تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
شكّل الفيزيائيون مؤخرًا بعض الأعباء على الفلاسفة. ويدعي ستيفن هوكينج في خطاب ألقاه عام ٢٠١١م أنَّ الفلسفة “ماتت”؛ لأنَّ الفلاسفة لم يواكبوا العلم. وأصر أيضًا في الآونة الأخيرة لورانسُ كراوس في كتابه: “كون من لا شيء” على أنَّ “الفلسفة واللاهوت بحد ذاتهما غير قادرين على معالجة الأسئلة الأساسية التي تحيرنا بشأن وجودنا”، واستعرض ديفيد ألبرت فيلسوف العلوم المتميز كتاب كراوس باستخفاف قائلًا: “كل ما يمكن قوله عن هذا [ادعاء كراوس بأنَّ الكون ربما جاء من لا شيء] -على حد علمي- أنَّ كراوس مخطئ، ونقاده الدينيون والفلاسفة على حق تمامًا”. رد كراوس –متجاهلًا دكتوراة ألبرت في الفيزياء النظرية– في مقابلة له بأنَّ ألبرت “فيلسوف أحمق”. (خفّف كراوس من حدة وجهات نظره في مقال كتبه عام ٢٠١٢م لمجلة العلوم الأمريكية).
أود أن أرى ما إذا كان بإمكاني رفع مستوى المناقشة قليلًا، فإنَّ كراوس -رغم بعض الجوانب السيئة- لا ينكر أنَّ الفلاسفة قد يكون لديهم ما يساهمون به في فهمنا “للأسئلة الأساسية”. (إنَّ كلمة: “بحد ذاتها” في الاقتباس أعلاه مؤهل نموذجي). ويتفق جميع الفلاسفة تقريبًا – وبالتأكيد ألبرت – على أنَّ المعرفة الوثيقة بالعلوم ضرورية لانضباطهم. لذلك يجب أن يكون من الممكن -على الأقل- بدء أسلوب فكري يتضمن الفيزياء والفلسفة.
هناك تقليد ممتد للحجة الفلسفية لوجود الله على أساس أنَّ الكون المادي (الفيزيائي) ككل يتطلب تفسيرًا غير مادي. وكذا يجب أنَّ الكون نشأ من لا شيء، وليس من الممكن أن يأتي شيء ما من لا شيء. (أحد الردود على الحجة أنَّ الكون ربما كان موجودًا دائمًا، ومن ثَمَّ لم ينشأ أبدًا، ولكن غالبًا ما يقال: “إنَّ الانفجار العظيم الراسخ في علم الكونيات المعاصر يستبعد هذا الاحتمال).
كراوس غير متعجب تماما بهذا الأسلوب من الحجّة؛ لأنه -كما يقول- تعتمد قوته على معنى “لا شيء”، و تعتمد هذه الدلالة في سياق علم الكونيات على المعنى الذي يمكن أن يصقله العلم لهذا المصطلح. على سبيل المثال، أحد المعاني العلمية المعقولة لـ “لا شيء” هو “الخلاء”، أي: الفضاء الذي ليس به جسيمات أولية. لكنَّ ميكانيكا الكم تظهر أنَّ الجسيمات يمكن أن تنبثق من الخلاء، وهكذا يبدوا أنها تُظهر أنَّ الكون -أي: جميع الجسيمات الأولية ومن ثَمَّ الأشياء التي تشكلها- يمكن أن تأتي من لا شيء.
ولكن يعترف كراوس أنه من الممكن أن تخرج الجسيمات من الخلاء؛ لأنَّ الخلاء يحتوي -رغم اسمه- على حقول افتراضية تتغير، ويمكن أن تعطي خصائص للخلاء حتى في غياب الجسيمات. تخضع هذه الحقول لقوانين تسمح بالإنتاج “العفوي” للجسيمات. وسيجادل الفيلسوف بأنَّ الحقول الافتراضية هي “الشيء” الذي تأتي منه الجسيمات. يوافق على ذلك كراوس، ولكن هناك احتمال آخر بأنَّ نظرية الكم للجاذبية التي طال انتظارها، والتي توحِّد ميكانيكا الكم والنسبية العامة، ستسمح بالإنتاج التلقائي للخلاء نفسه بسهولة وبحكم قوانين النظرية. ثم سيكون كل شيء لدينا –الفضاء والحقول والجسيمات– قادمًا من لا شيء.
