاح من نبع البهجة الداخلية وأنهل من متع المخيلة والعاطفة التي يمكن لجميع البشر مشاطرتها؛ فلا علاقة لها بالمعاناة أو النقص، لكنها ستصبح أكثر ثراءً مع كل تحسن في الحالة الاجتماعية أو الجسدية للبشرية. يبدُ لي أنني تعلمت منها مصادر السعادة الأبدية عندما تُزال كافة شرور الحياة. احتجت إلى ما يجعلني أحس بوجود سعادة حقيقية ودائمة في التأمل الهادئ، وهذا ما علمني إياه ووردزوورث”.
كان مِل يبحث عن مصدر يقيني للبهجة يُمكن أن ينجو من الخير العارم للعالم الذي سعى لتحقيقه. لقد كان يفتش عن سعادةٍ تحول دون هجمات الاستياء والضجر عند الفوز بالمعركة الكبرى، وعندما تسود الطمأنينة (أخيرًا). إن الجواب الذي اكتشفه مِل عبر قراءته لووردزوورث هو اللجوء إلى القدرة على التأثر بالجمال، والقدرة على التمتع بالتأمل الهادئ في الخواطر، والمشاهِد، والأصوات، والمشاعر المرهفة لا مجرد الصراعات الكبرى.
هذا الاكتشاف مناسب للفيلسوف. لقد تدرب مِل منذ سن صغير للغاية على التفكير: على أن يكون مُتأملاً هادئاً، لذا فما من مفاجأة أنه كان تواقًا للتأكد أنه لا يزال بمستطاعه أن يجد البهجة في حرفته الخاصة عندما ينتهي عمله الشاق في الإصلاح الاجتماعي. لكن كما يقول مِل فإن الملذات الخيالية تتوفر لـ”جميع البشر” لا الشعراء والفلاسفة وحدهم.
أرجو وأظن في نفس الوقت، أن مِل على صواب بشأن أننا نملك جميعًا القدرة على العثور على شيء من البهجة الثابتة في الهدوء والتأمل والحياة العادية. فسيكون من اللطف، في حيواتنا الشخصية وفي حيواتنا السياسية أيضًا أن نتمكن من الهرب من رقاص ساعة شوبنهاور: أن نستمتع ببساطة في مكاننا لبعض الأوقات، ونجد شيئًا من السلام حين تنقطع الحركة.
لو تمكَّنا من إجراء ذلك، فحينها لن يكون العالم المثالي سيئًا للغاية على كل حال.
الكاتب: محاضر في الفلسفة في جامعة سينت أندروس ومحرر كتاب “حقوق الإنسان: أخلاقية أم سياسية؟” ?Human Rights: Moral or Political.
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
?Is Life Without Struggle Worth Living
Adam Etinson
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”