تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة “ترجم”، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة
١٤ سبتمبر ٢٠٢٠
فهمت، عندما ساعدت في إطعام هؤلاء النزلاء، كيف تجعلنا إنسانيتنا المشتركة “مسؤولين بلا حدود” تجاه الآخرين.
هيوستن ـ توفي الفيلسوف إيمانويل ليفيناس، منذ خمسة وعشرين عامًا، في باريس. وُلِد في ليتوانيا وجُنِّس في فرنسا. وكان يُشرف حتى قبل وقتٍ قصير من وفاته قرابة عيد ميلاده التسعين على قراءات أسبوعية في التوراة. كنت كثيرًا ما أفكر في عُمرِه هذا الربيع بينما كنت أعمل متطوعًا في دار لرعاية المسنين. إذ لم يكن ليفيناس فحسب في سن العديد من النزلاء الذين ساعدت في إطعامهم، ولكنه كان منخرطًا في نشاطٍ ما – وهو الوجود مع الآخرين – الذي حُرِم منه النزلاء منذ اندلاع الوباء في حياتهم. يقدّم ليفيناس، في كلٍ من شخصه ومبادئه، دليلاً للأزمات التي تهدد الآن دور رعاية المسنين.
تصادف أن يكون “Le visage” أو الوجه هو الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق التي اقترحها ليفيناس. وما يفهمه، في واقع الأمر، من كلمتي “وجه” و “أخلاق” ليس له علاقة تُذكَر باستخدامهما الشائع. إذ الوجه، من وجهة نظر ليفيناس ليس مجموع الأجزاء المادية – الأنف والعينين والأذنين والفم وما إلى ذلك – التي نقابل بها العالم. إنما الوجه، كما يؤطِّره ليفيناس، يحدد ما هو مختلف تمامًا عن تلك السمات المادية المُحدَّدة. وكما صرَّح في كتابه “الكلية واللاتناهي”، فإن الوجه هو الحضور العاري والحيّ للآخر.
فكر في الأمر بهذه الطريقة: الطريق السريع الذي أسلكه للعمل ليس بشكلٍ عام مكانًا للمعضلات الأخلاقية. أي أنه لا بد من الانتظار حتى أخرج من الطريق السريع، ثم أتوقف عند أول تقاطع، وأواجه مأزقًا أخلاقيًا عند النفق بسبب وجود المتسولين. “أواجه” Face: لا يوجد فعل يؤدي المهمة بشكلٍ أفضل من هذا الفعل، لا لشيء إلا لأنه هو أيضًا الاسم (أي الوجه face) الذي يلتقط ما هو على المحك حقًا. أبذل قصارى جهدي لتجنب هذه المواجهات. ألقي نظرة على المتسول وكأنني أنظر إلى الوجوه في طابور عرض المشتبه بهم. أحاول تقييم وضعهم، ومقارنة التماساتهم الموجودة على لافتاتهم بالملابس التي يرتدونها على أجسادهم أو التعبيرات الظاهرة على وجوههم.
كانت هناك، رغم ذلك، إنسانة، تتنقل في سيلٍ من حركة المرور، وتعمل ببطء بين صف السيارات. خداها شاحبان، وشعرها غير مغسول، وعيناها تحاولان أن تشخصان على عينيّ. إنها تريد أن تُرى. هل سأسمح لنفسي برؤيتها؟ أم سأسمح للاختناقات الحتمية من الأسئلة والتبريرات أن تأتي بيننا، قبل الابتعاد بالسيارة؟
قد يجادل ليفيناس، في هذه اللحظة، أن وجه المتسول الحقيقي قد كُشف لي. وجه “لا يمكن تجميعه” مثل الأحجية، في نوعٍ يسهل التعرف عليه. وجه لا أستطيع استعماره من خلال تخصيص هوية له. وجه يجردني من نفسي، ولو للحظة، ويدفعني أمام مسؤولياتي تجاه البشرية. إنه وجه، أخيرًا بتعبير ليفيناس – “déchire le sensible ” “يُجرّد ما هو محسوس ويكشف ما هو مُفارق”.
يمكننا التفكير فيه بطريقة أكثر إرباكًا. تخيل جماعة من الروس، الناجين من الحصار الألماني لستالينغراد، يشاهدون بغضبٍ متزايد صفًا من الجنود الألمان الأسرى ينقلون جثث من قبو مبنى. تخطو امرأة غاضبة من الحشود محدقةً في ضابطٍ مُحطَّم يحتضن جسدًا رخوًا لفتاةٍ صغيرة بين ذراعيه، وتقترب من الألماني وهي تحمل في يدها حجرًا، وبدلاً من أن تضرب الضابط، تدخل يدها فجأةً في جيبها، وتُخرِج قطعة خبز وتعطيها للضابط وتبتعد بسرعة.
يستشهد ليفيناس كثيرًا بهذا المشهد المأخوذ من رواية فاسيلي غروسمان “الحياة والقدر”، كمثالٍ على الكيفية التي يقلب بها “الوجه” حالتنا المعتادة. يشير ليفيناس إلى أن المرأة في تلك اللحظة “غير العادية” قد واجهت شخصًا لم يعد ضابطًا ألمانيًا، وهنا مرة أخرى، يُجرَّد المحسوس ويُكشَف عنه على أنه شيءٌ آخر: وجه يشكِّل كل الأخلاق التي نحتاجها من خلال “الكشف عن ضعف الدخيل وإنسانيتنا المشتركة”. إنها تُذهله بالخبز بدلاً من أن تضربه بالحجر، ليس بسبب مَن تكون، وإنما بسبب مَن يكون.
