يقول جورج باركلي George Berkeley في (مقال في مبادئ المعرفة الإنسانية) “هناك رأي شائع، وياللغرابة، بين الناس، وهو أن الأشياء المحسوسة توجد في استقلال عن العقل الذي يدركها”.
باركلي من أوائل الفلاسفة الذين جعلوا المذهب الواقعي مشكلاً فلسفياً عويصاً. وقد استأنف هيوم هذه الريبية الباركلية وأنكر حتى واقعية العقل. وهذا ما جعل كانط يشمّر عن ساعديه دفاعا عن الواقعية (واقعية العلم والأخلاق والقيم). يرى باركلي أن الشيء موجودٌ لأننا ندركه. أو (أن يوجد “س” يعني أن يكون مدرَكاً.)
إن من مقتضيات الحس المشترك أن نرفضَ فكرة باركلي، وأن نقرر، بشكل بدئي، أن الأشياء موجودة في استقلال عن العقل المدرِك لها. فلماذا يقول باركلي في العبارة أعلاة (هناك رأي شائع، وياللغرابة، بين الناس)؟! كأن باركلي، في قوله (ويا للغرابة) يقلب الحس المشترك رأساً على عقب!
كان جون لوك “يؤمن” بوجود واقع مستقل عن الحواس، ولكنه يظل مجرد إيمان، وليس برهاناً قوياً. وبعد باركلي وهيوم صار الموقف الواقعي ضعيفاً. وفي مقدمة الطبعة الثانية من نقد العقل المحض، يقول كانط “إنها لفضيحة للعقل البشري أن نقبل بوجود العالم الخارجي بناء على الإيمان فقط”.
لنعد لمفهوم الحس المشترك عند باركلي. يرى هذا الرجل أنه لأمر غريب أن يؤمن البشر بوجود عالم خارجي وهم في الحقيقة لا يرتبطون بهذا العالم إلا عن طريق قنوات الحس؛ أي إن العالم لا يقدم نفسه إلا في حالة واحدة: أن يكون مدرَكاً.
يعتبر جورج إدوارد مور (ج. إ. مور) من أعظم فلاسفة الواقعية في القرن العشرين. وقد بذل كل جهد لتفنيد الفكر المثالي الذي دشنه باركلي.
في كتابه (دراسات فلسفية) طرح برهانا بسيطا ولكنه قوي، بالنسبة لي. برهان من شأنه أن يقضي على تماسك المبدأ الباركلي (أن يوجد الشيء يعني أن يدرَك) وإن لم يقض تماما على الإشكالية … فلا تزال تطل برأسها حينا بعد حين، حتى إن فيزياء الكم وبعض النظريات العلمية الحديثة تكاد تصطف إلى جانب باركلي.
يهدف مور إلى العثور على شيء له نصيب من الوجود، ولكنه غير مدرَك. وهكذا يستطيع أن يقوض الباركلية. هذا الشيء هو ببساطة (الإدراك) نفسه! فالإدراك لا يدرِك نفسه، وهو مع ذلك موجود. إذن، لدينا شيء موجود وفي الوقت عينه غير مدرَك. فما الذي يمنع إذن من وجود أشياء أخرى موجودة وغير قابلة للإدراك؟!
يراهن مور، كما يفعل هوسرل المجايل له، على التمييز الضروري بين فعل التفكير ومضمونه، وأي خلط بينهما سيوقعنا في الباركلية مجددا. وهي مذهب مثالي متطرف (أنا-وحدي). باركلي لا يعزل الوجود عن الإدراك، وبالتالي فوجود العالم والآخرين مرتبط بإدراكي، فالموجود يقيناً هو الإدراك، ولكن مور يدخل على باركلي من هذا المدخل تحديدا، أي من الإدراك، وكما يقول المثل: من مأمنه يؤتى الحذر.