تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٢٩ مايو ٢٠١١
كان هذا العام عام الانتفاضات؛ حيث بدأت سلسلة الثورات الشعبية والنضالات وعمليات القمع من الحكومات، واستمرت حتى يومنا هذا. ففي تونس عندما طالب المتظاهرون بإقالة الرئيس زين العابدين بن علي، كانت مطالب المتظاهرين تدور حول الحق في العيش؛ (أي الاعتراض على غلاء الطعام) والفساد السياسي وحرية التعبير والحقوق السياسية الأساسية، ومن ثم انتقل الأمر نفسه إلى مصر؛ حيث توافد الآلاف على ميدان التحرير في القاهرة وأماكن أخرى، وكانت مطالبهم مماثلة لتلك المطالب في تونس. نجحت كلتا المجموعتين من المتظاهرين؛ حيث فرّ قادة كلا البلدين، وكانت هذه هي الموجة الأولى التي كانت سلمية إلى حدٍ كبير.
ثم انخرط مواطنو دول أخرى كالبحرين واليمن وسوريا وليبيا، لكن لم يرغب قادة هذه الدول بالرحيل، بل أمروا جنودهم بإطلاق الذخيرة الحية على الحشود وسجن قادة المجموعات المتظاهرة، وقُتل الكثيرون؛ حيث شنَّ العقيد معمر القذافي هجومًا مضادًّا دمويًا ووحشيًّا إلى الحد الذي دفع الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى الرد العسكري، فكانت الموجة الثانية عنيفة.
شعرت دول الموجة الثالثة مثل: الأردن وعُمان والكويت بضغوط هذه الأحداث، وأجرت بعض التغييرات استجابةً لمظاهرات سلمية في أكثرها تذكرنا بربيع براغ في عام 1968م.
تستند الثورات إلى الشكاوي، ويمكن أن تنشأ تلك الشكاوي من هموم واقعية مثل: الحاجة إلى توفر الغذاء بسعرٍ مناسب، أو من مخاوف نظرية، أو هموم اجتماعية، مثل: القدرة على حرية التعبير، وكلاهما يرتكز على فهم ما يجب أن يتمتع به الشعب كمواطنين في بلدٍ ما. توقع الحقوق الأساسية هو ما نتحدث عنه عندما نتحدث عن حقوق الإنسان. لكن السؤال المثير للجدل هو: هل للإنسان حقوق محددة لمجرد كونه إنسانًا حيًا على هذا الكوكب؟ — وهو المفهوم الذي سأشير إليه في ثنايا المقالة باسم «حقوق الإنسان الأصيلة.» في هذه الآونة، عندما يبدو أنَّ أسئلة جديدة حول الحقوق والشكاوي والنزاعات الناشئة عنها تظهر من جديد كل أسبوع، فمن المفيد معرفة موقفنا من هذه المسألة.
ناقش الفلاسفة وعلماء القانون هذه القضية بشكلٍ مكثف خلال العقود القليلة الماضية. وشكّلت مقالة هربرت هارت المثيرة للجدل، المنشورة عام 1955م بعنوان «هل هناك أي حقوق أصيلة؟»، إحدى نقاط الانطلاق المهمة لهذه المناقشة: حيث قدّمت طرحًا بأنَّ الحقوق الأصيلة (ما نسميه عادةً بحقوق الإنسان) كانت من اختراع التنوير الأوروبي، مجرد بنى اجتماعية. حذا ذلك حذو أحد الوضعيين القانونيين الآخرين من القرن التاسع عشر -وهو جون أوستن- في عمله المؤثر للغاية: “محاضرات حول التشريع”. بالنسبة لهارت وأوستن، ففحص النصوص الأوروبية القديمة لا يكشف عن وجود ذكر فعلي لـ «الحقوق» أو «الواجبات». يعني عدمُ وجود هاتين الكلمتين يمثل عدمَ وجود مفهوم عملي للحق أو الواجب (إذا كانت جميع المفاهيم تتطلب كلمات للتعبير عنها)، وإذا لم يكن هناك مفهوم عملي للحق أو الواجب، فإنَّ هذه الأفكار لم تكن موجودة قبل عصر التنوير الأوروبي.
