تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١ يوليو ٢٠١٣
أرى، أيها القارئ، أنك قد تتفق معي في أن قراءة أعمال الخيال الأدبي المثيرة للاهتمام تعود علينا بالنفع. وهذا ما يجعلنا ننظر بعينٍ من الازدراء إلى المناهج الدراسية وزيادة ما تُسمى بثقافة الإنترنت وروابطها التشعبية. لعلنا لا نقرأ جميعًا ما نعتبره أدبًا رفيعًا بالقدر الكافي، لكننا عرضة لأن نشعر بالذنب بسبب هذا التقصير، لأننا نرى أن ذلك من طرق التقصير في بلوغ التميز الشخصي. ألم تؤدي قراءة آنا كارينينا، وأهل ميدل مارش الطيبين ومارسيل وأصدقائه، إلى توسيع خيالنا وصقل حساسيتنا الأخلاقية والاجتماعية؟
ماذا إن طُلب منك دليل على هذا الرأي؟ أتوقع أن ينحصر ردك في أحد هذين الردين: أولاً، ما الحاجة إلى دليل على أمر بهذا الوضوح؟ ثانيًا، أي نوع من الأدلة نبتغيها هنا؟ تبدو الإجابة على السؤال الأول سهلة: إن انعدم الدليل – وإن كان غير مباشر – على وجود قيمة حضارية للرواية الأدبية، فعلينا ألَّا نفترض وجودها. قد ترى أن هناك أسئلة يمكننا الإجابة عليها بمنطق واضح بطرق أخرى غير اللجوء إلى الأدلة، مثل الإيمان بالشيء. إلا أنه، حتى لو افترضنا وجود هذه الأسئلة، فمن المؤكد أن هذا السؤال ليس واحدًا منها.
أي نوع من الأدلة قد نقدمها؟ حسنًا، يمكننا الإشارة إلى أمثلة مُعيَّنة من أصدقائنا أو زملائنا الذين أصبحوا أكثر لطفًا وحكمةً بقراءتهم للأدب. فالواقع يُقر بأننا مثل هؤلاء الناس، ألسنا كذلك؟
آمل ألا يتخذ أحد موقفًا متشددَا من هذه الحجة؛ فكل ما نعرفه عن طبيعة فهمنا لأنفسنا يشير إلى أننا لسنا بارعين في معرفة كيف أصبحنا على ما نحن عليه. فنحن في الواقع لا نعرف حقًا، في كثير من الأحيان، أي نوع من الناس نحنُ. إذ نعزو في العادة إخفاقاتنا إلى الظروف، وإخفاقات الآخرين إلى شخصيتهم السيئة؛ لكننا لا يمكننا جميعًا أن نكون استثناءً لقاعدة أن الناس يقترفون أفعالاً سيئة لأنهم أناس سيئون، (بافتراض كونها قاعدة).
لا نملك معرفة كافية لسبب اختياراتنا التي اخترناها، كما أننا نخفق في التعرف على التغيرات الدقيقة في الظروف التي يمكن أن تحولنا من خيارٍ إلى آخر. فيما يتعلق بالأشخاص الآخرين، فهل أنت واثق أن صديقك الذكي والكريم والمنسجم اجتماعيًا، الذي قرأ لبروست، قد اكتسب هذه المآثر الكريمة بسبب القراءة؟ ألا يمكن أن يكون الأمر عكس ذلك؟ أي أن الأشخاص الأذكياء والمؤهلين اجتماعيًا والمتفهمين هم أكثر استعدادًا من غيرهم لأن يجدوا المتعة في التمثيلات المُعقَّدة للتفاعل البشري التي نجدها في الأدب؟
هناك حجة غالبًا ما نسمعها من الجانب الآخر، عُرضت في وقتٍ سابق من هذا العام في مقالة على موقع The New Yorker على الويب. حيث يذكرنا تيجو كول بالنازيين المثقفين، عندما يذكر استعداد الرئيس الحاكم الذي يقرأ الروايات والشعر للتوقيع على أذونات أسبوعية لضربات مدمرة بطائرات الدرون المُسيَّرة. وبالتالي، فإنه يتساءل ما الذي بقي بعد ذلك من “قوة الأدب المُشاد بها لاستلهام التعاطف؟” أستصعب قبول هذه الحجة، ليس لأنني لم أقتنع بعد بالقضية الأخلاقية ضد طائرات الدرون المُسيَّرة فحسب، بل لأنه لا ينبغي لأحد أن يدعي أن قراءة الأدب ستحميه من الإغراء الأخلاقي حمايةً مطلقة، أو أن باستطاعتها أن تصلح الأشرار بيننا؛ فنحن نقيس فعالية الأدوية والتدخلات الطبية الأخرى بهوامش نجاح ضئيلة لا يمكن رؤيتها دون تقنيات إحصائية متطورة؛ لماذا نفترض إذن أن فعالية الأدب يجب أن تكون مختلفة عن ذلك؟
نحتاج إلى اللجوء إلى ما هو أكثر من التجارب المشتركة، وإلى الدخول في نطاق البحث النفسي المتطور بما يكفي حاليًا للبدء في فحص مسألتنا.
