تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
٣ أكتوبر ٢٠١٠
اعتبارًا من اليوم، لم يعد برنامج إنقاذ الأصول المتعثرة المعروف بـ TARP ساريًا، وكذلك عمليات الإنقاذ الطارئة التي ولدت إبان الذعر المالي لعام 2008، فقد انتهت وأفلست.
أصدرت لجنة الرقابة في الكونجرس الشهر الماضي تقريرًا يُقيَّمُ فيه البرنامج، مُعدٌّ للقراءة المتجهمة، فما أن أقرت اللجنة بضرورة تدخل الحكومة ونجاح ذلك بصد الكارثة الاقتصادية، حتى انحدرت السردية بسرعة حين أدير TARP بشكل سيء وفق ما ذكره التقرير، إذ خلق مخاطرة أخلاقية كبرى، وفشل بشكل بالغ في تقديم الحل تجاه حجز الرهن العقاري.
لا يبدو ذلك خبرًا صادمًا، فالجميع من اليسار، واليمين، والوسط، والولايات الجمهورية، والولايات الديمقراطية، وحتى أبناء المريخ، يكرهون إنقاذ وول ستريت، باسثناء المصرفيين والتجار بالطبع، وهم من تقاعسوا عن إبداء امتنانهم، ولم تحمر وجناتهم خجلاً من إعادة ملء أقبيتهم وبفارغ الصبر والتي كانت بمنأى عن الإفلاس. ربما كانت الأغلبية الساحقة أو حتى أقلية كبرى وجدت رغم ذلك أن عمليات الإنقاذ ضرورية، ولكن حتى من اعتبروها ضرورة أصابهم الحزن والخيبة. لم يكن ثمة خلاف في نظري حول لا أخلاقية عمليات الإنقاذ، فهي نتنة، وكان الخلاف الهام والوحيد عملي وسببي: هل سيكون أثر التخلي عن إنقاذ البنوك كارثيًا على الاقتصاد ككل أم لا؟ لا أحد يعرف الإجابة الصحيحة على هذا السؤال لكن بما أن الأمر هكذا فقد قررت الحكومة الأمريكية أنها لن ولا ينبغي عليها أن تلعب الروليت بمستقبل الأمة، ثم فعلت فعلتها القذرة.
نتفق جميعًا على القبح الأخلاقي لعمليات الإنقاذ وأنه كان يتعين عليها أن تزودنا بآليات تنظيمية حديثة وقوية. لقد فشلت وثيقة الإصلاح المالي بالتأكيد، والتي مُررت في الكونجرس في يوليو 2010 وكان حريًا بها أن تمنع الأزمة القادمة. ومن الجلي أن عقد الصفقات السياسية ونفوذ وول ستريت على سياسيينا هو جزء من تفسير هذا الفشل، لكن يكشف هذا الفشل عن نفسه حين يستمر الخلاف حول طبيعة السوق الحر. أرغب في أثناء النظر في هذه القضية، مرة أخرى، أن استمد مصادري من جورج فلهلم هيجل، إذ ليس هو الفيلسوف الوحيد القادر على تزويدنا بومضة مضيئة في هذه الناحية، لكن المسألة المبدئية في فلسفته العملية هي تحليل البؤرة الدقيقة بين الفردانية الحديثة وتقاطعها مع المؤسسات العميقة في حياتنا الحديثة، كما تستقر في هذه البؤرة الآن العديد من القضايا الساخنة اليوم.
لم يكتب هيجل بالطبع عن وول ستريت بشكل مباشر، لكنه استثمر فلسفيًا في منطق علاقات السوق، وتقريبًا في منتصف (فينمنولوجيا الروح 1807) قدم هيجل حجة تقول: لو فهم وسطاء وول ستريت ومصرفييه أنفسهم وعالمهم المؤسسي على نحو سليم، فلن يقبلوا بالضوابط التنظيمية الصارمة كي تحكم أفعالهم فحسب، وإنما سيرحبون بهذا التنظيم بحماس. إن طريقة هيجل المتعاطفة والمفارِقة معًا في التصريح بذلك تعني أن الفرداني في السوق الحر “هو من يتصرف وفق مصالحه الخاصة، فهو لا يعرف ما الذي يفعله ببساطة، فلو أنه أكد على أن الرجال جميعهم مدفوعون نحو مصالحهم الخاصة، فإنه يؤكد فقط أن جميع الرجال غير مدركين حقًا ما الذي قد تؤدي إليه أفعالهم”. طبقًا لهيجل فإن فكرة المصلحة الذاتية غير المشروطة، مثل السعي فقط خلف دافع الربح الأكبر، تخطئ في إدراك ماهية الفعل الإنساني وما سيكونه، ومن ثم فهذا غير مفهوم عقليًا. إن الفعل المدفوع بالمصلحة الذاتية بحسب ما يفهمه الوسطاء والمصرفيين لهو أمر مستحيل. لو صح ما قاله هيجل فلربما كانت هنالك أسباب أعمق وأكثر تجذرًا خلف التنظيم القوي للسوق وفوق ما نتخيله.
