ملخص:
الإنسان، كما يؤكد كانت في مقدمة نقد العقل المحض، لديه ميل ونزوع لمعرفة ما يتجاوز حدود عقله وهذا ما يجعله يتخبط في الدوغما حين يتحدث فيما لا يستطيع أن يعرف. موضوعات الميتافيزيقا لدى كانت كـ “الحرية والأبدية والله” ليست جزء من التجربة الإنسانية وبالتالي فإن العقل لا يستطيع أن يقول فيها قولا يقينا. العقل، عند كانت، بمقولاته القبلية فارغ بدون المادة التي تزوده بها الحواس وباعتبار أن الحواس لا يمكن أن تقدّم له شيئا في تلك الموضوعات الثلاث فإنه لن يقول فيها إلا قولا فارغا من المعرفة. الفراغ عادة يتم إخفاؤه بأغطية كثيفة من الدوغما. ليفيناس يتفق مع ما يقوله كانت ولكنه سيتعامل مع القضية بشكل مختلف تماما. في البداية يحتفظ ليفيناس بالقيمة الأساسية في الميتافيزيقا باعتبارها نزوع الإنسان لما يتجاوز حدوده. الميتافيزيقا بهذا المعنى اتصال بالخارج ومغادرة لحدود الذات. هذه النزعة هي ما يحرر الإنسان من عالمه المغلق ويفتح له آفاق الجديد. الميتافيزيقا بهذا المعنى نزوح للآخر ومغادرة للشبيه. لكن ليفيناس يختلف مع كانت في التالي: أولا يمكن الاتصال بموضوعات الميتافيزيقا خارج حدود المعرفة أو بدون غرض انتاج معرفة عنها. المعرفة عند ليفيناس ليست العلاقة الوحيدة مع الخارج. هناك علاقة مختلفة مع الخارج لا تسعى للتعرف عليه بل لضيافته والاستماع له والأنس به. هذه العلاقة لا تنتج دوغما باعتبار أنها لا تهدف إلى إنتاج معرفة أصلا. ثانيا: يعترض ليفيناس على كانت بأن ما هو ميتافيزيقي “أي مفارق للخبرة الإنسانية” ليس مجرد الأفكار الثلاث في أذهاننا بل إنه ذلك الآخر الماثل أمامي. وجه الآخر هو هذا الاخر المتجاوز لقدرتي على المعرفة. هنا يكتشف ليفيناس حدا إضافيا من حدود العقل وهو عدم قدرته على الاستحواذ على الآخرية باعتبار أن الآخرية هي ذلك الأفق الذي يولد مباشرة أمام كل معرفة جديدة ليذكرها بأن هناك دائما آخر. بهذا المعنى تكون الحرية والأبدية والله هنا في الجوار ويمكن الارتباط بها من خلال وجه الآخر. يسمى ليفيناس هذه العلاقة بالأخلاق وهي بالتالي هي الفلسفة الأولى باعتبار أنها الأساس الضروري لأي علاقة بالآخر. بدونها نحن في عالم مصمت بلا علاقات. هنا ليفيناس يعيد الاعتبار للميتافيزيقا ولكن بعد أن يحررها من مهمة إنتاج المعرفة ويحيلها إلى علاقة مع الآخرية. العلاقة مع الآخر هي في الأخير من يستحق وصف العلاقة لأن الاتصال بين طرفين بهدف استحواذ أحدهم على الآخر يعنى أننا أمام علاقة تتحرك باتجاه القضاء على ذاتها لأنها تسعى للتوحيد والاندماج. العلاقة المعرفية هي مثال على العلاقة المنتحرة. هذه العلاقة تنشأ بين الذات والمجهول، أي الآخر، ولكنها تسعى لتحويل ذلك المجهول إلى معلوم وبالتالي القضاء على آخريته واستحواذ الذات عليه. الميتافيزيقا بهذا المعنى لم تعد ما وراء الطبيعة كما رتبها أرسطو بل هي في قلب الطبيعة وفي كل تفاصيلها وكأن ليفيناس هنا يسعى لتحقيق هدفين في حركة واحدة أولا تحرير الفلسفة من الواحدية وهي النزعة التي تدفع باتجاهها الفلسفات الوضعية والمادية بما في ذلك تمظهراتها التقنية وتحققاتها في المدنية الحديثة وهي ذات الوقت يعيد الفلسفة لتكون واقعية من جديد ومتصلة بشكل مباشر بالحياة اليومية للإنسان بكل تفاصيها وبساطتها وتعقيداتها. الفلسفة هنا تكون حرّة وفي الجوار معا.