يعكس بشكلٍ حاسم هذا الموقف الأخلاقي، بخلاف الأخلاق المسيحية أو الكانْطية، علاقة غير متماثلة. إذ يجب أن نهتم بالآخرين ليس لأننا جميعًا متساوون، ولكن لأننا لسنا بمتساوين على الإطلاق. إنها ليست حالة “إنه ليس ثقيلاً، إنه أخي” بل “إنه ثقيل لأنه أكثر من أخي”. إننا ننتقل من الديكارتية “أنا أفكر، إذًا أنا موجود” إلى الليفيناسية “أنت موجود، إذًا فأنا موجود”. يستنتج ليفيناس أنه عند مواجهة الآخر أكون “أنا مسؤولٌ بلا حدود”.
مارس الضابط الألماني في أنقاض ستالينغراد، ما يسميه ليفيناس “السموّ” على المرأة الروسية. إن المرأة، من عجيب المفارقات هنا، تحتاج إلى الضابط أكثر مما يحتاجها لأن احتياجاته تنقذها من نفسها ومن عادتها في اختزال العالم في همومها.
كنت كثيرًا ما أتساءل، وأنا أدفع العربات المُحمَّلة بصواني العشاء في دار رعاية المسنين، ماذا سيتغير إذا استجبت بالطريقة التي كان ليفيناس يعتقد بأنه ينبغي علينا الاستجابة بها تجاه “السموّ” الذي يأسرني به النزلاء. إنه ليس مجرد سؤالٍ عابر، فحقيقة أنني كنت أقدم وجبات الطعام، قد عكست أزمة مستوطنة في دور رعاية المسنين في جميع أنحاء البلاد، ألا وهي أنه نادرًا ما كان الكثيرون يعتمدون على أشخاصٍ قليلين للغاية لفعل أشياءٍ كثيرة.
لقد خلقت مرافق الرعاية طويلة الأجل أقسى التناقضات منذ منتصف شهر مارس عندما أغلقت أبوابها أمام جميع الزوار. إن هذه الأماكن تضر بصحة سكانها العاطفية من أجل الدفاع عن صحتهم الجسدية. كان تخوّف المسؤولين مفهومًا في مواجهة الارتفاع المذهل في حالات الإصابة بفيروس كورونا (Covid-19) – إذ توفيّ منذ بداية الوباء حوالي 4000 من سكان دار رعاية المسنين في تكساس وأُصيب آلاف آخرون. وتحولت، بين عشيةٍ وضحاها، كلمة “زيارة” من معناها اليومي المتمثل في أن أحد أفراد العائلة قادم للزيارة، إلى معناها القديم الذي يعني “الغضب الإلهي الآتي”.
لكن نجاح هؤلاء المسؤولين في وقف انقضاض الوباء أوجد – على حد تعبير الدولة نفسها – “فشلًا في تطور” انتقال المرض بين النزلاء. كيف يمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك؟ لقد كافح زملائي في العمل، في دار رعاية المسنين التي كنت أعمل بها وكان بها نقص في عدد الموظفين، من أجل تلبية المطالب الأساسية للنزلاء: تنظيفهم وتغيير ملابسهم، ونقلهم وتحريكهم، وخدمتهم ودعمهم؛ و الأهم من ذلك: فهمهم. إذ كان يجب على النزلاء عند مغادرتهم لغرفهم أن يرتدوا الكمامات؛ فأصبحت أصواتهم الضعيفة بالفعل، مكتومة بشكلٍ أكبر.
ووجوههم مخفية جزئيًا. لكن في الغرفة، تلك الوجوه نفسها، التي تكشف تنوعًا لا متناهي من درجات الألوان والملمس والأشكال والأحجام، تذكرني أيضاً بمسؤولياتي. لكن كيف ألبيها؟ فقد كنت محاصرًا بين النزيل الذي كنت معه والذي كان يتناوب بين القضم والغناء، وبين مشهد كل الصواني التي لا يزال يتعين عليّ تسليمها. لقد صعقتني قاعدة ليفيناس بالمسؤولية اللامتناهية نحو الآخر باعتبارها غير عملية للغاية.
قد تكون القاعدة غير عملية لكنها لا تزال ذات صلة، رغم ذلك. وكما سيذكرنا ليفيناس، فإن الواجب تجاه الآخر لا ينطبق فحسب على العاملين في رعاية المسنين، ولكن أيضًا على مؤسسات الدولة والمؤسسات الفيدرالية. فهذه المؤسسات لديها نفس الواجب تجاه عمال النزل كالذي يقع على عاتق العمال تجاه النزلاء. ستساعد هذه السلطات، من خلال زيادة الدعم المالي لهذه المساكن – التي تعمل على هوامش ضئيلة للغاية – في تمكين هذه النُزل، من خلال زيادة عدد موظفيها وزيادة رواتبهم، للاعتراف بالسلطة الأخلاقية التي يتمتع بها النزلاء علينا جميعًا. إذا كان “المستقبل هو الآخر”، كما صرح ليفيناس، فسيكون عندئذٍ علينا جميعًا واجب تجاه أولئك الذين نرسلهم إلى الماضي.
الكاتب: روبرت زاريتسكي هو أستاذ في جامعة هيوستن ومؤلف الكتاب الأحدث ” كاثرين وديدرو: الإمبراطورة والفيلسوف ومصير غلاف التنوير”، والكتاب المرتقب ” The Subversive Simone Weil: A Life in Five Ideas ” (سيمون فايل المُدمِّرة: حياة في خمس أفكار).
المترجم: كاتب ومترجم سعودي.
Faces in a Nursing Home
Robert Zaretsky
“الآراء والأفكار الواردة في المجلة/المقال تمثل وجهة نظر المؤلف فقط”