إن (فينمنولوجيا الروح) معرض لوحات فلسفية يقدم الصور، الواحدة تلو الأخرى، في الطرق المختلفة والجوهرية التي فهم فيها الأفراد والمجتمعات ذواتهم. إن كل فهم للذات له شِقان: الأول يخص نوعًا محددًا من فهم الذات للذات، والثاني يخص فهم العالم الذي تعتبره الذات نظيرها الطبيعي. يسرد هيجل كيف تسقط كل صياغة للذات والعالم بسبب عدم التطابق بين مفهوم الذات وكيف تدرك الذات العالم الأكبر. يعتقد هيجل أنه بمستطاعنا رؤية كيفية اندفاع التاريخ خلف صياغات مشوهة للحياة حيث كان فهم الذات للفاعلين ومساهمتهم في تلك الممارسات داخل العالم قد فشل في الانسجام معه. وبصورة درامية كبرى يزعم هيجل أن سرديته هي “طريق اليأس”.
يقع النقاش حول عقلانية السوق في فصل “الفضيلة وطريق العالم” من كتاب (فينمنولوجيا الروح). إذ يؤمن هيجل بالطبيعة الخيّرة للإنسان، وأن النفس الفاضلة تكافح بعد الكمال الذاتي الأخلاقي لتعارض سلوكيات المصلحة الذاتية الخبيثة للسوق أو ما يُدعى بـ “طريق العالم”. معظم هذا الفصل مكرّس لإظهار عبثية وفراغ فكرة “فارس الفضيلة” حيث يتشرد دون كيخوته الليبرالي في عالم حديث ومؤسسته المركزية هي السوق الحرة. يقف ضد الذات الفاضلة “كلام فخم عما هو الأفضل للإنسانية، وعن الاضطهاد الذي تلقاه الإنسانية، والحديث المتواصل حول التضحية من أجل ما هو أفضل” فـ “طريق العالَم” ينتصر بسهولة.
أيما كان الأمر، إن استقصاء هيجل يهدف لإظهار أن من يدافع عن فضيلةٍ ويعتبرها أكثر قداسة من غيرها، والمصرفي المهتم بمصلحته الذاتية، يقعان بنفس الخطأ وإن كانا من وجهتي نظر متعارضتين، فكلاهما يفترض فهمه الصحيح لما يحرك الأفراد نحو الفعل، ففارس الفضيلة يعتقد أننا خيّرون بطبعنا وأن السلوك في السوق الفرداني المشين يتطلب التضحية بالطبيعة الخيّرة: ويعتقد المصرفي أن المصلحة الذاتية الفجة، ودافعية الربح، هما ما سيقود إلى أفعال مثمرة.
كلاهما مخطئ لأن الأفعال – في نهاية المطاف – وليست الدوافع هي المهمّة، بالإضافة إلى كيفية تشابك هذه الأفعال مع بعضها لتصنع العالم العملي. إن ما يجعل من أطروحة الفضيلة وهمًا بلاغيًا هو أنه ليس ثمة عالم، وما من نشاطات مُجتمعة يُمكن للأفعال من خلالها أن تنسجم وتخلق جاذبية ما: فطرح الحب والسلام دون عقد عملي ومؤسساتي هو وهمٌ وليس فضيلة. وعلى عكسه فإن ما يجعل الفردية بمصالحها الذاتية مؤثرةً ليس دوافعها في المصلحة الذاتية، وإنما النظام الدقيق من النشاطات التي تشجع وتقوي وتقدم أهمية دائمة لأفعال المصرفي. إن هذه الأفعال تنجح فحسب بوصفها جزءًا من النشاطات التي تعيد إنتاج نفسها بمرور الوقت، فحينما تريد أن تعمل يعني أن تريد عالمًا عمليًا يُمكن فيه إشباع هذه الأعمال، فمن دون عالم يستجب مع ذلك لن يوجد هذا الإشباع. لهذا يجب على المصرفي أن يملك عالمًا من المصلحة يُناظر مصلحته الذاتية، وإلا فإن أعماله ستكون وهمية مثل فارس الفضيلة. إن ما يفعله المصرفيون وفق ما يحاجج به هيجل هو إشباع وظيفة داخل نظام معقد يمنح أعمالهم وظيفة هامة.
إن الأفعال عناصر من النشاطات، وتمنح هذه النشاطات الأفعال الفردية معناها. من دون لعبة كرة السلة ستكون هناك كرات تطير من حولنا بلا هدف. قوانين اللعبة هي ما يمنح لفعل رمي الكرة في الشبكة معنى تسجيل الهدف فيما هذا التسجيل يقوم به المرء لأجل الفريق. يستطيع اللاعب النجم أن ينسى كل ذلك ويسعي إلى المجد الشخصي ومصلحته الذاتية الخاصة، لكن إذا نسي النجم فريقه أثناء هذه المجريات (مثل كوبي برايانت) فقد يصبح ثريًا على المدى القصير، لكن سيُهزم الفريق. وفقط أثناء أداءه لدوره في الفريق وأن تكون مصلحة لوس أنجيلس ليكرز هي مصلحة كوبي برايانت، حينها سينجح. وأعتقد أن فيل جاكسن في هذا التشبيه يلعب دور “المنظم”.
