تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
نحن نعتقد أننا نُشارك الحقائق، ولكننا في الواقع نُعبّر عن مشاعرنا في مسرح اشتعال الغضب
نظرًا لمقدار الحديث بشأن الأخبار المزيفة “fake news”، والتغريد والقلق بشأنها، قد يعتقد القارئ أننا نعرف الكثير عن معنى “الأخبار المُزيفة”. بطريقةٍ ما، نحن نعرف معناها. نحن نعلم عن القصص المُزيفة التي تُعرض كعملٍ صحفي شرعي، والتي اُستخدمت لمحاولة التأثير على الانتخابات. ونعلم أن هذه القصص تُساند في نشر نظريات المؤامرة – بل وقد تصنع في أذهان الناس ذكرياتٍ مختلقةٍ لم تحدث – ولكننا كذلك نعلم أن مصطلح “الأخبار المزيفة” بات تعبيرًا مجازيًا، فشاع وساء استعماله حتى أنه لم يعد يؤدي وظيفته الأصلية.
فَلِمَ ذلك؟ ولماذا لا تزال الأخبار المُزيفة – وأعني بذلك الأخبار المُزيفة حقًا – مؤثرةً رغم افتراض معرفتنا بهويتها؟ لو تأملنا في عواطفنا مع قليل من المساندة من الفلسفة اللغوية المعاصرة وعلم الأعصاب لوجدنا جوابًا مقترحًا لكلا السؤالين.
كثيرًا ما يلتبس علينا الدور الذي تلعبه العواطف في حياتنا، فمن جهةٍ، نحن نحب الاعتقاد، مع أفلاطون “Plato”، بأن العقل “reason” يقود عربة الخيل الخاصة بأذهاننا، ويُحافظ على الخيول الجامحة لعواطفنا مُعتدلة ومُنصاعة في مسارها. ولكن، أغلبنا قد يُقر أنه في مُعظم الوقت، كان ديفيد هيوم أقرب إلى الحقيقة حينما قال إن العقل عبدٌ للعواطف. إضافة إلى ذلك، نحن كثيرًا ما نخلط مشاعرنا بالأمر الواقع ذاته: هناك شيء ما لا نستحسنه، لذا فإننا نقول إنه خطأ أو باطل.
ونتيجة لذلك، يُمكن أن تعمل تواصلاتنا اليومية كوسيلة لنقل العواطف دون أن نُدرك ذلك، وقد سلط الضوء على هذه النقطة فلاسفة اللغة من منتصف القرن العشرين الذين يُطلق عليهم في كثير من الأحوال “التعبيريين” (expressivists). كانت وجهة نظرهم أن الناس في حديثهم يظنون أنهم يصفون حقائق بينما هم في الحقيقة يعبّرون عن عواطفهم. طبّق التعبيريون هذه الفكرة على نحوٍ واسعٍ للغاية، على كل الأمور الأخلاقية التي يجري تبادلها بشأن الصواب أو الخطأ، والفضيلة أو المنكر. ولكن حتى لو لم نأخذ توجههم بنفس التوسع، تظل رؤيتهم تشير إلى شيءٍ يحدث عندما نُشارك منشورات إخبارية -سواء كان خبرًا مزيفًا أو لا- أو نعيد تغريدها عبر الإنترنت.
عند المشاركة أو إعادة التغريد، نميل إلى أن نفكّر في أنفسنا بأننا ننقل نوعًا من المعرفة أو ندعمه – وهو فعلٌ يسميه الفلاسفة إسداء الشهادة. وبالطبع في أحيانٍ أخرى تدفعنا الأحداث السعيدة، والمفارقات الساخرة إلى النشر والتغريد كذلك. ولكن يبقى النشر أو التغريد المضللَين شاذَين عن المعروف والمعتاد، والدليل أن مُعظم الناس يشعرون بوجوب توضيح أن إعادة التغريدات لا تُعد مُصادقاتٍ عليها. لن يكون لذلك معنى، لو أن الافتراض الأوّلي لم يكن أن المنشورات وإعادة التغريدات تُعدّان إعادة دعمٍ للمنشور.
ولكن ماذا لو كان لدينا التباسٌ فَحسب حول الطريقة التي يعمل بها التواصل عبر الإنترنت؟ يُمكن العثور على الأدلة فيما نفعله وما لا نفعله حينما ننشر محتوى عبر الإنترنت.