المحاضرة:
الإشكالية: في أول عبارة في مادة Metaphysics في موسوعة ستانفورد الفلسفية ورد التالي: “ليس من السهل أن نقول ما الميتافيزيقا”. هذا تعبير دقيق عن طبيعة هذا الموضوع. ولكن الاستنتاج غير الصحيح من هذه العبارة هو أن موضوع الميتافيزيقا صعب لأنه بعيد عن حياة الإنسان. الهدف الأول لهذه الورقة، في الحقيقة، هو الكشف عن طبيعة العلاقة الوثيقة بين الإنسان والميتافيزيقا من خلال الحوار مع فيلسوفين استثنائيين في هذا السياق: الأول إيمانويل كانت، ناقد العقل الأكبر خصوصا في نزوعه الميتافيزيقي والثاني إيمانويل ليفيناس، ناقد الأنطولوجيا الأكبر. بشكل عام يمكن القول أن موضوع الميتافيزيقا هو ما هو خارج الخبرة المباشرة عند الإنسان. هذا الموضوع يجمع بين حالتين ليس من السهل الجمع بينهما مما يخلق المفارقة المحركة لهذا البحث من أساسه: الميتافيزيقا بالضرورة خارج الخبرة المباشرة للإنسان ولكنها مؤثرة بشكل أساسي في هذه الخبرة. من المهم هنا أن نذكر بأن الأنطولوجيا تعني أحيانا “الميتافيزيقا العامة”[1]. بمعنى دراسة الوجود ومبادئه الأولى كما عند أرسطو مثلا. من البداية يمكننا القول: يشترك المشروعان، الكانتي والليفيناسي، في كونهما مشروعان نقديان للفلسفة كما تحققت تاريخيا. والذي يهمنا أكثر هنا هو أن الموقف من الميتافيزيقا لدى كل منهما يعتبر حجر أساس في ذلك النقد.
كانت: في البداية يأتي كانت بمهمة المصلح للفلسفة في عصره. الفلسفة التي وصلت إلى طريقين مسدودين في نظره: الطريق المثالي والطريق التجريبي. الانسداد يكمن، بحسب كانت، أن الاتجاهين يشتركان في فرضية واحدة مؤسسة: وهي وجود واقع مستقل: واقع فكري مستقل عن الفرد في الحالة المثالية وواقع مادي مستقل عن الفرد في الحالة التجريبية. هذه الفرضية تحديدا هي الفرضية التي تسببت في انحراف الفلسفة وقوعها في الدوغما. هذه الفرضية تحديدا هي ما يسميها كانت بفرضية الميتافيزيقا الأصلية: ادعاء معرفة عن الواقع الخارجي مستقلة عن التجربة الذاتية. هذه المعرفة تنتمي تحديدا لما يسميه كانت بالمعرفة القبلية التركيبية وهي مستحيلة عند كانت إلا في عالم الرياضيات والهندسة أما في عالم الواقع فهي مستحيلة. هذه الأطروحة تحتاج إلى تفصيل أكبر لتتضح الصورة. لنعود أولا إلى طبيعة التفكير المنطقي عند الإنسان والتي يمكن تلخيصها في طريقتين أساسيتين: الاستنباط والاستقراء. الاستنباط ينتج معرفة قبلية والاستقراء ينتج معرفة إمبيريقية. المعرفة القبلية هي المعرفة التي لا تعتمد على الحس مثل الرياضيات وهي ضرورية وعالمية. في المقابل المعرفة الإمبيريقية تعتمد على الخبرة الحسية وبطبيعتها جزئية ومشروطة. طبيعة الأحكام في المنطق الاستنباطي طبيعة تحليلية حيث تتضمن المقدمات النتائج. وبالتالي فالحكم التحليلي لا يقول شيء جديد أو لا يعطينا معلومة جديدة عن العالم لم تكن متضمنة في المقدمات. فحينما