بدأ علماء النفس ببعض الأعمال في هذا المجال، وتعلمنا منهم بعض الأمور حتى الآن. فقد علمنا أنك إذا جعلت أحدهم يقرأ قصة قصيرة حول جريمة قتل اُرتكبت بحق طفل، فسيكون شعوره أسوأ تجاه العالم مما لو لم يقرأها. تُثبت مثل هذه الأمور، التي من المحتمل أن تكون قصيرة المدى للغاية، أن الأدب القصصي يثير شيئًا في دواخلنا، لكنها لا تُظهر أنه يصقل عواطفنا بأي طريقة أخرى.
كما علمنا أن الناس على استعداد لانتقاء معلومات (قد تكون) واقعية سواء أكانت صريحة أو ضمنية كجزء من خلفية الرواية أو القصة الخيالية. الغريب أن الناس يكونون أكثر عُرضة لفعل ذلك عندما تكون أحداث القصة في مكانٍ بعيد عنهم، فقد أظهرت دراسة أجرتها ديبورا برنتيس وزملاؤها، نُشرت في عام 1997، أن طلاب جامعة برينستون قد تذكروا تفاصيل من إحدى القصص عندما كانت أحداثها تدور في جامعة يل أكثر من تذكرهم إياها عندما كانت تدور في الحرم الجامعي الخاص بهم (لا تقلقوا يا طلاب جامعة برنستون، فسيحدث الأمر نفسه مع طلاب جامعة ييل عند إجراء الاختبار بالعكس). كما علمنا أن التليفزيون ببرمجته التسلسلية مفيد لأنواع معينة من التعلم؛ فوفقًا لدراسة منذ عام 2001 أُجريت لصالح مؤسسة كايزر، تعلم المشاهدون الذين كانوا يشاهدون المسلسل الطبي ER مشاهدة منتظمة قدرًا جيدًا من المعلومات الطبية التي كانوا يتصرفوا بمقتضاها أحيانًا. ومع ذلك، فليس لدينا دليل دامغ يشير إلى أن القُراء تقدموا من الناحية الأخلاقية أو الاجتماعية بعد قراءتهم لتولستوي.
لم تُجرَ أبحاثًا بما يكفي في هذا الصدد، ولا أعتقد أن هناك دليل نفسي وشيك بخصوص هذا الموضوع. فمعظم الدراسات التي أُجريت حتى الآن لا تعتمد على الأدب الجاد، بل على مقتطفات قصيرة من القصص الخيالية المُصمَّمة خصيصًا للأغراض التجريبية. والقليل منها فحسب هو ما يعالج الأسئلة التي تدور حول تأثيرات الأدب على التطور الأخلاقي والاجتماعي، وهو قدر قليل للغاية بالنسبة لنا لنستخلص منه ما إذا كان الأدب ينطوي على تأثيرات أخلاقية إيجابية أم لا.