لنبدأ بما لا نفعله: تُقدّر الأبحاث المعاصرة أنه على الأقل 60% من الأخبار المنقولة عبر الإنترنت لم يقرأها حتى ناقلها، فكما لخّص كاتب إحدى الدراسات الأمر بقوله: “رغبة الناس في نشر المقالات أكبر من رغبتهم في قراءتها”. وعلى الصعيد الآخر، ما نفعله نحن هو مشاركة المحتوى الذي يُغضِب الناس. فقد وجدت الأبحاث أن أدق مؤشر لتوقع مشاركة أحد المنشورات هو احتواؤه على عواطف قوية – ويشمل هذا عواطف الود (كمنشورات القطط اللطيفة) وعواطف الغضب بشأن الشؤون الأخلاقية. إذ تشير الدراسات إلى أن العواطف المُثقلة بشؤون الأخلاق لديها فاعلية خاصة في نقل المنشورات: فكل تعبير أخلاقي في تغريدة يزيد فرصة مشاركتها بواقع 20%. وقد تثير وسائل التواصل الإلكتروني عواطفنا بشكل خاص كذلك؛ فعلى سبيل المثال: الأفعال التي لا تثير غضبنا على أرض الواقع تثير غضبًا أشد داخل المجتمع الإلكتروني، ولعل أحد أسباب ذلك هو أن المزايا الاجتماعية للغضب لا تزال قائمة دون المخاطر المعتادة.
وهذا يُظهِر لنا أن نقل المعرفة ليس السبب الأولي لمشاركة القصص الإخبارية، فكما تقول الفيلسوفة المعاصرة المؤثرة روث ميليكان “Ruth Millikan”: الوظيفة المثبِّتة “stabilizing function” لأي فعل تواصلي تكمن في السبب وراء استمرار هذا الفعل التواصلي. فالوظيفة المثبِّتة لصراخ أحدهم “رمية ضائعة!” في وجه أحد لاعبي كرة السلة الذي يحاول القيام برمية حرة هو تشتيته. هذه الصرخة قد يكون لها دور مختلف كذلك، مثل: تسلية الناس أو حتى وصف، ما يتضح في الواقع أنه رمية ضائعة. ولكن يظل السبب في استمرار الناس في إطلاق هذه الصرخة “رمية ضائعة!” هو التشتيت. وقد يلتبس الأمر على شخص جديد على هذه الرياضة فلا يستوعب ذلك على نحو صحيح؛ فيظن أن الناس يحذرون من ضياع الرمية أو أنهم يتوقعون مصير الرمية، ومثل هذه التفسيرات تُعد غير دقيقة في فهم الوظيفة المثبِّتة لهذا التعبير.
والحقيقة أن شيئًا من هذا القبيل يحدث على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي، فنحن كهذا الشخص الجديد على رياضة كرة السلة. نحن نظن أننا نشارك القصص الإخبارية لتحقيق هدف واحد: وهو نقل المعرفة، ولكننا في أغلب الأحيان – وبغض النظر عما يقوله وعينا – لا نستهدف ذلك البتة، فلو كنا نستهدف نقل المعرفة لالتزمنا على الأقل بقراءة المنشور الذي نشاركه. ولكن أغلبنا لا يقرأه، ولهذا أتساءل: ماذا نصنع عند نشرنا المحتويات؟
أعتقد أنه من المعقول القول بأن الوظيفة المثبِّتة لممارسة أو عادة مشاركة المحتوى عبر الإنترنت هو التعبير عن عواطفنا. وبالأخص، عندما يتعلق الأمر بمشاركة القصص الإخبارية السياسية، فغالبًا نود إظهار غضبنا آملين أن ينشر المحتوى أشخاصٌ آخرون. وهذه إحدى الطرق التي تتكون بها مجتمعات ذات طبيعة قبلية، وتُفرض بها أعراف اجتماعية. تُعد وسائل التواصل الاجتماعي مسرحًا لاشتعال الغضب. ومن المفارقات أن نجاحها يكمن في أن أغلب البشر لا يستوعبون (أو لا يريدون أن يستوعبوا) هذه الحقيقة عنها.
إلا أن غياب الاستيعاب هذا هو ما يستغله المُتصيدون (trolls) وغيرهم من العاملين في مُجمع صناعة المعلومات الكاذبة. مُصممو الأكاذيب المُتعمدة ولكن المُقنِعة يدركون تمامًا أننا في نشرنا أكاذيبهم نصنع شيئًا خلاف ما نظن أننا نفعله، وهذا الالتباس يجعلنا هدفًا سهلاً.
وكذلك تُفسر لنا رؤية التعبيريين سبب تغير استعمالات المصطلح “أخبار مزيفة” ذاته، فقد أصبحت وسيلةً للتعبير العدواني، شبيهةً بصراخ المشجعين “بووو” في مباراة رياضية. ولعل هذه من أشد المفارقات الساخرة المعبرة عن عصر العبثية الذي نعيشه، فحتى محاولاتنا في تمييز الحقيقة من الباطل تتحول إلى صرخات غاضبة.
الكاتب: مايكل باتريك لينش هو أستاذ للفلسفة ومدير لمعهد الدراسات الإنسانية بجامعة كُونِّكتِكِت، وهو مؤلف، في الآونة الأخيرة لكتاب Know-it-All Society: Truth and Arrogance in Political Culture.
المترجم: مترجم سعودي.
?Do We Really Understand Fake News
Michael P. Lynch
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”