إذا كانت الحجة صحيحة، فإنَّ حقوق الإنسان اخترعها لوك، وهوبز، وروسو، وكانط، وهيوم، وهي ليست «أصيلة» أو «حقيقية» على هذا النحو، بل هي بناء اجتماعي عشوائي لا ينطبق سوى على المجتمعات التي تختار أن تتبناه – كما قد تختار تبنّي الوصول عالي السرعة إلى الإنترنت أو إستراتيجية ري زراعية معينة. في ظل هذا السيناريو نجد مفهوم حقوق الإنسان الأصيلة ليس تصنيفًا عالميًا شرعيًا يمكن من خلاله الحكم على السلوك المجتمعي أو الفردي.
من الواضح أنَّ هذا سؤال مهم للغاية. فلن تكون السياسة الدولية قادرة على الدفاع عالميًا عن بعض الحقوق الأساسية – مثل تلك المنصوص عليها في إعلان الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أو وثيقة حقوق الولايات المتحدة وإعلان الاستقلال، أو «ميثاق 08» لليو شياوبو. وبالطبع، فإنَّ فكرة وجوب تدخل الناتو أو فرنسا أو الولايات المتحدة أو أي دولة أخرى في ليبيا لم تكن لتظهر أبدًا. بدلاً من ذلك، ستكون لكل أمة الحرية في معاملة مواطنيها كما تشاء، بما لا يخضع سوى لسطوة القوة؛ فلم يكن هتلر ليعد مخطئًا في تنفيذ الهولوكوست، بل كان ضعيفًا فحسب؛ لأنه خسر الحرب. وستكون النتيجة المنطقية لهذا الموقف هي مقدار الأخلاق الراديكالية مقابل الأنثروبولوجيا الثقافية المختلفة.
هناك وسيلتان يمكن من خلالهما تناول حقيقة الأساس الأصيل لحقوق الإنسان:
(أ) حدوث دفاع من المؤلفين عن حقوق الإنسان قبل التنوير الأوروبي أم لا.
(ب) وجود أساس منطقي لحقوق الإنسان يمكنه إثبات قابليتها للتطبيق على جميع الناس أيًّا كان الوقت الذي تم فيه الاعتراف بصحته أم لا.
المسار الأول طويل جدًا يتعذر تضمينه هنا. لقد دافعت عن الأساس الأخلاقي لحقوق الإنسان عند الرواقيين، وأجرى هنريك سيس محاولة مماثلة من خلال الاستشهاد بالكُتَّاب الرومان القدماء، واقترح آلان جيويرث أنه يمكن استخلاص المفهوم من أرسطو على أقل تقدير، وهناك على الأقل حجة فلسفية نابضة بالحياة هنا.
الحالة الثانية على ما يبدو أكثر إثارة للاهتمام. إذا كان صحيحًا وجود أساس منطقيّ وموضوعيّ وملموس لحقوق الإنسان غير مرتبط بالزمان أو المكان، فهذه الحجة ستكون كافية لإثبات وجود حقوق أصيلة للإنسان.
الآن يمكن وضع المرشحين لهذا العرض التقديمي في معسكرين: النهج القائم على المنفعة، والنهج القائم على الفاعلية. أمَّا النهج القائم على المنفعة الذي دافع عنه جوزيف راز وجيمس جريفين، فالسؤال المهم الذي يجب طرحه هو ما الشروط اللازمة لضمان الحد الأدنى من الرفاهية بين الناس في المجتمع؟ قوة الحجة تكمن في أحقية كل الناس في كل مكان على الأقل بالتمتع بالحد الأدنى من الرفاهية والحريات والسلع اللازمة للوصول إليهم هناك.
وأما نهج الفاعلية فهو مختلف نوعًا ما؛ إذ يأتي في نوعين:
النوع الأول: نظرية القدرة التي دافع عنها أمارتيا سين ومارثا نوسباوم. يسعى هذا النهج في أبسط أشكاله إلى تعزيز الفاعلية البشرية – تقريبًا: قدرة الناس على التصرف- عبر إستراتيجيات السياسة العامة التي تعزز الحرية الفردية والفرصة للبحث عن تلك السلع التي يشعر كل شخص بأنها ستعزز ازدهاره البشري، ومن ثمَّ يتم تعزيز الفاعلية من خلال المبادرات الاجتماعية.