هناك تباين مُحيِّر بين وثاقة الرأي في هذا الموضوع وحالة الأدلة. وظني أن الأمر أسوأ من ذلك؛ فالمدافعون عن الرأي القائل بأن الأدب يثقِّف ويُحضِّر لا يبالغون في تقدير الأدلة، ولعلهم لا يعتقدون بحاجتهم إليها. وبينما نؤكد على أن قيمة الأدب ينبغي ألا تكون مسألة إيمانية، إلا أنه يبدو أنها كذلك بالنسبة للكثير منا.
إن الفلاسفة حاليًا مجتمع دقيق، وأفراده مدربون، كما ترجو، على طرق الجدل لتمحيص الضعف في الحجج. من الغريب إذن أن يكتب بعضهم بكل ثقة وشغف عن أنواع المعرفة التي سننالها من الأدب، وعن ميزاته التي تجعله مُرشدًا مناسبًا في علم النفس الأخلاقي بشكل خاص. تجادل مارثا نوسباوم في كتابها المؤثر “معرفة الحب” بأن الشكل السردي يمنح الخيال الأدبي قوة خاصة لتوليد البصيرة الأخلاقية. فقد تزودنا الرواية بسيناريوهات تجعل تفاصيل إحدى القضايات الأخلاقية تفاصيل حية أمام أعيننا، مما يتيح لنا التفكير فيها مليًا دون معوقات المصلحة الشخصية؛ وذلك كما يحدث في روايات قامة أدبية كهنري جيمس
لا أميل إلى استبعاد مثل هذه التخمينات، فمن الجيد دائمًا وضع مخزون من الأفكار في الاعتبار حول الطرق التي يمكن للأدب أن يعزز بها تفكيرنا وأفعالنا. ولكن سيكون من الجيد الإقرار بأن الاقتراحات المتعلقة بالكيفية التي قد يساعدنا بها الأدب في التعلم ليست اقتراحات مُثبَتة على أرض الواقع. (لنفترض أن أحد المُشرفين التعليميين قد أعد تقريرًا عن فعالية نظامنا التعليمي من خلال إدراج طرق يمكن أن يساعد المعلمون من خلالها الطلاب على التعلم؛ فلن تكن هناك حاجة للمشرف بعد فترة وجيزة).
كلي ثقة بأنه يمكننا أن نتطلع إلى أدلة أفضل، رغم عدم تفاؤلي من نتائجها. وها هنا سبب للاعتقاد بأن فكرة التعلم الأخلاقي والاجتماعي من الأدب قد تكون فكرة مضللة.
أحد الأسباب التي جعلت مارثا نوسباوم، ومَن على رأيها، يجادلون حول فوائد الأدب هو أن الأدب، أو السرد الروائي الرفيع، يتناول القضايا الأخلاقية بتعقيداتها. فالأدب يأخذنا بعيدًا عن القواعد الأخلاقية البسيطة التي غالبًا ما تثبت عدم منفعتها عند اتخاذ القرارات الصعبة في الحياة الواقعية، ويهيئنا للاستعداد لرحلة عاصفة عبر المحيط الاجتماعي من المفترض أن يخوضها الفاعلون الأخلاقيون الحساسون والمميِّزون. بعبارة أخرى، يساعدنا الأدب على أن نكون أو نقترب من أن نكون “خبراء” أخلاقيين.
تكمن مشكلة هذه الحجة في وجود أدلة سابقة على أن الكثير مما نكسبه من خبرات في المجالات المعقدة وغير المُتنبَّأ بها – التي تتضمن المبادئ الأخلاقية بالتأكيد – هي خبرات مزيفة. فقد أثبتت دراسة تلو الأخرى منذ 50 عامًا على يد عالم النفس بول ميهل، إن اتباع القواعد البسيطة – أي القواعد التي تأخذ في اعتبارها عوامل أقل من التي قد لا يكلف الخبير نفسه بأخذها في عين الاعتبار – يعمل بشكلٍ جيد، وعلى نحوٍ أفضل بشكلٍ عام من الاعتماد على حكم الخبير. (لا أقصد هنا أن هذه القواعد تعمل بشكل جيد على وجه الخصوص؛ بل هي في وضع أفضل مقارنةً بحكم الخبير.)