نقول أن كل إنسان يموت وأن سقراط إنسان ونستنتج أن سقراط سيموت فإن النتيجة مضمرة في المقدمات. إذن الأحكام التحليلية لا تعطينا معرفة جديدة عن العالم مستقلة عن أفكارنا وإن كانت تعطينا معرفة قبلية: ضرورية وشاملة. في المقابل فإن المعرفة الإمبيريقية تعتمد على الأحكام التركيبية فحين نقول أن المعدن يتمدد بالحرارة من خلال الملاحظة التجريبية فإننا نقدم حكما تركيبا يقدم معرفة جديدة عن العالم ولكنها معرفة غير قبلية وبالتالي غير شاملة وغير ضرورية. بإمكاننا تصوّر معدن لا يتمدد بالحرارة. إذن الأحكام التركيبية لا تعطينا معرفة قبلية: ضرورية وشاملة وإن كانت تعطينا معرفة جديدة عن الواقع خارج الإنسان. مشكلة الميتافيزيقا أنها تتطلب الحكمين: فهي من جهة تتطلب معرفة قبلية لا تعتمد على الحس: ضرورية وشاملة ومن جهة أخرى تتطلب معرفة عن ماهو في العالم الخارجي. أي أنها تتطلب أحكام قبلية تركيبية. الميتافيزيقا كما تحققت تاريخيا وبالتالي كما أصبحت بالتعريف كمقولات الله والخلود والعلة الأولى والنفس تقول أمرين أساسيين: الأول: أن هذه المقولات قبلية: أي أنها لم تستنتج من الخبرة الحسية المباشرة، وثانيا: أنها تؤكد وجود شيء خارج الإنسان. لذا يسأل كانت في كتابه نقد العقل المحض: بشكل عام: هل الأحكام القبلية التركيبية ممكنة؟ ومن ثمّ يقسّم السؤال إلى ثلاثة أسئلة: هل الأحكام القبلية التركيبية في الرياضيات ممكنة؟ هل الأحكام القبلية التركيبية في العلوم الطبيعية ممكنة؟ وهل الأحكام القبلية التركيبية في الميتافيزيقا ممكنة؟ السؤال الثالث هو ما يهمنا هنا وإجابة كانت عليه كانت سلبية. الأحكام القبلية التركيبية في الميتافيزيقا غير ممكنة وبالتالي فإن المعرفة الميتافيزيقية مستحيلة.
ولكننا سنرى الباب الخلفي الذي ستدخل معه الميتافيزيقا بعد أن خرجت من الباب الأمامي. ما يقوله كانت هنا عن استحالة الميتافيزيقا هو التالي: ” لا يمكن للعقل الإنساني تقديم معرفة يقينية عن القضايا الميتافيزيقية: كالروح والعالم والله والحرية والخلود”. ولكن هناك في العقل الإنساني ارتباط عجيب بالميتافيزيقا يعبّر عنه كانت بالتالي ” العقل الإنساني يواجه مصيرا غريبا ذلك أنه مثقل بأسئلة لا يستطيع تجاهلها، باعتبار أنها معطاة له كمشاكل من طبيعة العقل ذاته، ولكنه لا يستطيع الإجابة عليها باعتبار أنها مفارقة لقدرة العقل الإنساني”. السؤال الجوهري هنا هو: لماذا لا يستطيع العقل الإنساني تجاهل الأسئلة الميتافيزيقية؟ هذا السؤال هو نقطة التقاء وافتراق كانت وليفيناس. دعونا نعود لجواب كانت أولا. يحاجج كانت أن العقل الإنسان مدفوع بطبيعته بنزعة ميتافيزيقية تسعى إلى البحث عن ما يسميه الشرط اللامشروط unconditioned condition وهو تعبير أحدث للتعبير القديم: العلّة الأولى. الشرط اللامشروط هذا يسعى لتحقيق غايتين: الأولى، نظرية تعطي العقل روح التوحيد بين الأفكار وجعلها تتحرك في سياق واحد بفعل واحديته كما تعطي العقل روح البحث عن أسباب أعمق باستمرار بفعل جذريته. الثانية نزعة عملية “أخلاقية” تسعى لتأمين خلود الروح والحرية وهي ما ستكون مهمة في ربط الأخلاق بالسعادة في آخر كتاب نقد العقل العملي. كانت ليس لديه اعتراض على هذه الغايات بل يعتقد أنها مهمة جدا لعمل العقل الإنساني ولكنه يريد التفريق بين دورين أساسيين لهذه النزعة: أولا: الدور التأسيسي وهو الدور الذي يعمل على تأسيس معرفة. ثانيا: الدور التنظيمي وهو الدور الذي يسعى لتنظيم عمل العقل وتوجيهه. يرفض كانت الدور الأول ويقبل الدور الثاني. الأسئلة الميتافيزيقية يفترض أن تنظّم عمل العقل باتجاه المعرفة توحيد الأفكار وتأسيسها ولكنها يجب أن لا تقفز فوق قدرتها وتدعي تقديم معرفة عن العالم الخارجي. خطأ العقل الأكبر في الميتافيزيقا يتمثّل في استنتاج المطلق غير المشروط من المقدمات المشروطة. بهذا المعنى تكون موضوعات الميتافيزيقا “التقليدية” موضوعات للإيمان وليست موضوعات للمعرفة وهذا معنى مقولة كانت الشهيرة أنه يريد حدّ اللغة لإتاحة مساحة للإيمان. الإيمان هنا لا يتضمّن معرفة بقدر ما يتضمن تصديق له طاقة فكرية وعملية. هنا يأسس كانت مبدأ معرفي أساسي وهو الأفكار بلا حس خالية من المعرفة. والحس بلا أفكار أعمى. مشكلة الأطروحات الميتافيزيقية الأساسية تكمن في محاولتها استخدام الفاهمة بدون معلومات حسية أي أنها تريد تطبيق الأفكار والمبادئ الخاصة بالفاهمة بشكل مستقل عن شروط الحساسية.
بعد هذه المقدمة العامة عن إشكالية محاولة البحث عن معرفة يقينية عن الموضوعات الميتافيزيقية ينتقل كانت في قسم الجدل الترنسندالي لمناقشة الحجج الأساسية للأطروحات الميتافيزيقية الأساسية تحديدا محاججة وجود الروح كما تقدمها السيكولوجيا العقلانية ومحاججة وجود العالم كما تقدمها الكوسمولوجيا العقلانية و محاججة وجود الله كما تقدمها الثيولوجيا العقلانية. الروح في السيكولوجيا العقلانية تعني كائن ميتافيزيقي بسيط يمثّل وحدة الإنسان ويلمّ شتات هذا الكائن المفكّر. إنها “الأنا” التي يستنتجها ديكارت من كونه “يفكّر”. المشكلة هنا أن ديكارت يحاول أن يؤسس الروح قبليا من خلال تحليل نشاط التفكير. يمكن تلخيص نقد كانت كالتالي: أولا: صحيح أننا نميل طبيعيا في بحثنا عن أساس غير مشروط للفكر، إلا أن هذا لا يعني أننا نعكس أي موضوع معطى أو يمكن أن يعطى بديهيا. ثانيا: باعتبار أن الروح لا تتيح لنا بذاتها أي موضوع قابل للمعرفة فإن المحاججة لها وإن بدت مشروعة إلا أنها تتضمن ممارسات جدلية للعقل تسعى للتغلب على الخصوم أكثر من سعيها لإثبات أطروحتها. ثالثا: محاججات الروح يمكن تتبعها إلى خصائص معينة للعقل الإنساني لا يمكن إلغاؤها ولكن يمكن الحد منها ونقدها. باختصار لا يمكن استنتاج الروح القبلية من تلك الروح الإمبيريقية التي تفكّر.