لكن -كما يقول الفيلسوف- ماذا عن قوانين الفيزياء؟ إنهم شيء، ولا شيء. ومن أين أتوا؟ حسنًا، يقول كراوس –في محاولة للتحلي بالصبر–: “هناك منهج نظري واعد آخر يفترض افتراضًا معقولًا، وهو وجود “أكوان متعددة”: مجموعة لا حصر لها من الأكوان القائمة بذاتها وغير المتفاعلة، ولكل منها قوانين الطبيعة الخاصة. قد تكون الأكوان المتعددة -في الواقع- تحتوي على أكوان مع كل مجموعة ممكنة من القوانين. لدينا القوانين التي نقوم بها بسهولة بسبب الكون المعين الذي نحن فيه. ولكن لا ريب أنه يمكن للفيلسوف أن يستجيب للقول بأنَّ الأكوان المتعددة نفسها تحكمها قوانين من مستوى أعلى.
يخلص الفيلسوف إلى أنَّ في كل منعطف قوانين للطبيعة، وتنطبق القوانين دائمًا على بعض “الأشياء” المادية التي تحكمها القوانين، -كالجسيمات والحقول، أو أيًّا كانت هذه الأشياء.. إذن، ففي أي حال من الأحوال لا يأتي شيء حقًّا من لا شيء.
ورغم ذلك يبدو لي أنَّ هذه قضية يربحها الفيلسوف في المعركة، ولكنه خسر الحرب. هناك استخدام مطلق لـ “العدم” يستبعد حرفيًّا كل ما هو موجود. كراوس –بمعنى ما- يتجاهل هذا الاستخدام بعناد. ولكن لو عرف كراوس أكثر عن الفلسفة، لأمكنه بسهولة الاستشهاد بكثير من الفلاسفة الذين يجدون هذا الاستخدام المطلق غير مفهوم، وكذا المبدأَ المقابل القائل بأنَّ شيئًا ما لا يمكن أن يأتي من لا شيء.
ولكن وإن نجا السؤال من كثير من الانتقادات الفلسفية لمفهوميته، فإنَّ هناك اعتراضات قوية على تطبيق أنَّ “شيئًا لا يمكن أن يأتي من لا شيء” على الكون كله. جادل ديفيد هيوم -على سبيل المثال- بأنه من التجربة فقط نعلم أنَّ الأشياء الفردية لا تنشأ إلى الوجود هكذا. (لا يوجد سبب تناقض منطقي في حدوث ذلك). ونظرًا لأنه ليس لدينا خبرة في ظهور الكون إلى حيز الوجود؛ فليس لدينا سبب للقول: بأنه إذا حدث، فيجب أن يكون له علة. سيكون هيوم وأتباعه سعداء تمامًا بترك مسألة علة الكون للعلم التجريبي.
في حين أنَّ كراوس يمكن أن يناشد الفلسفة لتعزيز حجته ضد “شيء لا يمكن أن يأتي من لا شيء”، فإنه يسمح لنفسه بالتعرض للنقد الفلسفي بسهولة بافتراض أنَّ التجربة العلمية -على حد تعبيره- هي “الحكم النهائي للحقيقة” حول العالم. يمنحنا نجاح العلم كل الأسباب لمواصلة اتباع طريقته التجريبية بحثًا عن مزيد من الحقائق، لكنَّ العلم نفسه غير قادر على إثبات أنَّ جميع الحقائق حول العالم يمكن اكتشافها من خلال مناهجه.
لا سيما إذا كان العلم يتعامل مع ما يمكن معرفته فقط تعاملًا مباشرًا أو غير مباشر، من خلال التجربة الحسية، فإنه لا يستطيع الإجابة عن سؤال: ما إذا كان هناك أي شيء –مثل: الوعي، أو الأخلاق، أو الجمال، أو الله– لا يمكن معرفته معرفة تامة من خلال التجربة الحسية؟ وسنحتاج -لإظهار ألَّا لا شيء يتجاوز التجربة الحسية- إلى حجج فلسفية، لا تجارب علمية.
قد يكون كراوس محقًّا في ترك الفلاسفة الأسئلة حول طبيعة العالم للعلماء. ولكن لا يمكن بدون فلسفة أن يكون ادعاؤه سوى مسألة إيمان، لا معرفة.
الكاتب: أستاذ الفلسفة في جامعة نوتردام، ومحرر في مراجعات نوتردام الفلسفية. وهو مؤلف الكتاب الأحدث “التفكير في المستحيل: الفلسفة الفرنسية منذ عام 1960″؛ وهو يكتب بانتظام في ذا ستون.
المترجم: باحث ومترجم سعودي.
?Can Physics and Philosophy Get Along
Gary Gutting
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”