قدَّم كتاب دانييل كانيمان الأخير “التفكير بسرعة وببطء” بعض الأدلة على هذا الرأي بشكلٍ مقنع: فالإخفاقات المذهلة للخبرة تشمل الكثير من النواحي كالتنبوء بالقيمة المستقبلية لنبيذٍ ما، ومستوى أداء لاعبي البيسبول، وجودة صحة الأطفال حديثي الولادة، وآفاق الحياة الزوجية فيما يتعلق بالاستقرار الزوجي.
وإن تساءلت عن جدوى شكواي من إهمال الناس للأدلة عندما لا أملكُ -شخصيًا- دليلًا مباشرًا على فشل الخبرة الأخلاقية، فسأجيبك أن سبب هذه الشكوى هي عدم قيامنا بإجراء الاختبارات الكافية في هذا المجال.
وقد أوافقك الرأي أنه في النهاية يمكن للأدلة أن تدعم فكرة أن الأدب يمكن أن يصنع منا خبراء أخلاقيين. وسأوافقك كذلك على أن التفكير الأخلاقي ربما ليس مجالًا واحدًا، لكنه شيء يحدث بطرق متعددة بشكل محير في ظروف مختلفة، فقد نجد لاحقًا أن أنواع التفكير الأخلاقي الذي تدرب فيه الخبراء جزئيًا عبر التعرض للأدب القصصي المتعلق بالاختيارات الأخلاقية المُعقَّدة يبلون أفضل من أولئك الذين يعتمدون على قواعد عملية أخلاقية بسيطة.
إذن، لم أدحض بأي شكل من الأشكال الادعاء بأن الخبرة الأخلاقية هي ميزة يجب أن نتطلع إليها. لكنني أعتقد أننا قد حددنا تحديًا يجب أن يواجهه أي شخص يرغب بجدية في إيجاد تبرير مقنع للخبرة الأخلاقية.
في النهاية، سيعتمد كل شيء على ما إذا كان بإمكاننا أن نجد دليل سببي مباشر أم لا؛ فنحن بحاجة إلى دليل على أن قراءة الأدب تُحدث قدرًا من الاختلاف الإيجابي في الأشخاص الذين نصبح عليهم في النهاية. سيتطلب ذلك الكثير من البحث النفسي الدقيق والمتعمق (حاول، على سبيل المثال، تصميم تجربة لاختبار تأثيرات قراءة رواية “الحرب والسلام” على سبيل المثال). في هذه الأثناء، من المحتمل أن يستمر معظمنا في نظرته الإيجابية للآثار المُحسّنة للأدب، لا يدعمنا شيء سوى دعائم من العواطف غير واقعية.
لم تقنعني قط تلك الحجج التي تدعي أن مجال الأدب عبارة عن تصنيف اعتباطي لا يعمل سوى كبطاقة عضوية للانتماء لمجتمع النخبة. فهناك ما يُسمى بالقيمة الجمالية، أو بالأحرى، القيم الجمالية على الرغم من صعوبة إبرازها في أي عمل فني مُحدَّد أو نسبها إليه.
لكن يصعب تجنب فكرة أن هناك شيئًا ما يخص قلق معاداة النخبة. فكثير من الذين يستمتعون بالأعمال الأدبية التي كُتبت بجهد كبير لا يكتفون بجني ثمار جمالية من قراءتهم؛ بل يصرون على أن هذه الأعمال تجعلهم أكثر استنارة من الناحية الأخلاقية كذلك. وهذا ما لم نستيقن منه بعد.
الكاتب: غريغوري كوري أستاذ الفلسفة في جامعة نوتنجهام.
المترجمة: أستاذة النقد والأدب المُشارك، وباحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة.
?Does Great Literature Make Us Better
Gregory Currie
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”