أما النوع الثاني فيسعى إلى الكشف عن أصول الفاعلية نفسها – ما السمات الأساسية التي تسمح بتنفيذ الفعل البشري؟ من هذا المنطلق الذي دافعتُ عنه (أنا وآلان جيويرث، وآخرون( يتم تحديد سلع معينة باعتبارها لازمة للفعل البشري. في رأيي: يتم وضعها في ترتيب هرمي مشابه لتسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات:
ويعمل كللا النهجين: النهج المستند إلى المنفعة والنهج المستند إلى الفاعلية في ظل الافتراض بأنَّ هناك حقوق أصيلة للإنسان مكفولة لكل إنسان على وجه الأرض من بداية وجود الإنسان العاقل على الكوكب (تم الدفاع عنه بحجج منفصلة).
هناك بالطبع تبريرات أخرى لحقوق الإنسان ليست عالمية، لكنها تستند إلى معايير تقليدية مثل الإجماع (نهج العقد الاجتماعي). تعتمد هذه التفسيرات إما على أشخاص حقيقيين يوقعون معاهدات في العالم (غالبًا تكون اتفاقيات متعددة الأطراف عبر مؤسسات مُعترَف بها دوليًا مثل الأمم المتحدة)، أو حالات تعاقد افتراضية تم وضعها في سياق خيالي، (مثل الموقف الأصلي لجون راولز أو عقد جون لوك الاجتماعي، وآخرون).
قد تكون أسس حقوق الإنسان جذابة من الناحية المفاهيمية، لكنها تخضع للتنوع وفقًا للأشخاص الحقيقيين المعنيين أو الفيلسوف أو الممارس المعين الذي يقوم بدور السيناريو وفقًا لرؤيته للخير. ولن تكون النتيجة النهائية هي الشمولية المطلوبة لدرء النسبية الأخلاقية.
يأتي النوع الثاني من المعترضين على ادعاءات حقوق الإنسان الأصيلة من جمهورية الصين الشعبية، ومن أحد التفسيرات الشعبية للإسلام وأساسها مستمد من وجهة نظر تاريخية (تقليدية) بتجذر الأخلاق في الصين وفي الإسلام.
أما الصين، فواضع النظرية هو كونفوشيوس. حيث أرسى في عمله المؤثر للغاية، «مختارات»، نقطتين أساسيتين:
كلٌ من هذه الفضائل الشخصية والمدنية علائقية، وتعمل العلاقة على هذا النحو:
(أ) هناك مجتمع، ووجوده حقيقة تاريخية مفروضة غير قابلة للنقاش.
(ب) هناك فرد وهو حر في اختيار الكيفية التي يمكن أن يتلاءم بها مع هذا المجتمع بطريقة حانية ومتوازنة (يأتي الكثير من التحليل الحديث لهذا من عمل أنجيل وسفينسون). لا يُرحَّب بالتفسيرات الفردية لمعايير المجتمع إلا إذا كانت تفسيرات داعمة. وتُحدَّد اعتناءنا وتوازننا الشخصي عبر فهم قيم المجتمع؛ حيث تتكوَّن الحرية الفردية لكل شخص من إيجاد طريقة لتلائم رغبات حياته ضمن حدود المجتمع. ولذا تصرح الحكومة الصينية ضد اعتراضات الغرب: «دعونا وشأننا، نحن نعمل ضمن حدود معاييرنا المجتمعية التي كانت موجودة منذ أن كتب كونفوشيوس قبل 2500 عام تقريبًا، فنحن نسمح بحرية التعبير في حدود هذا البناء الأخلاقي.»
وأمَّا الحالة الثانية فلدينا دور «الأمة» في الإسلام. الأمة تعني المجتمع باللغة العربية، وضع النبي محمد نفسه وصفًا واحدًا للمجتمع في دستوره للمدينة المنورة؛ إذ كانت في المدينة المنورة خلافات بين مختلف الجماعات الدينية حول الحقوق والامتيازات، وكانت هذه مشكلة خطيرة؛ لأنَّ كل مجموعة من اليهود والمسلمين والديانات المحلية أرادت الهيمنة وفرض معتقداتها، وما وضعه محمد كان طريقة لإرضاء مطالب الجماعات الدينية المتنوعة التي عاشت هناك ضمن إطار عقد اجتماعي؛ حتى يمكن تمتع الجميع بالحقوق الأساسية كمواطنين. يشعر الكثيرون في الشرق الأوسط أنَّ دستور المدينة يضع مخططًا لكيفية معالجة مخاوف حقوق الإنسان: أي إنشاء عقد سياسي أو اجتماعي يلبّي احتياجات الجميع المُتفاوَض بشأنها ويلبي مطالب حقوق الإنسان، وبمجرد حدوث هذا تظهر حقوق الإنسان؛ فهي حقوق تفاوضية، وليست حقوقًا أصيلة.