المبحث الميتافيزيقي الثاني الذي يرفضه كانت هو مبحث الكوسمولوجيا العقلانية التي تحاجج بوجود عالم يعبّر عن مجموع كل التمظهرات التي تحدث في الزمان والمكان. هذه المحاججات تعاني مما يسميه كانت بالتناقض أو التضاد بحيث يستطيع العقل إثبات الشيء وضده في ذات الوقت. ما يعترض عليه كانت هنا ليس وجود عالم محسوس خارجي يمكن الوصول إليه بالحواس. الذي يعترض عليه هو ذلك الكيان الكلي الجامع لكل تلك العلاقات الحسية الجزئية. هذا الكيان لا يمكن الاتصال به حسيا لأن كل ما نستطيع الاتصال به حسيا لا يتعدى خبرات جزئية مشروطة. القفزة من تلك الخبرات الجزئية المشروطة إلى كائن أكبر كامل قفزة ميتافيزيقية لا يستطيع العقل امتلاك معرفة يقينية عنها. على خلاف الروح والله فإن العالم يتميز بأنه يحيل كذلك على مفهوم حسي متحقق في الزمان والمكان وهذا ما يجعل من الممكن الدفاع عنه بحجج متضادة بعضها ينطلق من الجانب الحسي والآخر ينطلق من الجانب الفكري المثالي. المشكلة أن المحاججات الفكرية المثالية التي تسعى لتأسيس “العالم” تغادر جانبه الحسي وبالتالي تغادر موضوعها الأساسي. في المقابل فإن المحاججات الإمبيريقية تواجه مصيرا مشابها باعتبارها تضطر بعد انطلاقاها من الاستقراء لتجارب محدودة ومشروطة إلى القفز في فضاء التعميم وادعاء وجود كيان كلي وغير مشروط تسميه العالم.
المبحث الثالث الذي يتضمن ادعاءا ميتافيزيقيا لا يستطيع العقل البرهان عليه هو مبحث الثيولوجيا العقلانية وأطروحتها الأساسية وجود الله. بحسب كانت فإن هذا المذهب مدعوم بشكل أساسي بدافع مثالي للحصول على “فكرة عن كائن فرد يتحدد بشكل كامل انطلاقا من فكرة”. أذا كانت السيكولوجيا العقلانية تستند على تجربة ذهنية لإثبات وجود الروح وإذا كانت الكوسمولوجيا العقلانية تعتمد على الخبرات الحسية لإثبات وجود العالم فإن الثيولوجيا العقلانية تنطلق من فكرة مجردة بالكامل. العقل المحض مدفوع بشكل طبيعي برغبة في البحث عن الكمال خلف الجزئيات والمشروطات. هذا الدافع يحرّك العقل باتجاه فكرة مثالية عن الاكتمال المطلق غير المشروط. المشكلة بحسب كانت هي الانتقال من فكرة الكمال اللامشروط إلى دعوى وجود كائن مكتمل ولا مشروط. العقل يبحث عن تفسير نهائي لكل هذا التعدد والتنوع لكنه يقع في الخطأ حين يعتقد أن هذه الفكرة تحيل بالضرورة على كائن يمثلها. بعد ذلك يقدم كانت نقده المشهور للحجة الأنطولوجية التي تقول أن الله هو الكائن الكامل وأن الوجود من صفاة الكمال إذن الله موجود. يعترض كانت على هذه الحجة من خلال رفضه أن يتم التعامل مع الوجود كصفة/محمول وكذلك رفضه للمساواة بين الوجود الفكري والوجود الفعلي وهو ما حدث في هذه المحاججة.
كان هذا نقد كانت للمباحث الميتفايزيقية التقليدية في عصره والتي يجمعها الانتقال من الفرضية الفكرية إلى ادعاء الوجود الخارجي. إذا كان العقل عاجز عن تقديم معرفة يقينية عن هذه القضايا فإن الباب مفتوح لها كجزء من الإيمان لا المعرفة. الإيمان يتوافق مع الدور التنظيمي للعقل لأنه لا يعطي دعاوى تأسيسية ينبني عليها بناء متشعّب بدون أساس موثوق. الدافع الميتافيزيقي يبقى لدى كانت في حدود الإبيستمولوجيا والأغراض المعرفية. لنتذكر هنا أن كانت من أهم الفلسفة الذين أحدثوا ما يمكن تسميته بالمنعطف الإبيستمولوجي في الفلسفة. هذا المنعطف يعتبر خروج عن السياق الميتافيزيقي السابق في الفلسفة. في الحقبة الميتافيزيقية كانت المسلمات الميتافيزيقية تؤسس لكل شيء بما فيه المعرفة. هذا الأمر نجده بوضوح لدى أفلاطون وأرسطو وفلسفات العصور الوسيطة. مع المنعطف الإبيستمولوجي حدث العكس حيث أصبحت الإبيستمولوجيا هي المؤسس للميتافيزيقا. بحسب كانت فإن العقل يجب أن يؤسس للميتافيزيقا ولكنه لا يستطيع فعل ذلك لذا تبقى الميتافيزيقا بلا أساس. أي تبقى إيمانا لا علما ولا معرفة.