أظهرت سلسلة الأحداث التي قادت إلى مشارف السقوط الاقتصادي أن تجار ومصرفيي وول ستريت هم فرسان المصلحة الذاتية، و ككوبي برايانت سيئين. وظيفة وول ستريت هي توزيع رأس المال: فمهمة وول ستريت كما أرشدنا آدام سميث أن يذهب برأس المال إلى الوجهة التي تثمر على أحسن وجه في إنتاج السلع والخدمات. حين يحقق القطاع المالي وظيفته كما يجب فإن المصرفي الفرد ينجح في وضع رأس مال المستثمرين في أعمال مربحة بمرور الزمن. للوقت أهميته هنا لأن ما يجب تسويقه هو قدرة النشاط على إعادة إنتاج نفسه. أرباح وول ستريت في هذا السيناريو المبسّط ترتبط بشدة مع الثروة الفائضة التي تنتجها القطاعات الناجحة.
تشير كل جوانب الأزمة الاقتصادية إلى سلسلة مريعة من البُنى التي تملك نفس الخاصية: الأفعال المدفوعة بالمصلحة الذاتية من قبل القطاعات المالية باتت تنفصل بوتيرة متزايدة عن وظيفتها في دعم وإنماء رأس المال. لهذا انبثقت مسارات للعمل تعكس ما يمكن وصفه بـ “طُرق العالَم” ولكن بمصطلحات مالية، وهي جوفاء مثل فارس الفضيلة وتقود إلى سقوط وشيك للنظام ككل. إنه نظامٌ من التعويضات يعطي مكافآت ضخمة مبنية على أرباح قصيرة الأجل، ويتجاهل بالضرورة مصالح طويلة الأجل للمستثمرين. هذا ما يفعله نظام يتجاهل الأحقية الائتمانية للمقترضين: فيسمح بالصرف على وكالات التصنيف الائتماني من قبل من يتلقون التقييم، ويشجعون خلق أدوات معقدة ومخادعة للغاية. في كل حالة من هذه الحالات تصبح الأعمال والأرباح للوكلاء الماليين مبتورة الصلة مع مصالح المستثمرين والحاجة إلى خلق الثروات للقطاع.
بصرف النظر عن حقيقة أننا نرى النشاطات الحالية وهي تهزم النظام ككل، فإن الوثيقة التي خرجت من الكونجرس لم تقترب من وضع حد لهذه النشاطات التي أجبرتهم على إيجاد عمليات الإنقاذ. كل هذه النشاطات ستبقى مغلفة بضوابط قشورية في مكان ما، كي تمنحها مظهر المشروعية.
ما ينبغي على تشريعات السوق أن تحظره هي النشاطات التي تربح بشكل روتيني من دون خلق الثروات: فخلق الثروة هو مصلحة العالَم، وهو ما يجعل المصلحة الذاتية للمصرفيين ممكنة. إن المحاججات المتعلقة بنظام السوق ونظام المصلحة الذاتية في أن يبقى مسموحًا لوول ستريت بالتنظيم الذاتي، تكشف فحسب أن وول ستريت كما سيقول هيجل “ببساطة لا يدرك ما الذي يقوم به”.
نعلم أن معظم الظروف المالية التي أدت نحو الأزمة الاقتصادية هي ذاتها ما وقع في كندا كما في الولايات المتحدة، مع وجود استثناء واحد فاضح: فكندا لم تنزع الضوابط عن بنوكها وقطاعها المالي، فتجنبت كندا نتيجة لذلك أسوأ ما في الأزمة الاقتصادية والتي لازالت تحاصر البنية التحتية للحياة الأمريكية. لا شيء مثل تنظيم حكومي ذكي وشرس يُمكن له أن يمنع أزمة اقتصادية أمريكية وشيكة في المستقبل، فالأمر هنا ليس “توازن” بين مصالح السوق الحرة في الإبداع في مقابل الحاجة للاستقرار؛ وليس مسألة صدام بين أيديولوجية السوق الحرة ضد أيديولوجية التحكم الحكومي، وليس حتى مجرد خيار بين النظرية الاقتصادية النيوليبرالية والنظرية الكينزية الجديدة. إنه عوضًا عن ذلك كما سيصر هيجل: التنظيم regulation هو قوة العقل الضرورية لفكّ تلفيقات الخيال.
الكاتب: أستاذ فلسفة متميز في نيوسكول للبحوث الاجتماعية ومؤلف خمس كتب. يعمل الآن على إكمال كتاب بعنوان “التعذيب والكرامة”.
المترجم: مؤلف ومترجم سعودي.
Hegel on Wall Street
J. M. Bernstein
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”