كلاهما اعتراض صعب لحقوق الإنسان الأصيلة، وكلاهما متماثل في الأساس؛ فمن ناحية، يضع التاريخ الاجتماعي المعيار (نوعًا واحدًا من الاتفاقية)، ومن ناحية أخرى تستند تسوية سياسية بين الفصائل المتنازعة على تسوية المصالح الذاتية (نوعٌ آخر من الاتفاقية). إذا كان هذان الردان صحيحين، فليس هناك حقوق إنسانية أصيلة عالمية.
على النقيض من هذه الاعتراضات سأحاجج بأنه إذا كانت جميع المجتمعات أو الأمم على الأرض تتمتع بالنوع نفسه من الاستقلال الذاتي الذي يضفي الشرعية على أي عمل يعتبرونه مقبولاً ويمكن أن يستمر لفترة من الوقت، فإنَّ الأخلاقيين سيفوزون. ليس هناك حقوق أصيلة للإنسان، ويجب التخلص من المشروع بأكمله. ومع ذلك، إذا لم تكن المجتمعات جهات فاعلة تقيم العدل بذاتها (بمعنى أنه يجب عليها التصرف ضمن هيكل أخلاقي أعلى)، فستفشل المناورة المجتمعية التقليدية، وستكون هناك حقوق أصيلة للإنسان، وستتطلب منا الاعتراف بها وتنفيذها.
الطريقة التي نرى بها في الاضطرابات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مشروطة أيضًا بالطريقة التي نفهم بها حقوق الإنسان. فإذا كانت هناك حقوق أصيلة للإنسان، فسيكون المستبدون المسؤولون عن قمعها مخطئين، ويجب عليهم إما إنشاء ملكية دستورية أو جمهورية ديمقراطية. وإذا لم تكن هناك حقوق أصيلة للإنسان، فستكون العملية كاملة عملية مفاوضات سياسية تنطوي من ناحية على احتجاجات سلمية ومن ناحية أخرى على حرب أهلية دموية. ويتطلب فهمنا الكامل لهذه الأحداث ضرورة الانحياز لأحد الجانبين، لكن كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟
لديَّ تجربة فكرية قد تساعد القارئ على تحديد ما يعتقد أنه الموقف الصحيح، وهي تخيل العيش في مجتمع تؤذي الأغلبية منهم بعض الأقلية (تسمى هنا «الآخر»)، وسبب هذا القمع هو الاعتقاد بأن «الآخر» مزعج ومستفز، أو أنه يمكن استخدامه لتحقيق ربح اجتماعي. هل توافق على ذلك؟ الآن تخيل أنك مصدر إزعاج متعب، وأنَّ المجتمع يريد سحقك بسبب التحدث عما يدور في ذهنك في محاولة لتحسين المجتمع. هل توافق على ذلك؟ هذه حقًا الحالة نفسها. اكتب أسبابك، وإذا كانت أسبابك ظرفية ومتجذرة في سياق ثقافي مُعيَّن مثل الالتزام باتفاقيات مقبولة اجتماعيًا، مثل ربط قدم الأنثى أو حرمان المرأة من حق القيادة، فيمكنك الإدلاء بصوتك مع هارت وأوستن وكونفوشيوس. في هذه الحالة ليس هناك حقوق أصيلة للإنسان. وإذا كانت أسبابك تشير إلى مبادئ أعلى مثل القاعدة الذهبية، فأنت تدلي بصوتك مع الكونيين: هناك حقوق أصيلة للإنسان. هذا تدريب مهم، قم بإجرائه مع كل شخص قريب منك اليوم، وأخبرني برأيك.
الكاتب: مايكل بويلان هو أستاذ الفلسفة بجامعة ماريماونت في أرلينجتون، بولاية فيرجينيا: وكان زميلاً في مركز التقدم الأمريكي في واشنطن، من عام 2007م إلى عام 2009م. عمله النظري الرئيسي في هذه القضايا هو «مجتمع عادل» (2004م). وآخر كتاب له هو «الأخلاق والعدالة العالمية: التبريرات والتطبيقات» (2011م).
المترجم: باحث متخصص في العلوم الإنسانية، مهتم بالفلسفة والتاريخ.
?Are There Natural Human Rights
Michael Boylan
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”