ليفيناس: في المقابل يعود ليفيناس بعد حوالي قرنين من محاولة كانت لذات السؤال معتمدا هنا على منهجه الفينومينولوجي. في كتابه “الشمولية واللاتناهي” يعود ليفيناس لوصف النزعة الميتافيزيقية. تلك النزعة التي أقرّ كانت بأنه لا يمكن تجاوزها. هذه النزعة ستأخذ مع ليفيناس مفهوم مختلف نسبيا بحيث تصبح رغبة desire بدلا من كونها حاجة عقلية. ننتقل الآن من الميتافيزيقا باعتبارها نزعة عقلية عند كانت إلى كونها رغبة تشمل العقلي وما قبله من ميول ومشاعر واتصال. هنا تكون الميتافيزيقا عند ليفيناس تلك الرغبة في ما يتجاوز واقعنا المباشر، أي الرغبة والاتصال بالمفارق. الرغبة عند ليفيناس لا يمكن اشباعها لذا فهي تختلف عن الحاجة. الحاجة لها موضوع محدد ويمكن إشباعها ولو لفترة معينة. الحاجة للطعام مثلا يمكن إشباعها من خلال الأكل. الحاجة المعرفية كذلك يمكن إشباعها من خلال الوصول إلى الجواب الذي تبحث عنه. في المقابل فإن الرغبة ليست إلا الانفتاح على ماهو آخر. كل ما اقتربت الرغبة من التحقق انفتحت لها أبواب جديدة. لذا يقول ليفيناس أن الميتافيزيقا هي الرغبة في اللامرئي، في الخفي. إنها حركة باتجاه اللاتناهي باعتبار أن كل ما هو مرئي يحيل على ما خلفه كما يحيل كل رقم على رقم بعده في عملية لا تنتهي. في مكان آخر يشبه ليفيناس الرغبة بالرغبة في الخير التي تزداد كلما فعلنا خيرا وليس العكس. إذن الميتافيزيقا وكما يتفق مع تعريفها تعبّر عن رغبة الانسان بما هو مفارق وخارج تجربته الشخصية وبالتعبير الليفيناسي لما هو آخر.
يتفق ليفيناس مع كانت في أن المحاولات الميتافيزيقية تفشل بالتأكيد ولكنه يضيف سببا آخر لهذا المصير. عند كانت لا يستطيع العقل تقديم معرفة يقينية في الميتافيزيقا باعتبار محدوديته في تقديم معرفة قبلية عن العالم الخارجي. يضيف ليفيناس سببا آخر وهو أن طبيعة الرغبة الميتافيزيقية ذاتها وبغض النظر عن محدودية العقل لا يمكن أن تنتج معرفة بسبب أنها لا تبحث عن ما يمكن أن يُدرك ويُدرج ضمن معارفنا بل عن ماهو مفارق وآخر. في بداية القسم الأول من كتاب الشمولية واللاتناهي وتحت عنوان “الميتافيزيقا والمفارق” يكتب ليفيناس أن “الحياة الحقيقية غائبة، ولكننا نعيش في العالم”. الخبرة المباشرة بالحياة بطبيعتها جزئية ومحدودة لذا فالحياة التي نعتبرها كاملة وتعبر عن الصورة الكبرى تبقى غائبة عن الاتصال المباشر بالحياة. الغياب هنا علاقة وهذا مهم جدا. الغياب لا يحيل على عدم ولكنه يحيل على علاقة حقيقية مع آخر لم يأتي بعد وربما لن يأتي. الغياب علاقة مع الانتظار ولذا فهو شكل من أشكال الأمل. الميتافيزيقا كما يؤكد ليفيناس تنشأ وتتحقق في هذه العلاقة تحديدا: العلاقة مع الغائب أو مسافة بلا قياس كما يعبّر ألان باديو. بهذا الاعتبار تكون الميتافيزيقا تعبير عن حرية الإنسان أي قدرته على تجاوز ما هو موجود إلى ما هو “هناك” “مختلف” و “آخر”. الميتافيزيقا هنا ليست معرفة بل أنها تجاوز للمعرفة. حتى أنه لا يمكن تسميتها حقيقة بإيمان إلا إذا كانت إيمان بأن هناك دائما ما هو آخر وما هو مفارق. إيمان بلا موضوع. ما تبحث عنه الرغبة الميتافيزيقية ليس ذلك الآخر أمامي، المنفصل عني. هذه الآخرية الجزئية يمكن امتلاكها والتهامها. لكن الميتافيزيقا تحث عن ما هو آخر بشكل مطلق، آخرية لا نهائية. كل اقتراب من تحقيق الرغبة الميتافيزيقية يعني ابتعاد عنها. إنها المسافة التي تتمدد باستمرار. يشبهها ليفيناس هنا بالخير الذي لا تشبعه الرغبة بقدر ما تعمّقه. الميتافيزيقا كما يعبّر ليفيناس تتغذى على جوعها.
قضية الحرية تكشف عن اختلاف مهم بين كانت وليفيناس في تعاملهم مع الميتافيزيقا. بالنسبة لكانت فالحرية دعوى ميتافيزيقية لا يمكن تقديم معرفة يقينية عنها لذا فهو يتعامل معها كافتراض ضروري في مجال العقل العلمي ولا يرى عليها إلا براهين سلبية كالصراع بين الرغبات والضمير الأخلاقي والذي لا يمكن أن يحدث بدون حرية. في المقابل فإن الحرية عند ليفيناس ليس كينونة تثبتها الميتافيزيقا أو بالأحرى ليست موضوعا للميتافيزيقا بل هي الشرط الضروري لأن تكون الميتافيزيقا ممكنة. بمعنى آخر فإن الكائن الحر هو الوحيد الذي يستطيع أن يتصل بالآخر: بالخفي والمجهول والمفارق. الرغبة في الاتصال بالمفارق هي الحرية ذاتها.
الميتافيزيقا التقليدية، على الأقل كما يراها كانت، تعمل في الحقيقية ضد نفسها. أي أنها من خلال سعيها من أجل تحقيق معرفة شمولية أو صورة انطولوجية شاملة للوجود فإنها تعمل ضد إمكانية الميتافيزيقا ذاتها والتي ليست سوى اتصال بما هو آخر وخارجي. الميتافيزيقا التقليدية تتحرك بمنطق السلّم الأخير كما عند فيتقنشتاين. أي أنها مدفوعة بالسعي لمعرفة ما هو مجهول تسعى لجعل كل شيء معلوما. أي أنها تبحث عن أن تكون مغامرتها هي المغامرة الأخيرة. الدافع الإبيستمولوجي خلف الميتافيزيقا يجعل من هذه النهاية محتومة. ذلك أن المعرفة وإن كانت مدفوعة بتتبع المجهول/الآخر إلا أنها تتبعه للقضاء عليه. أي من أجل تحويله إلى معلوم. وبعبارة ليفيناسية فإن البحث الإبيستمولوجية يسعى للقاء على آخرية موضوعاته من خلال نقلها من مجال الآخر المفارق الخارجي إلى مجال الذات المحايث الداخي. في المقابل فإن الميتافيزيقا باعتبارها علاقة مع المفارق فإنها مستعصية على الشمولية والاندماج. الميتافيزيقي منفصل بشكل مطلق عن الآخر هناك.
مع ليفيناس تعود الميتافيزيقا لتصبح قضية إنسانية/إنسانية. أي أن الميتافيزيقا لم تعد علاقة الانسان بالمثل العليا كما عند أفلاطون ولا الأسباب الأولى للوجود كما عند أرسطو ولا الشرط اللامشروط عند كانت، بل أنها وقبل كل شيء كامنة في علاقة الإنسان بالإنسان. الميتافيزيقا هنا تطلّ من خلال وجه الآخر الذي هو في الأخير انفتاح لا يمكن الاستحواذ عليه. هنا تكون الميتافيزيقا في العالم وليست فيه. فيه باعتبارها تلك النافذة على الخارج. نزوع الذات لما هو آخر. وليست في العالم باعتبارها مستعصية على التخلي عن آخريتها والاندماج في الخبرة المعلومة. الميتافيزيقا هنا أصبحت جزء من تفاصيل الحياة اليومية. جزء من اللغة والتواصل اليومي مع الآخرين. المفارق هنا يصبح في اتصال وانفصال مستمر مع المحايث. الداخل والخارج في اتصال وانفصال في ذات الوقت.
الدهشة: من التحليل السابق تبدو لي الرغبة الميتافيزيقية ليست شيئا آخر سوى الدهشة التي تكلّم عنها الفلاسفة قديما وجعلوها روح التفلسف. لكي تتضح العلاقة بين الميتافيزيقا والدهشة لا بد من الإشارة للتالي: الدهشة حالة من الانفتاح والتوق لما هو خارجي. لذا لا غرابة أن تترافق الدهشة مع تعبيرات جسدية منفتحة مثل العين المتسعة والفم الفاغر والأذن المترقّبة. المدهش لا بد أن يكون جديدا ومختلفا وآخرا. الأشياء المعتادة والمعلومة لا تدهشنا. المدهش بالضرورة آخر. الدهشة مغادرة لما نعرف لما لم نعرف بعد، لما هو خفي ومجهول وغائب. كذلك لا بد من التأكيد على أنه لا ينبغي دمج الدهشة بالآخر. الدهشة هي الاتصال بالآخر وليس هي الآخر ذاته. الدهشة علاقة مع ما هو غير معلوم ومفارق. الدهشة لا تقضي على آخرية الآخر بل هي تنقّل مستمر من آخرية إلى أخرى. كذلك لا بد من ملاحظة أن الدهشة ليست هي البحث العلمي ولا المعرفة بل هي الشرارة التي توقد كل ذلك. التعرّف على الشيء يقضي على الدهشة به. حالة الدهشة حالة مرتبكة، حالة من فقدان الاتزان والتشتت. الدهشة تجعل العالم الداخلي بكل ما فيه من خبرات ومعارف في حالة من السؤال والتعليق. لذا فالدهشة مضادة للاكتفاء الذاتي وهي حالة من الحركة في اتجاه غير معلوم. إنها ما قبل القرار والتحكّم. حالة من الانكشاف على الخارج تسبق محاولة السيطرة عليه من جديد. الدهشة كذلك حالة من البهجة والثقة واللعب مع العالم. الاندهاش يترافق مع حبور يتم التعبير عنه بملامح من السذاجة فهي حبور بما نتصل به دون أن نعرفه. الدهشة علاقة طرفها الأول الذات وطرفها الثاني هناك. نعلم بوجوده دون أن يتحوّل ذلك الوجود إلى كينونة. إنه موجود كآخر، آخر بشكل مطلق. الدهشة باعتبارها طمأنينة في العالم لا تتعارض مع كونها ارباك للداخل. طمأنينة الدهشة ليست طمأنينة الاستقرار والتحكّم والسيطرة والتمكّن بل طمأنينة العلاقة مع الخارج والخروج من الوحدة. هذه الطمأنينة تتوفق مع ارتباك الذات وانكشافها. هذا الارتباك ليس سوى تذكرة بأن الذات ليست منغلقة ولا تعيش وحيدة في العالم.
خاتمة: التحليل الأخير يفترض أن يعيد الميتافيزيقا لتكون هنا في الحياة اليومية، في العلاقات، في التواصل، في اللغة. إنها تلك الآخرية التي تفتح العالم باستمرار. لكن لا بد من التأكيد على أن الميتافيزيقا لا يمكن أن تكون جزء من هذا العالم. إنها مستعصية على أن تتحول إلى مثيل وشبيه. إنها تذكرة مستمرة بحدود الذات ولا تناهي الآخر. بهذا الشكل تكون الميتافيزيقا علاقة استسلام وسلبية وانصات. توقف عن التمدد ومحاولة السيطرة. الميتافيزيقا بهذا المعنى ضيافة.